لم يعد خافياً على الأطراف اللبنانية والدولية حجم الهوة التي تتسع بين فرنسا والدول الشريكة لها في الملف اللبناني، وتحديداً المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وقطر، بسبب النشاط الفرنسي في لبنان المعاكس للاتفاق الحاصل في الاجتماع الخماسي الذي عقد في باريس يوم 6 فبراير/شباط الفائت.
هذا الشعور عزَّزته مواقف الأطراف السياسية الداعمة لوصول سليمان فرنجية رئيس تيار المردة وحليف النظام السوري، لسدة الرئاسة، وتحديداً الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، بناء على إشارات وصلت لتلك الأطراف من باريس حول إمكانية عقد مقايضة تشمل وصول فرنجية لرئاسة الجمهورية مقابل تكليف السفير اللبناني السابق نواف سلام لرئاسة الحكومة اللبنانية.
اجتماع باريس.. اجتماع عاصف
ذكر مصدر دبلوماسي عربي لـ"عربي بوست" أن السعودية وقطر والولايات المتحدة، تشعر أن فرنسا تقوم بمناورات بعيدة عن الاتفاق الذي جرى التصديق عليه في اجتماع باريس عبر محاولات جرت مع أطراف داخلية لإقناعها بانتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، مقابل وعود داخلية لبعض الأطراف والنواب بدعم مشاركتهم في الحكومات المقبلة إذا ما صوتوا لفرنجية للرئاسة.
وعليه، طلب الجانب السعودي اجتماعاً عاجلاً مع المسؤولين عن الملف اللبناني في فرنسا، حيث جرى ترتيب اجتماع منذ يومين ضم من الجانب الفرنسي المستشار الرئاسي باتريك دوريل ومدير المخابرات الخارجية برنار إيمييه، فيما شارك عن الجانب السعودي المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا والسفير السعودي في لبنان وليد البخاري.
وبحسب المصدر الدبلوماسي، فإن الاجتماع كان عاصفاً، وشهد خلافات عميقة بين طرحين متناقضين.
وتجلى الاختلاف في وجهات النظر بين الفرنسيين والسعوديين – بحسب المصدر – حول بقاء المسؤولين الفرنسيين على تمسكهم بخيار المقايضة وتبني ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية مقابل شخصية سنية تختارها الرياض لرئاسة الحكومة.
وأشار المصدر إلى أن الجانب السعودي أصر على رفض هذه المعادلة. وجاء رفض الجانب السعودي انطلاقاً من عدة نقاط.
أولاً أن فريق حزب الله وحلفاءه يمسك برئاسة مجلس النواب ويتحكم بإدارة البرلمان والجلسات والبنود وجدول أعمال المجلس، وعليه فإنه من المنطقي والطبيعي أن يكون على رأس البلاد رئيس بمواصفات استقلالية وإصلاحية وتحديداً كقائد الجيش جوزيف عون أو شخصيات أخرى مطروحة وتنطبق المواصفات عليها.
ثانياً، كون رئاسة المجلس النيابي مع فريق معين، فإنه من الطبيعي أن يحظى الفريق الآخر في البلاد والمعارض لحزب الله بناءً على حجمه وحضوره، على رئاسة الحكومة.
وأن يتمتع هذا الشخص بمواصفات تقنية ويلتزم جدول أعمال يجري التوافق عليه داخلياً وخارجياً باعتبار أن وصول أي شخصية لرئاسة الحكومة حليف لدول الخليج وعلى علاقة جيدة بالمجتمع الدولي "ليس منة لأحد عليه" ولا يجب الدخول بمبدأ التحاصص وتقسيم الغنائم.
ثالثاً، فإن وصول سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية يعني غلبة فريق حزب الله والنظام السوري على باقي الأطراف، وهذا الفريق هو المسؤول المباشر عن الأزمة والانهيار والعلاقات السيئة بين لبنان ومحيطيه العربي والغربي.
وشدد السعوديون خلال الاجتماع على ضرورة فصل الاتفاق السعودي -الإيراني والعلاقة بين الرياض ودمشق عن الملف اللبناني؛ لأن الرياض من الطبيعي لن تسمح للأسد بالعودة للعب دور جديد في لبنان.
وأن هذه المواقف لا تمثل الرياض فقط، بل هناك إجماع عربي وخليجي وتحديداً من قطر ومصر حيال هذه البنود.
تبرير فرنسي.. حزب الله يماطل
بالمقابل، يؤكد المصدر أن الجانب السعودي انزعج بشكل صريح من أن المقاربة الفرنسية عادت للمربع الأول التي طرحها حزب الله عن المقايضة.
