حالة من الارتباك شهدتها مكاتب البريد التي حددتها وزارة التموين المصرية للحصول على كروت مسبقة الدفع لتمكين المواطنين خارج منظومة الدعم، من شراء الخبز/ العيش البلدي بسعر التكلفة، في ظل عدم وجود تلك الكروت إلى الآن وعدم التيقن العام جراء الأسباب الحقيقية التي دفعت الحكومة لاتخاذ مثل هذا القرار في هذا التوقيت الذي تسير فيه على طريق الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي.
اقترب "عربي بوست" من أحد المواطنين الذي جاء إلى أحد مكاتب البريد الموجودة بمنطقة الهرم بمحافظة الجيزة مع الانطلاق التجريبي لبدء تنفيذ القرار الجديد، وأشار إلى أنه جاء لخوض التجربة مع قناعته بأن "الحداية لا ترمي كتاكيت"، في إشارة لتوجسه من الحكومة وقراراتها.
فوجئ المواطن بأن مكتب البريد لم يتسلم الكروت بعد ولا يعلم متى سيتسلمها، رغم إعلان الحكومة توفيرها بدءاً من الأربعاء 18 يناير/كانون الثاني، وأن عليه الانتظار إلى الأسبوع القادم لمعرفة متطلبات مكتب البريد للحصول على الكارت.
وأضاف قائلاً لـ"عربي بوست": "بحسب ما قالته الحكومة فإن قيمة شراء الكارت تصل إلى خمسين جنيهاً، وشحنه بمبلغ موازٍ، أي أن إجمالي المبلغ 100 جنيه وهو مبلغ قد لا يستطيع الكثيرون توفيره مرة واحدة لأسباب مختلفة".
وتابع: "كان من الأجدى إتاحة شراء الخبز بسعر التكلفة من المخابز التابعة لمنظومة الخبز المدعم كما هو الحال حالياً، وفي تلك الحالة لن يكون المواطنون بحاجة إلى دفع أموال مسبقة وبقيمة كبيرة بالنسبة إليهم".
هواجس لزيادة أسعار الخبز بعد القرار الأخير
وأشار إلى أن المخابز كانت تبيع الخبز المدعم خارج منظومة التموين بـ50 قرشاً للرغيف الواحد وبعضها كان يبيعه بـ75 قرشاً، في حين أن سعر الرغيف وفقاً للقرار الأخير 90 قرشاً أيضاً، وسيكون قابلاً للزيادة بالطبع حال استمرار تراجع الجنيه، بحسب قناعة المواطن ذاته الذي يبلغ من العمر 54 عاماً.
كان من المفترض أن تبدأ الحكومة المصرية الأربعاء الماضي، تطبيق تجربة طرح الخبز البلدي بشكل تجريبي لغير حاملي البطاقات التموينية بالتكلفة الفعلية. وأرجعت قرارها الذي جاء على نحو مفاجئ إلى أنها تستهدف خفض أسعار الخبز السياحي، عقب ارتفاع سعره إلى أكثر من جنيهين وإتاحة الخبز المدعم لغير حاملي بطاقات التموين الراغبين في شرائه.
وجاء القرار الأخير بعد أيام قليلة من تصريحات أطلقها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، خلال زيارته إلى شمال سيناء مطلع الأسبوع الماضي، أشار خلالها إلى أن حكومته تحملت زيادة قدرها 10 مليارات جنيه في إنتاج سعر الخبز بسبب فرق العملة، وأن الدولة تحملت العبء في سعر إنتاج رغيف الخبز، دون أن تضيفه على المواطن، ما اعتبره البعض تمهيداً لرفع الدعم عن الخبز.
ويباع نوعان من الخبز في السوق المصري؛ الأول مُدعم تبيعه المخابز لحاملي البطاقات التموينية بسعر 5 قروش بوزن 90 غراماً بحد أقصى 5 أرغفة لكل فرد يومياً، والثاني سياحي ويباع بأسعار تجاوزت الجنيهين للرغيف، وشهد الأخير ارتفاعاً في الأسعار وانخفاضاً في الوزن منذ زيادة أسعار القمح عالمياً.
