في وقت تتجه فيه أنظار العالم إلى تركيا وسوريا، بعد الزلزال القوي الذي ضرب المنطقة وتسبب في آلاف الوفيات، بدأت تتصاعد المخاوف والتساؤلات عن طبيعة النشاط الزلزالي في تلك المنطقة، وتأثيره على دول المنطقة، خصوصاً بعدما شعر بالزلزال سكان دول أخرى مثل مصر ولبنان والأردن والعراق.
الأمر المثير والمخيف هنا هو أن بعض الدراسات العلمية سلطت الضوء بشكل عام على إمكانية وجود علاقة بين تزايُد الأنشطة الزلزالية وبين عمليات الحفر والتنقيب عن الغاز الطبيعي.
يأتي هذا في وقت يتزايد فيه التنافس والصراع بين دول منطقة شرق المتوسط حول حقول الغاز الطبيعي، والتسارع نحو استخراج الغاز من المنطقة، فهل يمكن أن يكون لعمليات الاستخراج الواسعة التي بدأت بالفعل تأثير مستقبلي على زيادة النشاط الزلزالي في المنطقة.
يرصد هذا التقرير إمكانية وجود هذه العلاقة، عبر عرض بعض الدراسات العلمية المرتبطة بالنشاط الزلزالي في مناطق مختلفة مثل كندا، والمرتبط بعمليات استخراج الغاز الطبيعي من جهة، وبين طبيعة المنطقة محط الأنظار من الناحية الجيولوجية.
كيف تتسبب عملية استخراج الغاز في وقوع الزلازل؟
نبدأ بعملية استخراج الغاز وعلاقتها بوقوع الزلازل، وعملية التكسير الهيدروليكي، المعروفة باسم fracking، هي عملية تستخدمها صناعة النفط والغاز في آبار الاستخراج. تتضمن هذه العملية ضخ سوائل مضغوطة (ماء ورمل ومواد كيميائية) في البئر المحفورة بهدف تكسير الصخور وإنشاء ممرات صغيرة في الصخور الجوفية، من أجل فتح الطريق للغاز أو النفط للخروج من بين الصخور.
يتسبب التكسير الهيدروليكي في حدوث زلازل دقيقة، بالكاد يمكن اكتشافها أو الإحساس بها، تسمى الزلازل المستحثّة. يحدث هذا عادةً بالقرب من مكان تكسير الصخور، على عمق 2000 إلى 3000 متر تحت الأرض. معظم هذه الزلازل أقل من 3 درجات على مقياس ريختر، وهو ما يعادل الاهتزاز الذي تحدثه شاحنة عابرة.
في حالات نادرة، يتسبب التكسير الهيدروليكي في أحداث زلزالية تتراوح من 4 إلى 4.8 درجة على مقياس ريختر. حتى في هذه المستويات، من غير المحتمل حدوث تلف في الممتلكات، أو خطر على السلامة العامة.
لكن هذا لا يعني عدم وجود خطورة حقيقية؛ إذ إن هناك بعداً آخر لعمليات التكسير الهيدروليكي، كشفت عنه دراسات حديثة، يتعلق بتأثيرها على الصدوع، وما يُسمى صخور الإجهاد، وهي المناطق ذات الحركة العالية، والنشاط الزلزالي الطبيعي. فنتيجة لعملية ضخ السوائل هذه إلى أعماق كبيرة تحت الأرض، يقع ضغط على خطوط الصدع الجيولوجي الموجودة بالفعل.
استخراج الغاز وزيادة النشاط الزلزالي
يمكن أن يتسبب حقن سائل التكسير في تحركات في الصدوع الجيولوجية الطبيعية الموجودة مسبقاً، شقوق كبيرة موجودة بالفعل في الصخور، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إطلاق الطاقة المحملة المخزنة في الصدع، إذا كانت الطاقة شديدة بدرجة كافية يمكن أن يتسبب الزلزال الناتج في إلحاق أضرار بالمنازل، وهو ما يهدد المجتمعات المحلية.