فقد قدم المستشار الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل، مطالعة أثارت غضب الجانب السعودي، عبر الحديث عن أن السفيرة الفرنسية، وخلافاً للاتفاق الخماسي، قامت بجولة على القوى السياسية اللبنانية، ووصلت لقناعة أن حزب الله وحركة أمل حريصان على ترشيح فرنجية، وسيكون من الصعب إيجاد مخرج من المأزق دون منحهما هذا المسار، خاصة أن الحزب يماطل بانتظار تنازل سعودي يعكس تطور العلاقة بين إيران والسعودية.
وبحسب المصدر، فقد رفض السعوديون هذه القراءة، لأن لدى الرياض قراءة مختلفة، أهمها أن حزب الله لا يمتلك قدرة لتأمين أكثر من 50 صوتاً لفرنجية حتى اللحظة، وهو يلزمه جلسة قوامها 85 نائباً وتصويت 65 منهم لصالح مرشحه لضمان وصوله، وأنه إذا ما استمرت باريس في سياسة المناورة فإنها تدفع أطرافاً للذهاب نحو تأمين جلسة تؤدي لوصول فرنجية.
وشدد المصدر على أن الجانب السعودي شرح للفرنسيين أن وصول رئيس كفرنجية مع وجود نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، فهذا يعني محاصرة رئيس الحكومة، كما جرى سابقاً، إما رئاسياً من خلال مصادرة توقيع المراسيم من قبل الرئيس، أو من خلال إقفال البرلمان عبر بري.
وذكر المصدر أن الفرنسيين سعوا خلال الاجتماع لإقناع السعوديين أن فرنجية جاهز للتوقيع على أي ورقة ضمانات تطلبها السعودية، وأنه سيكون متعاوناً في ملفات وقف النشاط الخليجي المعارض وإقفال المنصات الإعلامية ووقف تهريب المخدرات والتفاهم مع حزب الله بشكل واضح على الهواجس الخليجية.
لكن الجانب السعودي رفض هذا الطرح انطلاقاً من أنه سمع هذا الكلام من ميشال عون في العام 2016 عقب وصوله لرئاسة الجمهورية، ولم يتحقق منه أي شيء.
مصالح فرنسا
هنا يشير المحلل السياسي اللبناني جوني منير إلى أنه إذا كان الهدف الفعلي للاجتماع الثنائي الفرنسي – السعودي في باريس استكشاف موقف سعودي جديد ومختلف بعد نجاح الصين في رعاية اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران، فإن النتيجة أظهرت بوضوح أنّ الرؤية السعودية حيال المسار الواجب اتخاذه لإعادة إنهاض لبنان لم تتغير، لا بل على العكس.
وأشار منير لـ"عربي بوست" إلى أن الاجتماع الذي حصل على وقع أعنف التظاهرات والاحتجاجات في الشوارع الفرنسية أوحى بأن إدارة الرئيس فرنسوا ماكرون باتت قلقة جداً حيال كيفية استعادة توازنها داخل خارطة القوى الفرنسية.
وأن الوفد السعودي الذي توجه إلى لقاء الوفد الفرنسي وصل بسرية تامة ومواكبة أمنية مشددة خشية التفلّت الذي يعمّ شوارع باريس.
وبحسب منير، يصبح السؤال الأول حول قدرة إدارة ماكرون على الانخراط في ملفات خارجية معقدة وشائكة ودقيقة كملف الأزمة اللبنانية بتعقيداتها الإقليمية، فيما الأزمة الداخلية عاصفة وتستوجِب التفرّغ لها كأولوية مطلقة.
واستنتاجاً، فإنّ من كان يتوقّع تبدلاً في الموقف السعودي، وجد أن الظروف الفرنسية الداخلية تُلزِم باريس بالانكفاء قليلاً.
بالمقابل، يعتقد الباحث السياسي ربيع دندشلي أن اللبنانيين حفظوا بشكل كبير كلام إيمانويل ماكرون حول محاسبة السلطة السياسية، وتقديم مبادرة كانت ستشكِّل منعطفاً على طريق تغيير سياسي كبير.
لكن سرعان ما تغيَّر الجو كلياً في اجتماعه مع المسؤولين السياسيين بعد انفجار مرفأ بيروت صيف العام 2020، حيث خفض السقف وتم التخلي عن بنود المبادرة السياسية التي طرحت للتغيير، وذلك عقب حصول الشركات الفرنسية على عقود في التنقيب عن النفط من خلال شركة "توتال" أو من خلال استحواذها على المرفأ عبر شركة CMA-CGM، وتركز الوجود الفرنسي على ضرورة المجيء بمن يضمن مصالح هذه الشركات.
وهذا المنطق لا يزال مستمراً في المقاربة الفرنسية الحالية لانتخاب رئيس للجمهورية.