دعم الطبقات المتضررة من تراجع الجنيه
وقال مصدر مطلع بوزارة التموين –رفض الكشف عن هويته- إن التطبيق الفعلي للتجربة لم يتم تحديده، وإنه صدرت تعليمات لكبار المسؤولين في وزارة التموين والغرف التجارية بتأجيل التنفيذ، وعندما استفسر عن السبب قالوا له إنهم سيناقشون الأمر لاحقاً.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن القرار صدر دون دراسة له، فهناك تضارب حول كيفية تطبيقه على أرض الواقع، وكأن الغرض هو إلهاء المواطنين وتهدئتهم، على حد تعبيره، فتارة أبلغوهم أنه تتم طباعة خمسة ملايين كارت لتوزيعها على مكاتب البريد بدءاً من الأحد. بينما أكد له أحد المسؤولين أنهم يدرسون التعامل عن طريق كارت "الميزا" الخاص بالبريد المصري، فالمواطن الذي يمتلك حساباً في هيئة البريد وكارتاً، يمكنه استخدامه مباشرةً دون احتياج لأي إجراء جديد، فيما يقوم من ليس لديه حساب بفتح حساب وإصدار كارت وتسلمه بتكلفة تزيد عن 30 جنيهاً تدفع لمرة واحدة.
وإلى لحظة كتابة التقرير لم يستقر المسؤولون على أي كارت سيتم استخدامه وما زالت النقاشات مستمرة للوصول إلى وضع لا يثير غضب المواطنين وأصحاب المخابز السياحية تزامناً مع اقتراب ذكرى ثورة 25 يناير/كانون الثاني.
وأشار المصدر إلى أن القرار يستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف بعضها يصب في صالح الموازنة العامة للدولة على المدى الطويل، وأخرى أهداف أولية مباشرة، تتمثل في دعم الطبقات المتضررة من تراجع قيمة الجنيه وانخفاض قيمة رواتبها وعوائد ما تحصل عليه شهرياً.
جاء هذا بعدما رصدت تقارير أمنية تم رفعها للمسؤولين وجود حالة سخط وغضب شديد بين المواطنين قد تؤدي إلى انفجار بين لحظة وأخرى، وهؤلاء كان لا بد من البحث عن بدائل دعم لهم لتهدئتهم، ومن هنا كان القرار وبشكل لم يتم الاستعداد له، بحسب المصدر نفسه.
وكشف المصدر أن وزارة التضامن الاجتماعي عكفت لمدة تزيد عن العام لإجراء دراسة طلبت منها عن كيفية رفع الدعم عن الخبز تدريجياً والفئات المتضررة منها، وبعد الانتهاء قال مصدر أمني لهم: "انتوا عايزين البلد تولع"، وتم وضع الدراسة في الثلاجة.
شروط صندوق النقد الدولي
ولفت إلى أن المعلومات التي يسجلها المواطنون بمجرد حصولهم على الكارت تساعد الوزارة على إنشاء قاعدة بيانات جديدة لمن هم بحاجة للحصول على خبز بسعر مدعم، وهناك توجه للتفرقة في الدعم الموجه نحو الفئات الأشد فقراً والطبقات الفقيرة التي من المتوقع أن تتزايد معدلاتها خلال الفترات المقبلة، وقد يكون ارتفاع أسعار الخبز بالنسبة إليهم عائقاً وقد لا يستطيعون توفيره بالقدر الكافي.
وبحسب المصدر ذاته، فإن القرار يساعد على الاستمرار في سياسة تنقيح البطاقات التموينية، وأن الرقم الذي جرى حذفه ويقدر بـ150 ألف حالة هو رقم ضئيل للغاية، ومن المقرر أن يتضاعف خلال الفترة المقبلة، وبالتالي فإن هؤلاء سيتاح أمامهم الفرصة للحصول على الخبز البلدي بأسعار تفوق سعر التكلفة، لكنه أرخص من الخبز السياحي، مشيراً إلى أن تلك الخطوات تسير وفق رؤية خاصة للحكومة تستهدف تقليص فاتورة الدعم وفقاً لتفاهمات جرى التوصل إليها مع صندوق النقد الدولي.
ووافق صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي، على منح مصر قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار تسدد على 46 شهراً. ولكن هذا القرض ليس سوى قطرة في بحر، إذ تثقل كاهل الدولة ديون تقدر بحوالي 42 مليار دولار، يجب عليها سدادها خلال السنة المالية 2022-2023.
وارتفعت فاتورة دعم الخبز بموازنة العام المالي الجاري لحوالي 93 مليار جنيه بعد زيادة دعم الخبز بقيمة تتجاوز 55 مليار جنيه، وتقول الحكومة إن ذلك يرجع لارتفاع أسعار القمح العالمية، إلى جانب زيادة وتيرة الاستهلاك من جانب المواطنين؛ ما يدفع المخابز لإنتاج 100 مليار رغيف بلدي سنوياً بمعدل 275 مليون رغيف يومياً.
