تعاني الحكومة المصرية مشكلات جمة جراء عدم قدرتها على توفير الدولار اللازم لسد فجواتها التمويلية، وهو ما ينعكس سلباً على تراجع المؤشرات التي تشير لإمكانية الوفاء الدولة بالتزاماتها الدولية على مستوى سداد الديون المستحقة وفوائدها من جهة، وكذلك من جهة توفير احتياطي نقدي من المتوقع أن تكون له آثار سلبية على وضعية الاقتصاد المصري.
وتعددت الظواهر التي تشير إلى صعوبة توفير الجهات الحكومية المصرية العملة الصعبة اللازمة للاستيراد من الخارج، مع عودة أزمة البضائع المكدسة في الموانئ المصرية خلال الأسبوعين الماضيين، وإن كان ذلك بوتيرة أقل مما كانت عليه في الأشهر الأخيرة من العام 2022، إلى جانب تراجع قيمة الجنيه ووصوله في السوق السوداء إلى سعر 36 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، ويلامس حد 31 جنيهاً بالسعر الرسمي في البنوك الحكومية والخاصة.
وقدر صندوق النقد الدولي الفجوة التمويلية للاقتصاد المصري خلال الأربع سنوات القادمة بنحو 17 مليار دولار، وبحسب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحتاج البلاد إلى 100 مليار دولار على مدى 7 سنوات لسد الفجوة الاستيرادية والتي تصل إلى نحو 30 مليار دولار سنوياً.
كل هذا دفع الدولة لمحاولة ابتكار مبادرات وسبل جديدة لتوفير الدولار والعملة الصعبة.
سد الفجوة التمويلية عبر الحلول المبتكرة
قال مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" إن التوجه الرسمي في الفترة الحالية نحو ابتكار وسائل إضافية يمكن من خلالها الحصول على العملة الصعبة بشكل سريع، إلى جانب الاعتماد على العوائد الرئيسية أو المعروفة للدولار.
وتتمثل العوائد التقليدية والرئيسية للحصول على الدولار في مصر في كل من الصادرات وتحويلات العاملين بالخارج والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر وإيرادات قناة السويس. لكن هذه الإيرادات لن تساهم إلا في توفير ما يوازي ما قيمته 30% من إجمالي ما تحتاجه مصر من العملة الصعبة خلال العامين المقبلين.
وحققت مصر إيرادات سياحية بنحو 10.75 مليار دولار خلال العام المالي المنتهي في يونيو/حزيران 2022، مقارنة بـ 4.86 مليار بالعام السابق عليه، طبقاً لوزير السياحة والآثار أحمد عيسى.
فيما بلغت إيرادات قناة السويس في 2022 حوالي 7.9 مليار دولار، وسجلت الصادرات المصرية نمواً بنسبة 19.5% خلال العام 2022 لتسجل "مستويات غير مسبوقة" بقيمة 53.8 مليار دولار للصادرات السلعية والصناعية وكذلك الصادرات البترولية، بحسب إحصاءات وزارة التجارة.
وأوضح المصدر الحكومي الرفيع لــ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية أطلقت بالفعل عدة مبادرات خلال الأشهر الماضية، والتي ارتبطت ببيع بعض الأصول وإصدار الصكوك السيادية والإسلامية وكذلك جذب المستثمرين الأجانب، من خلال تسهيل الحصول على الجنسية، وتقديم مزيد من الضمانات المالية للاستثمار في العقارات المصرية وتصديرها للأجانب.
هذا بالإضافة إلى مبادرات شراء السيارات للمصريين في الخارج، ونهاية بالمشروعات المتوقع إتاحتها للمصريين في الخارج لضخ أموالهم فيها.
"من المتوقع أن تساهم هذه المبادرات في سد الفجوة التمويلية بقيمة تصل إلى 20%"، على حد قول المصدر الذي شدد على أن الحكومة تحاول بشتى الطرق جذب المستثمرين وتشجيع القطاع الخاص وزيادة حصيلة العوائد من التصدير للخارج، سواء كان ذلك بالنسبة لتصدير المنتجات النفطية أو غير النفطية إلى 100 مليار دولار خلال العام 2025.
40 مليار دولار منتظرة من بيع الأصول
وأوضح المصدر أن برنامج طروحات بيع أصول الدولة يمكن أن يوفر ما يقرب من 40 مليار دولار؛ وهو ما قد يحسن بيئة الاستثمار من ناحية، ويوفر عوائد دولارية لسد الفجوة التمويلية من ناحية أخرى.
