أرغمت أزمة شح الدولار، التي تظهر تأثيراتها بقوة في مصر هذه الأيام، صاحب أحد مصانع الملابس الجاهزة بمدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية على إبرام تعاقده مع إحدى شركات توريد الملابس الأجنبية بالذهب، بعد أن فشل في توفير قيمة الصفقة التي تبلغ قيمتها نصف مليون دولار.
لكن هذا الرجل سيكون أمام مغامرة جديدة لتوصيل سبائك الذهب إلى الشركة في الخارج، وسيكون عليه التعامل مع بعض الجهات "غير القانونية" لتهريبه للخارج.
يروي صاحب الشركة قصة رحلته بحثاً عن الدولار قائلاً لـ"عربي بوست"، إن موعد تنفيذ الصفقة كان مقرراً في منتصف فبراير/شباط 2023، وعندما ذهب إلى أحد البنوك الحكومية الكبرى في مدينة العاشر من رمضان كان الرد هو ذاته: لا تتوفر سيولة مناسبة، ويمكنه تجميع مبلغ الصفقة خلال شهرين، بحيث يحصل من البنك على مبلغ 10 آلاف دولار يومياً، وهو ما يحدث عند توفير الدولار للشركات والمتعاملين يومياً بالعملة الصعبة.
لكن صاحب الشركة رفض العرض، واتجه إلى الفرع الرئيسي للبنك في القاهرة أملاً في إيجاد مخرج. لكن لقاءه بقيادات كبرى في البنك خلص إلى حقيقة مفادها أن هناك أزمة كبيرة في توفير الدولار، وأنه في الأشهر القادمة قد تصبح الأوضاع أكثر صعوبة.
وكانت النصيحة التي تلقّاها هي الذهاب إلى شركات الصرافة لتوفير حاجته من العملة الصعبة، وهو ما حدث بالفعل بعد أن كثّف اتصالاته مع عدد من أصحاب الشركات الذين وفروا له نصف المبلغ فقط خلال عشرة أيام، وفشل في استكمال باقي المبلغ.
سبائك الذهب بديل للدولار في التعاملات التجارية
وقال: "خلال الأيام الماضية كانت هناك صعوبة في الحصول على الدولار بالسوق السوداء بعد أن توقفت حركة البيع والشراء تقريباً، لكنها خلال اليومين الماضيين عادت عجلتها للدوران مرة أخرى. لكني توصلت لاتفاق مع أحد سماسرة الذهب الذي قدم لي نصيحته بإتمام الصفقة من خلال إرسال قيمتها سبائك ذهب، وهو ما وافقت عليه الشركة الموردة".
وأشار إلى أنه سيضع نفسه أمام مجازفة كبيرة، لأنه قد يخسر أمواله لدى الشركة التي دفعها كمقدم في حال عدم وصول السبائك إليها.
وتشهد سوق الصرف في مصر تحركات عديدة منذ مارس/آذار 2022 وحتى الآن. وتدخّل البنك المركزي المصري بإقرار زيادات كبيرة بأسعار صرف الدولار 4 مرات متتالية، كان آخرها في أول يناير/كانون الثاني الماضي. وخلال هذه الفترة، قفز سعر صرف الدولار من مستوى 15.74 جنيه إلى مستوى 30.83 جنيه في الوقت الحالي، في ظل توقعات بأن يواصل الهبوط خلال الأيام المقبلة بعد أن وصل سعر الدولار في السوق الموازية إلى 34 جنيهاً، الثلاثاء.
وافدة لبنانية تستغيث
من جهة أخرى، استغاثت نعيمة يوسف، وهي وافدة لبنانية يدرس أبناؤها بجامعة مصرية، مشيرة إلى أن أبناءها الذين يدرسون في كليات الهندسة والصيدلة مهددون بالحرمان من دخول امتحانات الدور الثاني، لأنها لم تدفع بعد قيمة القسط الثاني الذي تبلغ قيمته 6500 دولار، وفشلت في أن تحصل على دولار واحد من شركات الصرافة والبنوك الحكومية منذ بداية الفصل الدراسي الثاني الذي انطلق في 12 فبراير/شباط الماضي.