وتستهدف الحكومة منافسة المخابز السياحية والاستفادة من عوائد بيع الخبز بأسعار تفوق قليلاً سعر التكلفة، بحسب مصدر آخر بوزارة التموين، مشيراً إلى أن الحكومة تستفيد من الكروت مسبقة الدفع وتستطيع أن تحقق عوائد لها تساهم في التقليل من فاتورة الدعم باعتباره هدفاً رئيسياً في الوقت الحالي.
محاولة للتغطية على عودة طوابير الخبز
وكشف المتحدث أن القرار تم اتخاذه فجأة بسبب مشكلات عودة انتشار طوابير الخبز، وتلقى وزير التموين علي المصيلحي توبيخاً من مجلس النواب وجهات عليا بالدولة.
وأن القرار الأخير سيمكن من ضخ كميات أكبر من الدقيق المستخدم للمخابز، ويسعى من خلال القرار لتخفيف الضغط عليها من خلال السماح فقط ببيع الخبز عبر الكروت، كما أن تلك الكروت تساهم في ضبط المنظومة التموينية وتضمن عدم تهريب كميات من الدقيق.
وشهدت المخابز التموينية عودة لاصطفاف طوابير من المواطنين للحصول على الخبز، سواء كان ذلك من خلال أصحاب البطاقات التموينية أو من المواطنين العاديين الذين يشترون منها الخبز بأسعار أقل من المخابز السياحية. وضربت تلك الطوابير إحدى أبرز عوامل تسويق الحكومة لنفسها، إذ كانت تشير باستمرار إلى أنها نجحت في القضاء عليها بعد أن كانت سمة سائدة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
ويوضح المتحدث أن القرار الصادر أخيراً لم يشهد حيزاً واسعاً من النقاشات داخل وزارة التموين، وهناك مخاوف من أن يؤدي لمشكلات أكبر على مستوى توفير الخبز للفقراء المقيدين على البطاقات التموينية البالغ عددها 23 مليون بطاقة يستفيد منها ما يقرب من 70 مليون مواطن.
لكن الواضح، وفقاً للمصدر، أن الاعتماد الأكبر مستقبلاً سيكون على الخبز المباع بسعر التكلفة، وليس سعر الخبز المدعم الذي ستعمل الحكومة جاهدة على تقليص الفجوات بين السعر الذي يحصل عليه الأفراد الحاصلون على "بطاقات بيعه بسعر التكلفة" وبين "بطاقات التموين المدعمة".
كروت الدفع المسبق.. ترشيد الاستهلاك لتقليل التضخم
وحاولت الحكومة المصرية مراراً وتكراراً زيادة أسعار الخبز المدعم وكان من المقرر أن يصل سعره إلى 25 قرشاً، وجرى تسريب تلك الأنباء كجس لنبض المواطنين في شهر أغسطس/آب الماضي، لكنها واجهت رفضاً كبيراً من قطاعات مختلفة رفضت المساس به، وخشيت من تكرار مظاهرات يناير/كانون الثاني عام 1977 خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات عندما قام بزيادة سعره في هذا التوقيت قبل أن يتراجع عن قراره.
وقال مساعد وزير التموين المصري، إبراهيم العشماوي، في تصريحات إعلامية إن المخابز السياحية توفر 25 مليون رغيف خبز سياحي يومياً، وبالتالي يمكن للمخابز التموينية توفير الاحتياجات المطلوبة عقب تطبيق المنظومة الجديدة، كما أنها تقضي على بيع الخبز المدعم في السوق السوداء، منوهاً إلى أن المخابز التموينية يصل عددها إلى 33 ألف مخبز على مستوى البلاد؛ مما يسهل استفادة كل المواطنين من المنظومة.
ويؤكد خبير اقتصادي أن قرار الحكومة المصرية سبق أن طبقته دول أخرى هدفت إلى تقليص دعم الخبز، وأن سوريا تعد من بين النماذج، والمستهدف أن تكون أسعار التكلفة التي تحددها الحكومة للمواطنين مؤشراً على ارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
والمتوقع أن يكون هناك تغييرات شهرية في الأسعار وفقاً لأسعار القمح العالمية، كما أن القرار وراءه هدف آخر يتمثل في ترشيد استهلاك المواطنين وأن تجارب كروت الدفع المسبق في جميع الخدمات التي تقدمها الحكومة، سواء كان ذلك من خلال الغاز الطبيعي أو الكهرباء قادت لترشيد الاستهلاك كأحد أساليب معالجة التضخم.
