عبر 500 كم في جنوب تركيا، وهي المساحة التي ضربها الزلزال المُدمِّر، كانت مدينة أنطاكية هي الأكثر تأثراً ودماراً، كلّما دخلنا واحدةً من المدن التي ضربها الزلزال تبدّى لنا حجم الدّمار والرّكام أكبر وأفدح من التي قبلها، لكنّ أنطاكية كانت شيئاً آخر. فما إن تطأ قدماك "ركامها" حتّى تتعرَّف على الحقيقة المؤلمة: هذه مدينةٌ وقعت في مخالب الموت بشكلٍ كامل.
"تاج الشرق الجميل" الذي يقاوم الموت
على مشارف وصولنا لأنطاكية كانت الشوارع خالية إلّا من عمّال الإنقاذ الذين يحاولون التغلُّب على الموت، كان المشرف على عمليات الإنقاذ في هذا الموقع "فريق الإنقاذ العُماني"، ومساعديهم من جنوب إفريقيا.
"هذه كارثة لم أرَ لها مثيلاً، سيظهرُ حجمها بوضوح بعد انتشال جميع الجثث من تحت الأنقاض"، هكذا أخبرنا أحد عمال الإنقاذ العمانيين. بينما نتحدّث ارتفعت بعض الأصوات على بعد أمتارٍ منّا، يبدو أنّ عملية إنقاذ قد نجحت، تلهّف الجميع متّجهين بأنظارهم إلى مكان الصوت، لكن في النهاية كانت جثتان ملفوفتين في بطانية، لم يُعلِّق أحدٌ من عمّال الإنقاذ، يبدو أنّهم قد اعتادوا على خيبة الأمل، بدأوا في تطبيق البروتوكول الخاص بالتعامل مع الجثث، وانسحبنا نحن من الموقع المنكوب.
شوارع المدينة ليست سوى بيوت مهدَّمة، مساجد منهارة، والكثير من المباني المتصدِّعة والآيلة للسقوط، صحيح أنّها مشاهد متكررة في كلّ المُدن المنكوبة، لكنّ حجم الدمار في هذه المدينة فاق بكثير ما رأيناه في غيرها. انطلقنا عبر شارع أتاتورك الكبير في المدينة، وعلى طول الشارع الضخم كانت فقط بيوت مهدمة على الجانبين.
عندما وصلنا في المرة الأولى كانت أنطاكية القديمة محاطة بقوّات الجيش، ممنوع دخولها، فالمدينة ليست متاحةً إلّا للمساعدات وفقط، حاولنا أن ندخلها من مداخل أخرى، لكنّها كانت ممنوعة. بعد يومين وجدنا المدينة مفتوحة، فقد كانت المرحلة الأولى من عمليات الإنقاذ قد انتهت وبدأت عمليّة "انتشال الجثث".
رائحة الرُّكام الذي خيّم على نهر العاصي
عادةً لا يُمكنك المرور على أنطاكية دون أن تشاهد نهر العاصي، على جانبي النهر مئات البيوت المهدّمة التي كانت سابقاً تزيّن المدينة، وبدل امتلاء النهر بعشبة زنبقة الماء كما هو سابق عهده، فقد امتلأ عن آخره بغبار المباني المُهدّمة والرُّكام.
بين الرُّكام وصوت الجرّافات الذي لا يهدأ كان جالساً، عيناه زائغتان، ملأهما اليأس، بجانبه شعلة نار يستدفئ بها، لم نُطل الحديث، لكنّه كان جالساً أمام أطلال بيته، بلا ونيسٍ أو رفيق، سألناه عن سبب جلوسه هنا فأخبرنا أنّه يخشى على بيته من السرقة، ولذلك جاء ليحرسه.
كان "الحاج" قلقاً- فيما يبدو- على بعض الأغراض الثمينة، التي ربّما يستطيع استخراجها من بين الرُّكام. عائلته جميعاً بخير، صاروا بالمخيّمات، لكنّه عاد وحيداً لحراسة البيت، أو ما تبقّى من أطلاله.
"11 من أقاربي تحت هذا الرُّكام!"
على امتداد نفس الشارع، تجمّع بعض الناس بالإضافة إلى رجال الإنقاذ، لا محادثات هُنا، فقط صوتُ الجرّافات والانتظار، على بُعدٍ من التّجمُّع قابلنا رجلين سوريّين، بخجلٍ يتناسبُ مع حجم الكارثة سألناهما إن كانا من سكّان المدينة، كانا من سكّان مجموعة البنايات التي تعملُ فيها الجرّافات.
لم يستطيعا الاسترسال في الحديث، قال أحدهم "لديّ 11 من أقاربي تحت هذا الرُّكام. ماذا يُمكن أن أقول لكم!". بعد دقائق تعالت الأصوات قُرب الجرّافات، اقتربنا جميعاً من الصوت، لقد تم استخراج جثّتين، كانتا قد فارقتا الحياة.
بينما نتجوّل في شوارع المدينة، التي تبدّت كأنّها مشهد من مشاهد "نهاية العالم" التي تنتجها هوليوود، وسط ضجيج الجرّافات التي تحاول إنقاذ الناجين أو إخراج الجثث، لا أحد متفائل، لم نقابل أحداً في المدينة- فيما تبقّى منها- ينتظر أن تحدث المُعجزة ويخرج أحدٌ من ذويه حيّاً "نحنُ ننتظر فقط أن نتسلّم جثثهم"، قال أحدهم.
"تاجُ الشّرق الجميل" الذي هُدم مرّتين
حملت أنطاكية لقب "تاج الشرق الجميل"، وكانت مركزاً رئيسياً في منطقة الشام والأناضول عبر التاريخ، فيها بنى الصليبيّون أولى إماراتهم في الشرق المسلم، لأهميّتها الاستراتيجية، ودُمّرت لاحقاً بسبب هجمات المغول الهمجيّة، لكنّها صمدت أمام كلّ هذه المِحن.
في هذا الزلزال انضمّت أنطاكية لقائمة المُدن المنكوبة التي ستُبنى مرَّةً أخرى من النقطة "صفر"، وعلى أنقاض أنطاكية "السابقة" التي كانت موجودةً منذ عدّة أيّامٍ فقط، حتّى صباح الإثنين 6 فبراير/شباط، لكن هذه ليست المرّة الأولى التي تمرُّ بها أنطاكية بمثل هذه الكارثة.
في عام 526 ميلادية، أي قبل أكثر من 1500 عام، ضرب أنطاكية زلزالٌ مدمّر هدمها كاملةً، وخلّف وراءه 250 ألف قتيل، وفق أرقام تقريبية من بعض المؤرّخين.
سوِّيت المدينة بالأرض، ولكنّها بُنيت من جديد، ولم تفقد أَلقها ولا أهميّتها، أنطاكية الآن ستُبنى من جديد، مدينةً جديدة على أنقاض أنطاكية قبل 6 فبراير/شباط، كما بُنيت هي نفسها سابقاً على أنقاض نظيرتها قبل 15 قرناً، وربما ستتخذ حينها لقباً آخر ينضمُّ إلى ألقابها العديدة: المدينة التي قاومت الموت وقامت من الرماد.