تحدث بعض هذه الزلازل بالقرب من موقع التكسير نفسه، ولكن تم الإبلاغ عن البعض الآخر على بعد 50 كيلومتراً، ما يجعل من الصعب ضمان سلامة المناطق المحيطة.
إحدى الدراسات المنشورة في مجلة Science، ركزت على فهم هذه الظاهرة. وجد الباحثون أن ضخ المياه في مناطق الصدوع تسبب في انزلاق الصخور على طول خطوط الصدع ببطء، لم تنتج هذه الحركات "الصامتة" زلازل عند نقطة الانزلاق الأولية، ولكنها زادت الضغط تدريجياً على أجزاء أبعد من الصدوع، ما أدى إلى حدوث زلازل على مسافة أبعد بكثير من البئر.
يظهر البحث أنه من خلال هذه الآلية يمكن أن يتسبب التكسير الهيدروليكي في حدوث زلازل على بعد عشرات الكيلومترات.
أمواج زلزالية
دراسة أخرى حديثة في هذا الشأن، هي دراسة كندية نشرت عام 2021، أظهرت وجود أدلة على العلاقة بين استخراج الغاز وبين زيادة النشاط الزلزالي في المناطق المحيطة.
فقد وثق فريق البحث الكندي نوعاً جديداً من الزلازل الناتجة عن التمزقات التي تحدثها عملية التكسير الهيدروليكي في الصخور بالقرب من بئر غاز نشطة، يساعد هذا في تفسير كيف يمكن للهزات غير المحسوسة التي تحدثها عمليات استخراج الغاز أن تؤدي إلى أحداث زلزالية أكبر.
وذكرت الدراسة أن استخراج النفط والغاز يمكن أن يؤدي إلى حدوث زلازل صغيرة، بطيئة الحركة وطويلة الأمد، والتي وثّقها العلماء في حقول استخراج الغاز الكندية لأول مرة.
كان العلماء سابقاً يفترضون أن الزلازل التي يسببها التكسير الهيدروليكي تتصرف مثل معظم الزلازل الأخرى، ولديها نفس سرعة التمزق (تمزيق الصخور المحيطة والانتشار)، تقريباً التي تبلغ 2 إلى 3 كيلومترات في الثانية، لكن الزلازل التي وثقها العلماء حول بئر الغاز أظهرت نوعاً جديداً من الإشارات أو الموجات الزلزالية، التي يُطلق عليها "الزلازل الموجية ذات التردد الهجين"، والتي تتميز بسرعة تمزيقها وبقائها لمدة أطول.
هذه الموجات الزلزالية تؤدي إلى حدوث انزلاقات زلزالية تتفاعل مع الصدوع القريبة، وصخور الإجهاد، وتؤدي إلى أحداث زلزالية أكبر، على بعد بضع كيلومترات من آبار الغاز. هذا يعني أن عملية التكسير الهيدروليكي يمكن أن تكون مسؤولة عن وقوع زلازل أكبر في الصدوع القريبة بالفعل.
وتتبع الدراسة تلك المخاوف المتزايدة من أن التكسير الهيدروليكي "يولد زلازل أكبر وأقوى من حيث الحجم".
زلازل ناجمة عن التصدعات
ضرب أكبر زلزال ناتج عن التصدع الناجم عن التكسير الهيدروليكي، الصينَ في عام 2018، وبلغت قوته 5.7 درجة، وهي نفس قوة الزلزال الذي حدث بشكل طبيعي في باكستان، والذي خلف ما لا يقل عن 20 وفاة في عام 2021. لذلك على الرغم من أن الزلازل التي هي من صنع الإنسان نادرة، فإنها تمتلك إمكانية التسبب في ضرر جسيم.
أضِف إلى هذا ما حدث في هولندا، حيث سيتم إغلاق أكبر حقل غاز في أوروبا خلال العام الجاري، بعد أن أصبحت الأضرار التي لحقت بالمنازل من الزلازل المصاحبة لعمليات الاستخراج شديدة للغاية.