وأشار إلى أن دخول المستثمرين الأجانب في البورصة المصرية وإحداث حالة من الرواج الاستثماري يشجع الحكومة على اتخاذ مزيد من الخطوات التي من شأنها ضمان المساواة في الحقوق الممنوحة لكافة المشروعات الاستثمارية، سواء التابعة لها أو المملوكة للقطاع الخاص أو التي استحوذ على قيمتها المستثمرون الأجانب.
وتعهدت الحكومة المصرية الشهر الماضي بطرح حصص في 32 شركة حتى نهاية مارس/آذار من العام المقبل. ومن المقرر أن تطرح الحصص الأولى بنهاية الشهر الجاري، بحسب ما صرح به رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في حين سيطرح نحو ربع هذه الشركات بنهاية يونيو/حزيران المقبل.
وتشمل عمليات البيع 18 قطاعاً ونشاطاً اقتصادياً، وتضم حصصاً في 3 بنوك بارزة هي بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربي الإفريقي الدولي، إلى جانب شركات تأمين وكهرباء وطاقة وفنادق وشركات صناعية وزراعية.
وأعلنت الحكومة المصرية بدء عملية طرح اثنتين من شركات الجيش للاستثمار في 15 مارس/آذار 2023، كما تخطط لطرح أربع شركات كبيرة أخرى. وبحسب بيان صادر عن الحكومة فإنه سيقدم المستشارون للمستثمرين المعلومات اللازمة حول شركتي "وطنية" لتوزيع الوقود و"صافي" لتعبئة المياه.
وقال البيان إن اللجنة المسؤولة عن إدراج الشركات التي تديرها الدولة ستعرض أيضاً أربع شركات "كبيرة" على المستثمرين من خلال بنوك الاستثمار الدولية، دون تسمية هذه الشركات.
وتعهدت دول خليجية بضخ استثمارات بمليارات الدولارات، من خلال شراء حصص في تلك الشركات المزمع طرحها من قبل صندوق مصر السيادي، لدعم الاقتصاد المصري وتخفيف الضغط على العملة المحلية التي تواجه ضغوطاً كبيرة.
خبراء يشككون
لكن خبيراً اقتصادياً مقرباً من الحكومة شكك في إمكانية الحصول على عائدات وراء بيع الأصول تصل إلى 40 مليار دولار أو نصف هذا المبلغ.
وأشار المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية منصبه، إلى أن عدم استقرار سوق سعر صرف الجنيه في مقابل الدولار يدفع الكثير من المستثمرين، وكذلك الحكومات التي تنوي الاستحواذ على النسب المطروحة من الأصول المصرية للبيع بالجنيه وليس العملة الصعبة، وهو ما حدث أخيراً مع أحد الصناديق السعودية التي كانت تنوي الاستحواذ على بنك المصرف المتحد.
وذكر المصدر لـ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية تستهدف تقييم أصولها بالدولار الأمريكي، وهو ما يدعم خططها لجذب العملة الصعبة وتحقيق أكبر قدر من المكاسب وراء عملية البيع. لكن في المقابل فإن الجهات الساعية للشراء لديها رغبة في أن تكون عملية تقييم الأصول بالجنيه المصري؛ حتى لا تتعرض لأي خسائر متوقعة جراء تراجع قيمة الجنيه.
وذهب المصدر ذاته لتأكيد أنه في حال نجحت الحكومة في تمرير رؤيتها للبيع، فإنها في المقابل ستكون أمام خسائر أخرى تنعكس سلباً على إجمالي الميزان التجاري؛ لأن عملية البيع يترتب عليها توقف للإيرادات التي يتم ضخها في الخزانة المصرية نتيجة لعوائد هذه المشروعات الناجحة، ولن تستطيع تعويض تلك الأموال في حالة بيع الأصول.
وهوى الجنيه بنحو 100% من قيمته خلال عام واحد، ومن المتوقع أن يفقد مزيداً من قيمته خلال الأيام المقبلة، وتشير تقديرات عدد من البنوك والمؤسسات الدولية لإمكانية فقدانه 10% أخرى، وهو ما يضع الحكومة المصرية أمام مأزق صعب في ظل حالة الاحتقان الداخلية جراء الارتفاعات المستمرة في أسعار السلع والخدمات.
من ناحية أخرى، فالحكومة مضطرة لأن تجاري هذا الانخفاض حتى تتمكن من تنفيذ رؤيتها لبيع الأصول وجذب الاستثمار.
