لا تتوقف التساؤلات بين المواطنين المصريين حول مستقبل عملتهم المحلية بعد القرارات الأخيرة التي اتخذتها لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي في ثاني اجتماعاتها هذا العام، والتي انتهت برفع أسعار الفائدة الرئيسية 200 نقطة أساس، مساء الخميس الماضي.
هذا القرار اعتبره البعض مؤشراً على أن تعويم الجنيه الرابع قادم لا محالة، وأن الحكومة تنتظر التوقيت المناسب لامتصاص صدمات انخفاض قيمته المتوقعة، وكذلك امتصاص الغضب الشعبي ضدها.
وأوضح مصدر مطلع بوزارة المالية لـ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية تنتهج سياسة تهيئة الرأي العام لقراراتها الاقتصادية التي تُقدم على اتخاذها.
وكشف أن الإعلام الموالي سيمهد لاحتمالات انخفاض جديد في قيمة الجنيه، لكن الخطة ستكون بعد أن تستفحل أزمة الدولار في السوق السوداء والتي تأخذ في الارتفاع يوماً تلو الآخر، بحيث يكون تدخلها كأسلوب إجرائي يساهم في الحد من الأزمة وتظهر كطرف مخلص من الأزمة.
وخفضت مصر سعر صرف الجنيه 3 مرات منذ مارس/آذار 2022، من متوسط 15.7 أمام الدولار الواحد، ليستقر حالياً عند 30.9 جنيه، فيما يصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى 36 جنيهاً، وهو ما يؤشر على أن التعويم الجديد قد يصل إلى 33 أو 34 جنيهاً في مقابل الدولار.
وتبقى المشكلة الأكبر كما يقول المصدر في أن توقعات مؤسسات اقتصادية وبنكية دولية لوصول سعر الجنيه إلى حاجز 40 جنيهاً خلال الأشهر المقبلة، وهو ما تظهره أيضاً أرقام العقود المستقبلية للجنيه والتي تتداول في الأسواق العالمية وتعكس توقعات المستثمرين تجاه الجنيه خلال الـ12 شهراً القادمة، حيث تسعير الجنيه عند مستوى 40 جنيهاً.
مصر تنتظر 15 مليار دولار قبل قرار التعويم
وقال مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" إن اجتماع لجنة السياسة النقدية شهدت نقاشاً حول الإقدام على خطوة تخفيض سعر الجنيه تزامناً مع زيادة نسبة الفائدة، لكن جرى التوافق على إرجاء الخطوة لحين توفير موارد دولارية كافية لتلبية الطلب على الدولار، والتحرك في اتجاهات عديدة يمكن من خلالها توفير ما يقرب من 15 مليار دولار تساهم في تخفيض الطلب على العملة الصعبة.
وأن التعويل خلال الفترة المقبلة لجمع هذا المبلغ سيكون على تنفيذ جزء من برنامج طروحات بيع الأصول الحكومية والاستفادة من الانتعاشة السياحية الحالية، وكذلك إيرادات قناة السويس إلى جانب الحصول على تمويلات من بعض دول الخليج.
وشدد على أن رؤية البنك المركزي قضت بأن تستمر سياساته في تحجيم الواردات، ما يسمح له بتكوين موارد دولارية كافية لتحقيق المزيد من الاستقرار في سعر الصرف.
وفي المقابل فإن هناك مشاورات مع صندوق النقد الدولي لتأخير وصول بعثته إلى القاهرة لإجراء المراجعة النصف سنوية قبل صرف الدفعة الثانية من القرض والتي تبلغ 347 مليون دولار، ومن المتوقع أن تتم عملية التعويم قبل بدء مراجعة الصندوق.