مخاوف من أزمة مجتمعية
لكنه يتوقع في الوقت ذاته أن تؤدي خطة وزارة التموين إلى أزمة مجتمعية على المدى القصير، لأن سعر تكلفة الخبز من المتوقع أن يأخذ في الارتفاع مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتراجع قيمة الجنيه وزيادة أسعار القمح.
وبالتالي فإن مخابز التموين سترفع الأسعار، وبالتبعية ستقوم المخابز السياحية هي الأخرى بزيادة الأسعار، وسيؤدي ذلك لأن يبقى الخبز سلعة بحاجة إلى توفير أموال للحصول عليها، وستكون نتيجة ذلك قلاقل اجتماعية قد تصل لأن تصبح قلاقل سياسية أيضاً.
وحاول المتحدث باسم الحكومة المصرية، السفير نادر سعد التقليل من شأن اتجاه الحكومة لرفع الدعم عن مزيد من الخدمات التي تقدمها، واعتبر أن حديث رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مؤخراً عما تتحمله الحكومة من تكاليف إضافية في منظومة دعم الخبز والكهرباء والسولار لا يعني ارتفاع أسعارها.
وقال: "حديث رئيس الوزراء ليس تمهيداً لرفع أسعار الخبز أو الكهرباء أو السولار، ولكن الغرض من حديثه توضيح كم المبالغ التي تتحملها الدولة لدعم المواطنين".
وأشار مصدر مطلع بوزارة البترول المصرية إلى أن الشهر الجاري من المتوقع أن يشهد زيادة جديدة في أسعار البنزين، وأن لجنة تسعير البنزين والمشتقات النفطية ستعقد اجتماعها في توقيت لم يتحدد بشكل نهائي خلال الأيام المقبلة. من المتوقع أن تتراوح ما بين 50 قرشاً إلى جنيه واحد في سعر اللتر الواحد، وأن الخلاف يبقى حالياً حول زيادة أسعار السولار أم الإبقاء عليها.
وأوضح أن القرار يخضع لأبعاد سياسية تتعلق بردة الفعل المتوقعة من جانب القطاعات الأشد فقراً الذين سوف يتأثرون بشكل مباشر حال زيادة أسعار السولار، وأن الحكومة في مأزق بين مطالب صندوق النقد الدولي بإعادة النظر في منظومة الدعم بشكل عام وبين حاجتها لتغطية احتياجات القطاعات الأكثر احتياجاً وزيادة إجراءات الحماية الاجتماعية وفقًا أيضاً لمطالب الصندوق.
الوقود مرحلة تالية
وتبنت الحكومة خطة للتخلص من أغلب الدعم الموجه للمواد البترولية تزامناً مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الأول بدءاً من العام المالي 2016-2017، وانخفض بنحو 84.8% خلال آخر 5 سنوات. إذ خصصت الحكومة نحو 18.4 مليار جنيه لهذا البند في موازنة العام الحالي 2021-2022 مقابل 120.8 مليار جنيه في عام 2017-2018، بحسب بيانات وزارة المالية.
وأمام دعاوى التظاهر التي انطلقت في مصر خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول وكان من المقرر لها 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قررت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات النفطية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تثبيت أسعار البنزين بجميع أنواعه في السوق المحلية، وكان من المتوقع أن تنعقد اللجنة مطلع هذا الشهر، إذ إنها تعقد اجتماعها كل ثلاثة أشهر لكنها لم تنعقد حتى الآن.
ولفت خبير في قطاع الطاقة والبترول إلى أن تأخر الاجتماع وعدم انعقاده في توقيته المحدد يشير إلى أن الحكومة المصرية قد تضطر عدم التقيد بسياسة الرفع التدريجي لأسعار الوقود بشكل ربع سنوي، لتذهب باتجاه تحريك أسعار الوقود بنسبة تصل إلى نصف السعر الحالي؛ استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي.
وأضاف أن ترويج النظام المصري لإنهاء أزمة الدولار وتثبيت سعره في البنوك والسماح بدخول السلع المكدسة في الموانئ بشكل كامل يعد بمثابة تهيئة للأجواء من أجل اتخاذ مثل هذا القرار خلال هذا الشهر أو مطلع الشهر المقبل على أقصى تقدير.