لجأت شركات مصرية إلى الانخراط في أنشطة التهريب والتجارة غير المشروعة لإبقاء أعمالها قائمة، بسبب نقص العُملة الأجنبية والشروط المصرفية المشددة لتمويل الواردات، وفق ما نقله موقع Middle East Eye البريطاني، السبت 11 فبراير/شباط 2023، عن مصنعين وخبراء مصريين.
الموقع البريطاني أشار إلى أنه في الوقت الذي انتشرت فيه ممارسات التصدير الزائفة على ما يبدو، فإن البيانات التجارية الرسمية لمصر قد تكون مبالغاً فيها.
يأتي ذلك فيما جاءت السنة الماضية محمَّلة بالاضطرابات على الشركات المصرية التي تعتمد على استيراد المواد الخام والآلات لتصنيع السلع، فقد انخفض الجنيه المصري 3 مرات في مقابل الدولار الأمريكي منذ مارس/آذار، وفقد نصف قيمته، في حين زاد التصخم إلى 22% في ديسمبر/كانون الثاني.
إذ قال جمال، صاحب شركة مُصنعة للملابس والمنسوجات مقرها القاهرة، لموقع MEE، إن "التضخم وانخفاض قيمة العملة دفعا القوة الشرائية إلى التناقص بنسبة تزيد على 50% عما كانت عليه بداية العام الماضي. وقد بات استيراد المواد الخام أمراً صعباً ومكلِّفاً، أما استيراد الآلات فيكاد يكون من المستحيلات، حتى لو كان لديك المال".
الموقع البريطاني أوضح أن أزمة المصنعين المصريين تلوح في الأفق في فبراير/شباط 2022 بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد ارتفعت أسعار الطاقة وتعطلت سلاسل التوريد وسادت حالة من الاضطراب في الأسواق. وسحبَ المستثمرون الأجانب نحو 22 مليار دولار من سوق الديون (أذون الخزانة والسندات) في البلاد.
اضطرت مصر إلى تخفيض قيمة الجنيه في مارس/آذار لتلبية متطلبات صندوق النقد الدولي الذي لجأت إليه للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، من أجل الوفاء بالتزامات ديونها المتزايدة. غير أن هذه الخطوة زادت تكلفة الاستيراد على الشركات، لا سيما تلك الشركات التي لا تصل أرباحها من الصادرات بالعملة الأجنبية 50% أو أكثر من إجمالي إنتاجها.
وزادت الأعباء على الشركات في مايو/أيار، بعد أن فرض البنك المركزي المصري عليها استخدام خطابات الاعتماد المستندية (وثيقة صادرة عن البنك لضمان الدفع عند تسليم البضائع والخدمات)، بدلاً من التعامل مباشرة مع الموردين الدوليين. وفي الوقت نفسه، فرضت الحكومة مزيداً من القيود على المبالغ المسموح لمصارف العملات الأجنبية بتبادلها.
لا سبيل أمامنا سوى الوسائل غير القانونية
أدت هذه الإجراءات إلى حرمان المصنعين من العملة الأجنبية وصعوبة حصولهم على المواد الخام. فكان لهذا تأثير كبير في صناعة الملابس والمنسوجات المصرية، التي توظف نحو 1.5 مليون شخص.
ولإبقاء أعمالهم قائمة، اضطر المصنعون إلى اللجوء لوسائل ملتوية من أجل الحصول على مواد التصنيع والعملات الأجنبية. إذ يقول جمال: "كلما حاول المصنعون شراء احتياجاتهم بطريقة قانونية، تعذَّر عليهم إدخال البضائع إلى البلاد. ولذلك لجأ المشترون إلى صفحات الفيس بوك بحثاً عن تجار جملة يبيعونهم حاويات القماش، حيث تجري الكثير من صفقات تهريب الأقمشة ومستلزمات الغزل وغيرها".
واستعانت الشركات بوسائل معقدة للحصول على الدولار في حساباتها المصرفية، إذ تفرض اللوائح الحكومية أن تكون الودائع من صادرات مباشرة. وأوضح جمال ذلك بالقول: "إذا كان لديك 100 ألف دولار، على سبيل المثال، فلا يمكنك إيداعها في البنك، بل يجب تغيير وضعها إلى عائدات من الصادرات".
وفي سبيل ذلك، تلجأ الشركة المصنِّعة إلى تصدير حاوية من سلع منخفضة الجودة إلى صديق لديه شركة في بلد آخر، مثل دبي. ثم يحوِّل المصنِّع المصري المبلغَ المراد إعادته بالدولار إلى "شريكه في الجريمة"، على حد تعبير جمال، من خلال تاجر صرافة في السوق السوداء في القاهرة. و"بعد إرسال الشحنة والأموال، تُصدِر الفاتورة ويُودع (شريكك في الجريمة) الأموال في حسابه، ويحوِّلها إليك في مصر، فيكون لديك المال لدفع ثمن الواردات".