وتشير إلى أنها ذهبت إلى أكثر من 6 بنوك حكومية وخاصة في نطاق أحياء المهندسين والهرم والدقي ومدينة السادس من أكتوبر، وكذلك ترددت على عشرات من شركات الصرافة دون أن تتمكن من الحصول على الدولار على الرغم من أنها تمتلك المستند الذي يثبت دفع مصروفات أبنائها بالعملة الصعبة، وهو ما تشترطه الجامعة، والتي ترفض قبول المصروفات بالجنيه المصري.
وأضافت لـ"عربي بوست": "لا أدري ماذا أفعل! مستقبل أبنائي أضحى مهدداً، وذهبت إلى إدارة الجامعة للحصول على استثناء يتيح دفع المصروفات بالجنيه المصري". لكن إدارة الجامعة رفضت بحجة عدم قدرتها على مخالفة القوانين، على حد قولها. وفي المقابل فإن شركات الصرافة والبنوك تمتنع عن توفير الدولار.
"لم يعد لديّ سبيل للحصول على الدولار من السوق السوداء بعد أن تعاملت مع أحد الأشخاص خلال الفصل الدراسي الأول، لكن أجهزة الأمن ألقت القبض عليه قبل شهرين تقريباً ضمن حملاتها المشددة على ضبط تجار العملة"، تقول السيدة.
لا تعرف السيدة اللبنانية ماذا تفعل بالضبط وتخشى على مستقبل أبنائها الذين تهددهم الجامعة بالحرمان من دخول امتحانات الفصل الدراسي الثاني، التي من المقرر أن تنطلق بعد أقل من شهرين، وتتعجب من عدم قدرة الجهات المالية الحكومية والخاصة على توفير الدولار، وتقول إنها تسعى لأن تحصل عليه بأي ثمن حتى وإن وصلت قيمة الدولار في مقابل الجنيه إلى 40 جنيهاً، المهم ألا يشكل ذلك تهديداً على مستقبل أبنائها، فهي تفكر جدياً لتحويلهم إلى أية جامعات عربية أخرى لاستكمال دراستهم.
شركة ناشئة تلجأ للتخارج من السوق المصري
ولجأ صاحب إحدى الشركات الناشئة الذي اشترط عدم ذكر اسمه أو اسم الشركة، إلى تأسيس فرع جديد لشركته في المملكة العربية السعودية بعد أن فشل في توفير الدولار اللازم لدفع مصروفات الشركة التي تتعامل بالعملة الصعبة مع جهات عديدة بالخارج.
وأشار إلى أن فروق توفير العملة كانت ضمن تحديات عديدة تعرضت لها الشركة خلال الأشهر الماضية، إلى جانب الارتفاعات المستمرة في الضرائب المفروضة على الشركات.
وأضاف أن شركته تضررت بشكل كبير بعد أن فرضت البنوك المصرية سقفاً للسحب النقدي والمشتريات عبر بطاقات الخصم والائتمان المستخدمة في الخارج، في محاولة للحفاظ على العملة الأجنبية.
وذكر أنه اضطر لإصدار كروت بنكية للعديد من أفراد أسرته وللموظفين من أجل دفع التزامات الشركة بالخارج، إذ يتم توزيع تلك الالتزامات على بطاقات الموظفين والأقارب، لكنه واجه صعوبات ومتاعب عديدة وشعر بأنه مهدد بخسارة أمواله في أي لحظة، ولم يعد قادراً على العمل بشكل أكثر راحة في السوق.
ووصل سقف السحب النقدي في بعض البنوك من الخارج إلى 5 آلاف دولار، ثم خفضت البنوك حدود السحب والشراء باستخدام البطاقات في الخارج في ديسمبر/كانون الأول 2022، لتصل حدود السحب الشهري ببعض البنوك إلى 1500 دولار لكل عميل على جميع بطاقات الخصم والائتمان.