وأوضح أن الجهات المالية المصرية تقف بين كماشة الدخول في مشكلات جديدة ومتوقعة مع صندوق النقد الدولي نتيجة عدم الالتزام بتوصياته نحو الإصلاح الاقتصادي، أو الاستمرار السريع في سياسة تحرك سعر الصرف، وتحمل انعكاسات ذلك على التضخم الذي قفز إلى مستويات قياسية خاصة أن السوق السوداء ستظل ترتفع كلما ارتفع السعر الرسمي، وما لم تتوافر موارد دولارية كافية لتلبية الطلب على الدولار.
وتسعى مصر خلال الفترة الحالية لزيادة عائداتها الدولارية من خلال طرح مبادرات مثل سيارات المصريين في الخارج، وطرح حصص في الشركات الحكومية سواء في البورصة أو لمستثمر استراتيجي؛ من أجل سد الفجوة التمويلية التي يقدرها صندوق النقد الدولي بنحو 17 مليار دولار في الفترة المقبلة.
يستهدف برنامج الطروحات إتاحة أصول بقيمة 40 مليار دولار للشراكة مع القطاع الخاص (المحلي أو الأجنبي) خلال السنوات الأربع المقبلة، وتستهدف الحكومة المصرية رفع معدلات مشاركة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمارات إلى 65%.
توقعات بقرارات تعويم متتالية
ويصر البنك المركزي المصري على سياساته القديمة التي يحاول من خلالها تثبيت سعر الصرف، بحسب ما أكده خبير بالأسواق المالية لـ"عربي بوست"، مشيراً إلى أن السوق السوداء تضغط على المؤسسات المالية المصرية التي لا تستطيع مواجهتها حتى مع اتخاذ إجراءات أمنية ضد المضاربين في العملة لأن هناك ضغطاً على الدولار لا يمكن التحكم فيه، مادامت ظلت العملة الصعبة غير متوفرة في البنوك الحكومية.
ويشير إلى أن سعر السوق السوداء وصل إلى 36 جنيهاً، ومعنى ذلك أن البنك المركزي سيضطر لتعويم الجنيه، لكن يبقى التوقيت غير متوقع حتى الآن، وسيتم على الأغلب حينما يتوفر لدى البنك المركزي حصيلة دولارية لتلبية الطلب، وهو أمر لا يتحقق أيضاً في الوقت الحالي.
وبالتالي فإن ذلك يفتح الباب أمام عمليات تعويم متتالية، ولن يتم الاكتفاء بقرار واحد للسيطرة على السوق، وفي كل الأحوال فإن الاضطرابات ستبقى متوقعة في الأسواق خلال الفترة المقبلة.
ويلفت إلى أن خطة الحكومة لتحجيم الإيرادات من خلال رفع نسبة الفائدة كجزء من عوامل توفير الدولار لن تحقق أهدافها، والواقع يشير إلى أن زيادة الفائدة سيقود مباشرة إلى زيادة موازية في تكاليف الإنتاج.
ويعد سوء تقدير الحكومة المصرية التي ترى دائماً أن التضخم سببه أن المصريين لديهم أموال سائلة حاولت مراراً وتكراراً السيطرة عليها ووضعها في البنوك يجعلها تتخذ خطوات غير صحيحة لمجابهة الأزمة، لأن السبب الرئيسي للتضخم يتمثل في عدم وجود إنتاج في البلاد، والاعتماد على استيراد السلع من الخارج وتقديمها إلى الجمهور بأسعار مختلفة مع عدم وجود رقابة على الأسواق، وفقاً للمصدر ذاته.
ويشدد على أن البنك المركزي يتجه نحو التريث في اتخاذ قرار التعويم الجديد، ويرى أن الفترة الحالية تواجه ضغوطاً أقل في الطلب عليه وكذلك تراجع في عملية ارتفاع الأسعار مقابل زيادتها بمعدلات كبيرة خلال الأشهر الماضية التي شهدت ضغوطاً كبيرة على الجنيه مع فتح الاستيراد، وهو ما تسبب في الفجوة الكبيرة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء.