ووضعت عدة بنوك توقعات سلبية لمستقبل الجنيه أمام المستثمرين المحتملين، وكان توقعها لمستقبل الجنيه على المدى القريب متشائماً، وخفضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، الشهر الماضي، تصنيف مصر من "بي2" (B2) إلى "بي3" (B3) مع نظرة مستقبلية مستقرة، لأول مرة منذ 10 سنوات، بسبب تخوفها من تراجع احتياطيات النقد الأجنبي في البلد.
طرح الصكوك خطط بديلة للأموال الساخنة
وأوضح مصدر حكومي آخر مطلع على الملف الاقتصادي أن الحكومة المصرية وضعت خططاً بديلة في مواجهة فشل عملية بيع الأصول وتحقيق العوائد التي تنتظرها، وذلك من خلال التوسع في طرح الصكوك الإسلامية السيادية، إلى جانب التشجيع على شراء العقارات الفارهة التي أشرفت على تشييدها في عدد من المدن الجديدة على رأسها العاصمة الإدارية ومدينة العلمين الجديدة.
وطرحت مصر لأول مرة في تاريخها، نهاية الشهر الماضي، صكوكاً إسلامية بقيمة 1.5 مليار دولار، بعائد 11%، لتمويل مشروعات استثمارية وتنموية مدرجة في الموازنة العامة. وبعد ساعات من عملية الطرح نجحت في جمع ما يقرب من 6 مليارات دولار، بما يعنى تغطية الاكتتاب بأكثر من أربع مرات.
وأشار المصدر إلى أن الصكوك تساعد في تغذية المؤسسات المالية بالعملة الصعبة، وإن كان ذلك بشكل مؤقت لحين التعامل مع المأزق الراهن والمتمثل في عدم توفير الدولار.
كما أن إقدام المستثمرين على شراء تلك الصكوك يعزز الثقة في الاقتصاد المصري؛ بما يؤكد يقين هؤلاء المستثمرين من قدرة الحكومة على سداد التزاماتها المالية.
وتعد فكرة الصكوك الإسلامية السيادية بديلاً أيضاً عن فشل الحكومة في جذب الأموال الساخنة مرة أخرى في أعقاب خروجها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وبحسب المصدر ذاته، فإنها تعد إحدى أدوات الدين الخارجي، ومن خلالها تتم عملية استثمار الأموال وتوزيع عوائدها وفقاً للشريعة الإسلامية.
الصكوك الإسلامية السيادية في مصر هي أوراق مالية حكومية، قابلة للتداول تصدر لمدة محددة، لا تزيد على ثلاثين عاماً، وتمثل حصصاً شائعة في حقوق منفعة الأصول، وتستخدم تلك الصكوك في تمويل المشروعات الاستثمارية والاقتصادية والتنموية المدرجة بخطة التنمية الاقتصادية.
الصكوك حل غير دائم
وقلل أحمد ثابت، المحلل الاقتصادي وخبير أسواق المال، في حديثه
لـ"عربي بوست" من إمكانية تحقيق عوائد إيجابية وراء الصكوك على المدى البعيد، طالما لم توفر البيئة المناخ الملائم لإنجاح الاستثمار المحلي وجذب المستثمرين الأجانب.
وأضاف أن بقاء سيطرتها على الجزء الأكبر من قطاعات الإنتاج الداخلية وغياب المساواة بين القطاعين الحكومي والخاص سيجعلها تدور بدائرة مفرغة، وإن تمكنت من جذب بضعة مليارات من العملة الصعبة هذا العام فإنها لن تستطيع توفيرها بالقدر ذاته العام القادم.
وشدد على أن غالبية الصادرات غير النفطية المصرية من نصيب الخضراوات والفاكهة؛ هو ما يشير إلى أن العملية الإنتاجية تجابه مشكلات عميقة لن تتطرق الحكومة لحلها.
وبالتالي فإن العجز التجاري بين الصادرات والواردات التي تصل قيمتها لأكثر من 100 مليار جنيه ستظل قائمة، وستدفع الحكومة نحو الاقتراض مجدداً وستجد صعوبات أكبر في إمكانية سدادها، على حد قول ثابت.
اللجوء للاقتراض مجدداً أحد الحلول السريعة
وأوضح المحلل الاقتصادي لـ"عربي بوست" أن الدولة المصرية أمام مأزق يصعب حله في الوقت الحالي؛ لأنها تحاول تخفيف الضغط على قيمة العملة من خلال إجراءات سريعة، لكنها لا تحقق المرجو منها.