وفي ولاية أوكلاهوما الأمريكية، قلّص المسؤولون عمليات استخراج الغاز بشدة، بعد أن تسبب حقن المياه والسوائل تحت الأرض في عدة زلازل، تجاوزت قوتها خمس درجات.
هل يتأثر شرق المتوسط بعمليات التنقيب؟
البحر الأبيض المتوسط بشكل عام هو منطقة تكتونية معقدة للغاية، حيث تصطدم الصفيحة التكتونية الإفريقية، وتنخفض تحت الصفيحة الأوراسية. في منطقة شرق المتوسط توجد بعض الميزات الجيولوجية القليلة، التي تتفاعل مع بعضها نتيجة وجود بعض الصدوع الكبيرة.
تنخفض الصفيحة التكتونية للقارة الإفريقية أسفل الصفيحة الأوراسية، وهو ما يظهر فيما يسمى "الخندق الهيليلني"، الذي يحيط ببحر إيجة. هذه الحركة تجعل من منطقة بحر إيجة منطقة نشطة زلزالياً، وهو ما يفسر عدة زلازل وقعت هناك مثل الزلزال الذي ضرب بحر إيجة عام 2020، بقوة 7 درجات على مقياس ريختر.
على الجانب الآخر، تتحرك الصفيحة العربية باتجاه الشمال الغربي وتتقارب في صفيحة الأناضول، ما يجعلها تدور وتشكل حدوداً تحويلية مع الصفيحة الأوروبية. صفيحة الأناضول هي صفيحة دوارة، مدفوعة غرباً وفي الجنوب الغربي، بينما تشق لوحة الجزيرة العربية طريقها شمالاً إلى أوراسيا.
نتيجة لهذه الحركة ينشأ على الحدود بين الصفيحتين صدعان، كلاهما يبدأ من نقطة مشتركة غرب بحيرة فان، شرق تركيا، ثم يسلكان طرقاً منفصلة. يمتد صدع شمال الأناضول غرباً على طول الجزء المتبقي من شمال تركيا، وكان مسؤولاً عن بعض الزلازل الأكثر عنفاً في البلاد، أبرزها زلزال عام 1999.
بينما الصدع الآخر، وهو صدع شرق الأناضول، يتجه نحو الجنوب الشرقي من نقطة البداية المشتركة، لينتهي في البحر الأبيض المتوسط، شمال شرق قبرص، وهو المسؤول عن الزلزال الذي ضرب منطقة كهرمان مرعش، في فبراير/شباط 2023.
يعد صدع الأناضول في الواقع شبكة من قطاعات أصغر من الصدوع التي تقسم كتلتين من الصفائح التكتونية، صفيحة أوراسيا وصفيحة الأناضول الأصغر بكثير، والتي تحمل معظم تركيا على ظهرها. ورغم أنه أغلقت حواف الصفيحتين معاً، لكن القوى الجيولوجية تدفع صفيحة الأناضول غرباً باتجاه اليونان، بمعدل 8 أو 9 أقدام (2.4 أو 2.7 متر) في كل قرن، ما يزيد الضغط على طول نقاط الاتصال.
توجد أعلى معدلات الزلازل في منطقة البحر الأبيض المتوسط على طول منطقة جنوب اليونان ومنطقة صدع شمال الأناضول، في شمال غربي تركيا، لكن حدثت معدلات كبيرة من الزلازل الحالية والزلازل التاريخية الكبيرة في جميع أنحاء المنطقة الممتدة على البحر الأبيض المتوسط عموماً، وخصوصاً شرق المتوسط.
هناك أيضاً صدع البحر الميت (DST)، وهو عبارة عن سلسلة تصدعات، الذي يمتد من عند نقطة تقاطعه مع صدع شرق الأناضول في مرعش بجنوب شرقي تركيا، إلى الطرف الشمالي من صدع البحر الأحمر (قبالة الساحل الجنوبي لشبه جزيرة سيناء).