ويتوقع ارتفاعاً في قيمة الجنيه بالسوق الموازية إذا استمرت حالة تراجع الإقبال على الدولار، إلى جانب أن البنك المركزي ينتظر البدء في برنامج الطروحات الحكومية بداية من الشهر المقبل وتنفيذ الاستحواذات على الشركات الحكومية من خلال طرح شركات حكومية للمشاركة مع المستثمرين.
تباطؤ متوقع في تدفق الاستثمارات الأجنبية مع تأخر التعويم
لكن تلك الرؤية تشير إلى أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى مصر ستأخذ في التباطؤ أيضاً، ومادام هناك سعران للصرف فإن قدرة الحكومة على إنجاح خطة الطروحات وجذب الاستثمارات ستظل ضعيفة.
كما أن آراء العديد من المستثمرين الذين يدلون بآرائهم في الاقتصاد المصري يرون أنها لم تُقدم بعد على اتخاذ السياسات المناسبة التي تجذبهم إليها، وليس لديهم الثقة في أن تكون خطوات رفع الفائدة والتباطؤ في تطبيق السعر الحر للجنيه سيؤدي بالتبعية إلى تدفقات استثمارية.
وتعاني مصر من أزمة في توفير الدولار، ما أدى إلى موجات غير مسبوقة من التضخم، والذي وصل مستواه في فبراير/شباط الماضي إلى 40.3% مقارنة بـ31.2% في يناير/كانون الثاني الماضي.
انتخابات الرئاسة تضغط على البنك المركزي لحل أزمة العملة المحلية
ويشير أستاذ اقتصاد سياسي -رفض ذكر اسمه- إلى أن البنك المركزي يجد نفسه مرغماً على التعويم الجديد للجنيه، لكنه ينتظر وجود احتياطي نقدي يجعله قادراً على تمرير قراره من خلال بيع حصص من شركات الاتصالات وشركات المقاولات وشركتي صافي ووطنية التابعتين للجيش.
ويشير إلى أن المشكلة التي علمها من مصادر مقربة في البنك المركزي أن قرار التعويم لا يضمن بأي شكل عدم ارتفاع الأسعار بشكل جنوني. وفي الوقت ذاته هناك جهات سيادية تشدد على حتمية استقرار الأوضاع الاقتصادية قبل فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة المقرر عقدها بعد عام تقريباً.
ويوضح أن الحلول السريعة التي كان من الممكن أن ترتكن عليها الحكومة للإقدام على خطوة التعويم دون أن تتأثر الأسواق لم تعد متوفرة في الوقت الحالي، لأن قدرتها على الحصول على تمويلات غير مشروطة من دول الخليج تصل إلى 20 مليار دولار لحل أزمة الفجوة التمويلية تراجعت إلى حد كبير، وقد تحصل فقط على ثلاثة إلى خمسة مليارات على حد أقصى بعد زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السعودية مؤخراً.
ويشدد على أن البنك المركزي ليس لديه سوى الارتكان على الحلول البطيئة لتوفير العملة الصعبة، لكن جهات رسمية سوف تحرص على إنهاء أزمة العملة قبل موسم الانتخابات المقبل والتي تبدأ بالرئاسة ويعقبها البرلمان، مشيراً إلى أن الحكومة قد تتجه إلى تخفيض فاتورة الاستيراد والاستفادة من قرارها السابق بشراء 20 مليون طن من الذهب مع بداية العام الماضي، والاعتماد على القفزات الكبيرة في أسعاره.
ومؤخراً أصدر بنك مورجان ستانلي، وهو مؤسسة خدمات مالية واستثمارية تعد من أكبر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية، تقريراً حول واقع الاقتصاد المصري بعنوان "الاقتصاد بين المطرقة والسندان"، أكد فيه أن إجراءات السياسة النقدية بمفردها لن تخرج مصر من أزمة العملات الأجنبية.