وقبل أيام أعلنت شركة (Tabby) الإماراتية لخدمات الشراء الآن والدفع لاحقاً، وقف عملياتها في مصر، بعد خمسة أشهر فقط من إطلاق خدماتها في البلاد، وبررت الشركة قرارها بأنه جاء استجابة لظروف الاقتصاد الكلي في مصر؛ من انخفاض قيمة العملة ومعدلات التضخم المرتفعة، وأعلنت عن اختيار الرياض مقراً لها.
البنوك الحكومية توقف فتح الاعتمادات المستندية
وخلال الأيام الماضية تحدث العديد من المصرفيين عن أن عدداً من البنوك الحكومية والخاصة توقفت عن فتح اعتمادات مستندية جديدة أو مستندات تحصيل للمستوردين، بسبب نقص الدولار، وهو ما يبرهن على أن الأزمة تأخذ طريقها في التصاعد، وأن مشكلات توفير السلع المستوردة من الخارج ستكون حاضرة، وعلى أقل تقدير فإن توفيرها سيكون بأسعار مضاعفة.
كانت الحكومة المصرية أفرجت عن بضائع بقيمة تتجاوز 15 مليار دولار منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي وحتى منتصف شهر فبراير/شباط 2023، بعد أن ازدحمت الموانئ بالبضائع التي تحتاج إلى اعتمادات دولارية من أجل الإفراج عنها، وهو ما يُتخوّف من تكراره في حالة عدم توافر الدولار للمستوردين.
ويشير خبير في أسواق المال المصرية إلى أن السوق السوداء ظهرت بقوة خلال الأسبوع الماضي منذ بداية شهر مارس/آذار الجاري، وأن القبضة الأمنية التي فرضتها الحكومة منذ يناير/كانون الثاني الماضي تراجعت بشكل كبير، وأضحت هناك تعاملات على نطاق أوسع في مناطق عديدة لكن أغلب العمليات تتم في إطار شراء الدولار، وفي حال البيع يكون بسعر مرتفع وصل إلى 37 جنيهاً.
ولفت إلى أن الإقبال الأكبر على الدولار يأتي من المستثمرين الذين فشلوا في توفيره من خلال البنوك، ويحاولون الحصول عليه ولو بأسعار مرتفعة لإتمام تعاقداتهم، وهو ما يمهد لأن يصل الدولار في السوق السوداء إلى 40 جنيهاً خلال هذا الشهر، مشيراً إلى أن التعامل بالدولار بين البنوك وبعضها تراجع أيضاً، ما يؤشر على أن الأزمة متفاقمة في تلك الأثناء لعدم قدرة الدولة على سد الفجوة التمويلية في سداد 17 مليار دولار خلال هذا العام.
غياب المساعدات والاستثمارات الخليجية
ولفت إلى أن اختفاء الدولار من الأسواق وتراجع قيمة الجنيه يرجع لأن دول الخليج لم تضح الاستثمارات التي تحدثت عنها عند حصول مصر على قرض صندوق النقد الدولي قبل بداية هذا العام، ويرى أن الاقتصاد المصري يمر بحالة من الهشاشة، وينتظر استقرار سوق صرف العملة الصعبة قبل ضخ مليارات الدولارات.
كما أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تخشى من السوق المصرية للأسباب ذاتها، ولم تستطع الحكومة جذب المستثمرين في ظل مشكلات عديدة يعانيها القطاع الخاص المصري.
وتوقع أن توفر الدولة المصرية قيمة 14 مليار دولار نتيجة طرح بعض الأصول للبيع إلى جانب الصكوك السيادية والإسلامية التي أعلنت عنها مؤخراً إلى جانب قيمة صندوق النقد، لكنها تبقى حلولاً مؤقتة وتبرهن على أن الاقتصاد المصري بعيد عن حالة التعافي، وهو ما يهدد باستمرار مشكلة تراجع العملة المحلية، وأن الوضع الراهن يختلف عن تعويم عام 2016.
وفي ذلك الحين قدمت دول الخليج مساعدات سخية لكنها الآن تنتظر استقرار الأوضاع قبل أن تضخ أموالها للاستثمار، كما أن مساعي الحكومة المصرية لإعادة الأموال الساخنة فشلت أيضاً متأثرة بهشاشة الاقتصاد وتذبذب قيمة العملة.