يشكل هذا الصدع حدود التحويل بين الصفيحة الإفريقية إلى الغرب والصفيحة العربية إلى الشرق، كلتا الصفيحتين تتحركان في اتجاه عام شمال-شمالي شرقي، لكن الصفيحة العربية تتحرك بشكل أسرع، ما أدى إلى الحركات والاحتكاكات الجانبية المرصودة على طول الصدع الذي يبلغ حوالي 107 كيلومترات.
يوجد كذلك ما يسمى بالقوس القبرصي، وهو قوس حدودي ناجم عن ضغط الصفيحة العربية على صفيحة الأناضول أيضاً، ويتسبب في تحرك جزيرة قبرص أيضاً؛ لذلك هناك نشاط زلزالي متكرر بتلك المنطقة، كان أقواه زلزال مدمر بقوة 6 درجات، في 10 سبتمبر/أيلول 1953.
حالياً، لا توجد دراسة واضحة تُظهر الآثار المترتبة على عمليات استخراج الغاز الواسعة المتوقعة في منطقة شرق المتوسط على النشاط الزلزالي في المنطقة، لكن الدراسات المشابهة في مناطق أخرى يمكن أن تسلط الضوء على بعض المخاوف أو القلق، والذي يحتاج إلى دراسات حقيقية في أسرع وقت، حتى لا تحدث زلازل قوية في المنطقة.
هل تحدث هذه الزلازل في كل مناطق التنقيب؟
بدايةً علينا الإشارة إلى أن الدراسات العلمية المرتبطة بعمليات التنقيب واستخراج النفط والغاز لا تشمل جميع المناطق، وتحدث فقط في الدول التي يتواجد فيها باحثون وعلماء يهتمون بمثل هذه المساحات العلمية.
أمر ثان مهم يتعلق بحدوث الزلازل نفسها. فما تشير إليه الدراسات هو أن عملية الاستخراج تسبب بنفسها زلازل في منطقة الاستخراج، لكنها – كما ذكرنا – لا تتعدى قوتها ثلاث درجات على مقياس ريختر، وبالتالي لا يشعر بها أحد.
أما الجزء المتعلق بتأثير هذه الزلازل على إحداث زلازل أكبر في مناطق قريبة أخرى، فهذا يعتمد على وجود صدوع نشطة يمكن أن تتأثر سلباً بالموجات الزلزالية الناجمة عن عملية التكسير الهيدروليكي. ففي حالة هولندا مثلاً، طبيعة الأرض الرخزة هناك يسهل حدوث انزلاقات للقشرة الأرضية، وهو ما جعل حقل غاز واحد كبير يحدث هزات أرضية مؤثرة تستلزم إغلاقه.
الأمر نفسه يمكن أن يحدث في منطقة الخليج العربي التي تشهد عمليات استخراج غاز ونفط واسعة منذ عقود. نذكر هنا بما حدث يوم 4 يونيو/ حزيران 2020، عندما استيقظت الكويت على هزة أرضية قويةبقوة خمس درجات على مقياس ريختر، وهو ما أثار الفزع بعد تضرر بعض المنازل بالمناطق الجنوبية.
وكان مدير برنامج دعم متخذ القرار والمشرف على الشبكة الوطنية الكويتية لرصد الزلازل بمعهد الكويت للأبحاث العلمية، عبدالله العنزي، ذكر لوسائل إعلام كويتية، أنه لا معلومات كافية يمكن أن تجزم بالأسباب، لكن في الأصل هناك علاقة بين استخراج النفط والزلازل، وهي مثبتة علمياً، حسب قوله.
ورغم أن الدراسات السابق ذكرها سلطت الضوء بالفعل على وجود ارتباط ما بين زيادة النشاط الزلزالي وبين عمليات الاستخراج، إلا إن الآلية لاتزال غير واضحة حتى الآن حتى يتم تطبيقها على جميع أماكن التنقيب الكبيرة حول العالم.