من هنا يكون الحل في الاقتراض الذي يوفر سيولة مالية سريعة، لكنها في الوقت ذاته تكبل بأعباء أخرى وفوائد متصاعدة قد تجد نفسها ليست قادرة على سدها.
وأشار إلى أن اقتراح الحلول في هذا التوقيت يبقى صعباً للغاية، لكن يبقى الاهتمام بتشجيع مناخ الاستثمار وتطوير موارد السياحة أكثر السبل فعالية.
وارتفع حجم الدين الخارجي لمصر نحو 5 أضعاف تقريباً خلال العشرة أعوام الماضية، وطبقاً لبيانات البنك المركزي المصري، وجدول استحقاقات أقساط وفوائد الدين الخارجي على مصر، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن مصر ملزمة بسداد نحو 83.8 مليار دولار عن خدمة الدين الخارجي خلال الخمس سنوات المقبلة.
ويرى المصدر ذاته أن الحلول غير النمطية التي تبتكرها الحكومة بين الحين والآخر لا يمكن أن يتنبأ أحد بنتائجها على وجه التحديد، وليس هناك أرقام واضحة يمكن القياس على أساسها، وإذا أرادت الحكومة أن تضع خطة محكمة النتائج، فلن يكون أمامها سوى تشجيع الإنتاج المحلي والاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي في هذا الإطار، على أن توفر تنافسية مطلقة بين الجميع؛ بما يضاعف عوائد الاستثمار الحقيقي على مدار السنوات المقبلة.
ولا يعتبر المصدر ذاته الصكوك الإسلامية السيادية أو بيع الجنسية أو الاتجاه لتصدير العقارات، وكذلك التفكير في توظيف مدخرات العاملين في الخارج حلولاً فاعلة يمكن على أساسها بناء اقتصاد قوي، وأن قدرة الحكومة على تجاوز هذا المأزق يرتبط بقدرتها على توفير فرص عمل في الداخل للشباب، من خلال مشروعات الإنتاج المحلي.
استثمار أموال المغتربين وشركات الصرافة موارد إضافية للدولار
عادت فكرة تأسيس شركة لاستثمار أموال المصريين المغتربين إلى الواجهة، بعد إعلان وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج سها جندي، العمل على إنشاء شركة تعنى باستثمار فوائض مدخرات المصريين المقيمين بالخارج.
وتوقعت الوزيرة الانتهاء من تأسيس الشركة هذا العام، وإدراج أسهمها في البورصة المصرية، مشيرة إلى أن المصريين بالخارج بإمكانهم الاستثمار بشكل مباشر في الشركة أو من خلال شراء أسهم.
وتشير تقديرات حكومية إلى أن الطلب الأجنبي على شراء العقارات المصرية ارتفع بنسبة 10% اعتباراً من شهر ديسمبر/كانون الأول 2022 نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الجنيه، وسط توقعات بارتفاع حجم الطلب ومعدلات الإقبال على الوحدات العقارية، خاصة الفندقية مع بداية النصف الثاني من العام الجاري بنسبة تصل إلى 20%، بالتزامن مع دخول فصل الصيف التي تزيد فيها معدلات السياحة العربية.
ويتراوح متوسط سعر بيع الوحدات العقارية السياحية من 100 إلى 120 ألف دولار للوحدة، ويتراوح سعر الفيلات من 250 ألفاً إلى 400 ألف دولار للفيلا.
ويؤكد مصدر مصرفي بالبنك المركزي لـ"عربي بوست" أن شركات الصرافة المصرية تعد مورداً مهماً للنقد الأجنبي في مصر، وذلك مع زيادة حجم التعاملات بالدولار من جانب أكثر من عشرة ملايين وافد في البلاد.
وهو ما يجعل هناك حرصاً على أن تستمر تلك الشركات في أن تقدم خدمة تغيير الأموال في أسرع وقت ممكن وعلى مدار اليوم، إذ إن بعضها يستمر في العمل حتى التاسعة مساءً، وبلغت القيمة الإجمالية الخاصة بحصيلة التنازلات عن العملات الأجنبية منذ بداية العام وحتى الآن حوالي 23.7 مليار جنيه.
وأشار إلى أن الجانب الآخر الذي يشكل مورداً مهماً للعملة الصعبة في هذا التوقيت اتفاقيات التجارة والاستثمار التي أبرمتها الحكومة المصرية مع العديد من الحكومات والدول العربية والأجنبية، والتي من المتوقع أن تضع أموالاً في السوق المصري قد تصل إلى 7 مليارات دولار خلال هذا العام.