وقال جمال إن الشركات تصدِّر حقاً منتجاتها إلى العملاء، لكنها تُبالغ في قيمة الفاتورة بموافقة المشتري. و"هذا يتطلب إرسال مبلغ كبير للعميل لتغطية فرق السعر، لكن ليس لدينا سبيل سوى هذه الطرق غير القانونية لإبقاء تجارتنا قائمة".
جميع أنواع الحيل
في دوائر جرائم المالية، تحمل هذه الممارسة اسم "غسل الأموال القائم على التجارة" (TBML)، وتُعرِّفها "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" (هيئة يقع مقرها في باريس وتتولى مراقبة الضوابط الدولية لمنع غسل الأموال)، بأنها "عملية تمويه العائدات من الجرائم ونقلها باستخدام المعاملات التجارية لإضفاء الشرعية على أصولها غير المشروعة. ومن الناحية العملية، يمكن بلوغ ذلك عن طريق تحريف سعر الواردات والصادرات أو كميتها أو جودتها".
وعلى الرغم من أن المصنعين المصريين لا يستخدمون غسل الأموال القائمة على التجارة لإضفاء الشرعية على عائدات من جرائم (فهي أموالهم وليست أرباحاً غير مشروعة)، فإنهم يستخدمون طرقاً غير قانونية بموجب القانون المصري لجلب الأموال إلى النظام المالي للبلاد.
إلى ذلك، قال محلل اقتصاد سياسي مقيم في القاهرة، طلب عدم ذكر اسمه: "كثير من الناس يفعلون ذلك في السوق السوداء، حيث تجري كل الحيل الممكنة، والجميع يعرف ذلك. فيمكنك أن تدفع لتجار الصرف الأجنبي في مقابل ما تريد، لكن بعائد أعلى. وهناك حوافز مالية كبيرة لفعل ذلك، وما دام الأمر يسهل فعله ولو بطرق فاسدة، فإن الناس سيلجأون لذلك بدلاً من إغلاق أعمالهم".
ومع ذلك، فإن التكاليف المالية للحصول على الدولارات بهذه الطرق الملتوية تلقي بظلالها على عمل الشركات. فيقول جمال إن "هذه التحويلات تحتاج إلى مقدار كبير من رأس المال العامل. فأنت إذا كان لديك رأس مال بقيمة (س)، فيجب عليك زيادته بمقدار 1.5 أو 1.8 مرة لكي تتمكن من نقله خارج البلاد، ثم إعادته، فيما تخسر بعضاً منه على البضائع المرسلة، وسعر السوق السوداء لتحويل الجنيه المصري إلى الدولار، وأثناء التحويل"، كما "يتعين عليك الانتظار حتى تصدير البضائع، وإتمام عملية التحويل".
ولفت جمال إلى أن السبيل الوحيد المتاح غير ذلك أمام الشركات المصرية هو الحصول على قرض بنكي، ولكن بفوائد تتراوح بين 18% و20%، و"العائد لا يستحق هذه المخاطرة"، لا سيما أن "الأسعار زادت زيادة هائلة بعد آخر تخفيض لقيمة العملة".
الواقع قائم لكن لا أحد يتحدث عنه
تُفضي عمليات التهريب والتلاعب التجاري إلى تحريف الأرقام الحقيقية للاستيراد والتصدير في مصر، حيث يذهب جمال إلى أن نحو نصف شركات الملابس والمنسوجات، وغيرها، منخرطة في هذا النوع من النشاط غير المشروع، لذا "عليك أن تضع في اعتبارك أنه عندما تقول الحكومة في الأخبار إنها زادت أرقام الصادرات برقم كذا، فمن المحتمل أن يكون ذلك ناتجاً عن صادرات وهمية".
اتفق المحلل الاقتصادي مع هذا الرأي، وقال إن هذه الحيل "تزيِّف أرقام التجارة وتنتج بيانات مضللة. والبيانات المضللة جزء أصيل من مشكلات مصر الاقتصادية. فالحكومة كثيراً ما تسرد بيانات مبالغاً فيها بحملات دعائية كبيرة لتحسين صورتها، لكن الحقائق والأرقام تبيِّن زيف هذه البيانات". والحقيقة أن "كثيراً من الشركات تخرج من السوق، فهناك فرق كبير بين الواقع في الشارع وما تراه (على التليفزيون المصري)".