وتوقع بنك "كريدي سويس" السويسري أن يصل سعر الدولار مقابل الجنيه بشكل رسمي إلى 35 جنيهاً، وبحسب فهد إقبال رئيس قسم أبحاث منطقة الشرق الأوسط فإن إعلان برنامج صندوق النقد الدولي "جعلنا نشعر بتفاؤل كبير بشأن التوقعات الاقتصادية لمصر. لكن توقعاتنا تلاشت بسرعة بسبب عدم إحراز تقدم في تنفيذ المرونة المتعلقة بالجنيه المصرى وبيع الشركات المملوكة للدولة".
وأضاف في التقرير الصادر مؤخراً: "تفاقمت مخاوفنا عندما أبقى البنك المركزي أسعار الفائدة دون تغيير في فبراير/شباط الماضي في مواجهة التضخم المتسارع"، لافتاً إلى أن "الحكومة أعلنت مؤخراً عن خطط لبيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة، لكن التفاصيل لا تزال غير متوفرة، وسجل الأداء (المتعلق ببرنامج الطروحات) مخيب للآمال في السنوات الأخيرة، ويبقي التوقعات منخفضة للغاية".
هشاشة الاقتصاد المصري تسمح بعودة المضاربات على الدولار
ويؤكد خبير اقتصادي مصري أن توقعات البنوك العالمية لأسعار الجنيه في مقابل الدولار تعود لأن القاهرة يصعب أن تسد الفجوة التمويلية التي تصل إلى 17 مليار دولار بنهاية العام الحالي وفي ظل تأخر وصول القروض الخارجية والأموال الخليجية.
وتوقع أن تطول الأزمة الراهنة حتى تتبنى القاهرة إصلاحات اقتصادية حقيقية لا تقوم على الاقتراض من الخارج أو طرح صكوك ذات فوائد مرتفعة، وأن تتجه إلى زيادة مصادرها الدولارية من خلال الإنتاج، وأن تولي اهتماماً بتحويلات المصريين بالخارج وإيرادات قناة السويس وجذب السياحة.
وأشار إلى أن حالة السيولة الراهنة في بنية الاقتصاد المصري سمحت بعودة المضاربات على سعر الجنيه من جديد، وستجد الحكومة نفسها في دوامة لن تستطيع الخروج منها، في ظل اتجاه شركات الصرافة وتجار السوق السوداء لتخزينه لديها انتظاراً لجني مكاسب طائلة مع الانخفاض الموقع في قيمة الجنيه، وهو ما انعكس من خلال التراجعات الكبيرة التي حدثت مؤخراً في حصيلة التنازل عن العملة الصعبة لدى البنوك.
وكذلك الوضع بالنسبة لشركات الصرافة التي أضحت تتلقى الدولار من المواطنين في أضيق الحدود، وتعتمد بشكل أكبر على الوافدين إلى المحافظات المصرية من الخارج، والذين تأتي إليها التحويلات بالعملة الصعبة.
ويعد تجار الذهب ضمن أسباب زيادة الفجوة في أسعار الدولار بين البنوك والسوق السوداء، بسبب المضاربات على الذهب وإقبال عدد كبير من التجار لشراء العملة من السوق الموازية لاستيراد الذهب من الخارج، وتحميل فرق سعر العملة على العميل من خلال المغالاة في تسعير الذهب.
وتمر مصر -في خضم أزمة اقتصادية- بأسوأ أزمة للعملات الأجنبية منذ سنوات. فقد تم إقصاؤها عن أسواق رأس المال، وتم تخفيض تصنيفها إلى مرتبة المقترض غير المرغوب فيه، وسط ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية في أعقاب الوباء وحرب روسيا في أوكرانيا.
ومن بين المؤشرات على نقص العملة الأجنبية، ما طرحته مصر من سندات إسلامية سيادية الشهر الماضي، بمبلغ 1.5 مليار دولار، بفائدة هي الأعلى في العالم، إذ وصلت إلى 10.75%، وهي تقريباً ضعف ما طرحته مصر على شهادات دولارية في بنوكها منذ أشهر قليلة.