وأشار إلى أنه للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وتحجيم ضبابية المشهد الاقتصادي في مصر هناك حاجة إلى إصلاحين هيكليين رئيسيين متلازمين، أولهما تسريع وتيرة تخارج الدولة من الأنشطة الاقتصادية، والثاني الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن بشكل دائم، وكلا الحلين ليس بالأمر السهل وهما عرضة لمخاطر التنفيذ.
السلع تستبق التعويم وتتجه للصعود
أوضح التقرير أن تحرير سعر صرف الجنيه وحده لن يكون حلاً سحرياً للتخفيف من أزمة الاقتصاد المصري، خاصة في ظل تفاقم معدلات تضخم مدفوعة بفقدان العملة المصرية نصف قيمتها تقريباً خلال الـ12 شهراً الأخيرة، مع ارتفاع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 92% خلال السنة المالية 2022، ومن المتوقع وصولها إلى 96.2% في 2023 ثم انخفاضها إلى 91.5% عام 2024)، ولكنه يجب أن يكون جزءاً من برنامج إصلاح هيكلي يتضمن خصخصة الأصول المملوكة للدولة.
واستبقت الأسواق السعر الجديد للجنيه قبل التعويم. ووفقاً لمصدر بالغرفة التجارية المصرية فإن السلع المتداولة حالياً في الأسواق تم تسعيرها وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق الموازية عند مستوى تراوح بين 40 إلى 50 جنيهاً، والأزمة تكمن في أنه حال أقدم البنك المركزي على تعويم جديد لم يقضِ على السوق السوداء فإن تسعير السلع قد يصل إلى 60 جنيهاً أو أكثر في حال وصل سعر الصرف في البنوك الرسمية إلى 40 جنيهاً.
وأشار إلى أن التجار لديهم قناعة بأن إجراءات الحكومة لن تحل الأزمة، وأن عدم حل المشكلات الاقتصادية بحزمة واحدة وتهيئة مناخ جاذب للاستثمار ومشجع للإنتاج سيقود لطول أمدها، وهو ما يجعلهم أكثر رغبة في تحصين أنفسهم من أية خسائر، موضحاً لـ"عربي بوست" أن الأجهزة الكهربائية وفي مقدمتها أجهزة المكيفات ارتفعت بنسبة وصلت إلى 30% على الرغم من عدم اتخاذ قرار التعويم بعد.
وبحسب تصريحات صادرة عن اتحاد منتجي الدواجن فإن أسعار الأعلاف شهدت ارتفاعات كبيرة خلال الأسبوعين الماضيين، لتعود إلى مستويات سجلتها منذ نحو شهر قبل انخفاضها الأخير، وأن سعر طن الصويا سجل نحو 36 ألف جنيه، مقابل 33 ألف جنيه، وارتفع سعر طن الذرة إلى 20 ألف جنيه للطن مقابل 16200 جنيه، وهي مكونات أساسية لصناعة أعلاف الدواجن.
ووصلت تكلفة طبق البيض إلى نحو 138 جنيهاً ويباع بنحو 92 جنيهاً، وهو ما يتسبب في خسائر فادحة للمربين، وأرجع الاتحاد الارتفاعات إلى البطء في حركة الإفراجات وقلة المعروض من الأعلاف وزيادة سعر الدولار في السوق السوداء، وهو ما دفع الموردين لرفع الأسعار.
سجلت أسعار الأرز هذه الأيام ارتفاعات جديدة، ووصل سعر طن الأرز الشعير عريض الحبة نحو 19300 جنيه، والرفيع 19 ألف جنيه، فيما وصل سعر الأرز الأبيض عريض الحبة، كسر 3%، حوالي 29 ألف جنيه للطن، و27 ألف جنيه لرفيع الحبة، كسر 5%، فيما تخطى 30 ألف جنيه في أسواق التجزئة، مقابل نحو 12 ألف جنيه للأرز الأبيض عريض الحبة في رمضان الماضي، وأرجع تجار الارتفاعات إلى زيادة الإقبال عليه إلى جانب تراجع المعروض، مع تداول معلومات حول قرب التعويم الرابع للجنيه.