سلط ما قامت به ابنتا رجل الأعمال المصري الراحل، محمد فريد خميس، ياسمين وفريدة، الضوء على هجرة أموال رجال الأعمال المصريين للخارج مع الإبقاء على استثماراتهم في الداخل، والحيل المختلفة التي يلجأون إليها كي لا يكونوا تحت إمرة الاقتصاد المتراجع، وحالة عدم الاستقرار السياسي وأزمات شح الدولار المتتالية.
وكانت ياسمين وفريدة باعتا حصتهما في شركة "النساجون الشرقيون" المصرية لصالح صندوق FYK Limited المملوك لهما، والذي أسستاه في الخارج، بعد بيان رسمي للشركة، أعلن فيه أن المالك الجديد للأسهم المقدرة بمجموع 24.6% وبقيمة إجمالية 1.375 مليار جنيه، هي شركة تابعة لورثة فريد خميس المالكتين لشركة FYK Limited بنسبة 100%، أي إن كلاً من السيدتين ما زالتا محتفظتين بنسب ملكيتهما في شركة النساجون الشرقيون للسجاد بشكل غير مباشر.
الهروب إلى الخارج
وطبقاً لمصدر داخل الشركة، تحدث لـ"عربي بوست"، فإن الغرض من انتقال ملكية الشركة إلى شركة استثمارات أجنبية هو جعل الشركة خاضعة للاتفاقيات الدولية للتحكيم التجاري الدولي في حال حدوث أي نزاع، فضلاً عن أن حركة الأموال تتم خارج مصر.
وأشار المصدر إلى أن هناك حالة من التضييق تمارسها الحكومة المصرية على رجال الأعمال النافذين، دون أسباب واضحة، على حد تعبيره، إلى جانب عراقيل عديدة يضعها البنك المركزي على التصرف في الأموال المودَعة لديه بالدولار. وأكد أن الوضع الجديد للشركة يتيح لأصحاب رأس المال التحكم بحرية في أموالهم بعيداً عن تعقيدات النظام الحالي.
وكشف مصدر مطلع في الحكومة لـ"عربي بوست" أن تأسيس المصريين شركات "الأوف شور" تزايد بشكل كبير، حتى تكون هناك حرية لدى رجال الأعمال لتحويل أرباحهم إلى الخارج، في ظل تضييق النظام الحالي على حركة أموالهم في الداخل، ومع استمرار الظروف غير المواتية للاستثمار المحلي أو الأجنبي في مصر، ويكون ذلك من خلال عمليات تخارج شرعية، دون أن يصطدموا بأي مشكلات قانونية.
ويطلق مصطلح "الأوف شور" على الشركات التي تمارس عملها في بلد مختلف عن البلد الذي تأسست به الشركة، وفي الأغلب يكون الهدف منها الاستفادة من أنظمة ضريبية ميسرة في دول تأسست فيها تلك الشركات، والهرب من أنظمة ضرائب كبيرة في بلدانهم الأصلية، ويمكن بسهولة تسجيل شركة "أوف شور" عبر الإنترنت، ولا يُشترط أن تكون محددة برأس مال معين، ويتم هذا من خلال شركات مختصة بهذا الأمر.
مصدر مسؤول بمصلحة الضرائب قال لـ"عربي بوست" إن العديد من الشركات تلجأ لتلك الحيل؛ لتجنب دفع الضرائب للدولة، لأنهم بذلك يقومون بتحويل الأرباح لبلدان ضرائبها منخفضة، أو تكاد تكون منعدمة، وتعرف باسم "الملاذات الضريبية".
وأوضح المصدر أن شركات عديدة نفذت من ثغرة معاهدات تجنب الازدواج الضريبي، وسجلت نفسها في مصر على أنها تابعة لشركة في دول أخرى بما يجنب الشركات المؤسسة فيها الخضوع لضريبة الأرباح الرأسمالية في مصر عند تخارجها من الاستثمارات في مصر، منها الإمارات وبريطانيا، فضلاً عن أن تلك الدول لا تفرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية التي تحققها الشركات المؤسسة فيها خلاف ما يحدث في مصر.
تجربة ساويرس ملهمة للمستثمرين ورجال الأعمال المصريين
لم يكن ذلك الإجراء وحيداً أو مبتكراً في مصر، لأن العديد من رجال الأعمال أقدموا على الخطوة ذاتها، والتي ابتدعها – بحسب مصدر مصرفي مطلع تواصلت معه "عربي بوست" – رجل الأعمال نجيب ساويرس، الذي قام منذ العام 2007 بتأسيس شركات وصناديق أجنبية تابعة له، وقام بحركة مراوغة للحكومة المصرية في ذلك الحين كونه لديه استثمارات في دول إفريقية وأوروبية عديدة قبل أن يصفي أغلبها بعد وقت قليل؛ لتبقى عدة صناديق يمتلكها ويضع فيها الجزء الأكبر من أمواله.
وأشار المصدر إلى أن ساويرس وإخوته يتعاملون في السوق المصرية بنفس امتيازات المستثمرين الأجانب، ويقومون بعمليات تدشين الشركات والمشروعات برؤوس أموال تأتي من الصناديق المملوكة لهم في الخارج، واستفادوا من التسهيلات التي تقدمها الدولة للمستثمرين الأجانب، وفي الوقت ذاته أضحى لديهم حرية تصرف في أموالهم بعد أن أدركوا أنهم عرضة للسطو أو التضييق عليهم في أي لحظة.
وتعد شركة القلعة التي يملكها رجل الأعمال المصري، أحمد هيكل، نجل الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل أبرز الشركات المصرية التي أسست صندوقاً استثمارياً في الخارج، وبلغ حجم تعاملاتها 9.5 مليار دولار أمريكي، وقام بإنشاء تلك الصناديق منذ بدايات عمل الشركة قبل 15 عاماً.
شح الدولار ووجود سعرين للصرف يضاعف عمليات "الأوف شور"
ذكر خبير مصرفي مطلع لـ"عربي بوست" أن الاستثمار المحلي والأجنبي في مصر يواجه مشكلات عديدة بدءاً من عدم توفر الدولار، مروراً بوجود سعرين للصرف، والمتاعب التي يواجهها رجال الأعمال في تحويل أموالهم للخارج.
أضف إلى هذا توالي حالات القبض على رجال أعمال والاستيلاء على مشروعاتهم في بعض الأحيان، ما يجعل الدولة غير قادرة على جذب المستثمرين الأجانب، ويجعلها مرغمة على التعامل مع شركات الأوف شور التي تساهم في توفير العملة الصعبة.
يشير المصدر ذاته إلى أن الشركات الناشئة المصرية استفادت من الخبرات السابقة لرجال الأعمال، وأضحوا يدشنون مشروعاتهم في عواصم عربية مختلفة ويتخذونها مقراً رئيسياً لهم، ويدخلون السوق المصري كمستثمرين أجانب.
ويقوم البعض الآخر من الشركات التكنولوجية التي برزت في مصر خلال السنوات الماضية الآن بعملية هجرة جماعية إلى الأسواق السعودية والإماراتية وغيرها، ويعملون على استمرار مشروعاتهم في مصر لكن تكون عملية الإدارة الرئيسية من الخارج.
وأكد الخبير أن هذه الهجرة مستمرة منذ عدة سنوات، لكنها زادت على نحو مطرد خلال الأشهر الماضية مع الامتيازات التي يحصل هؤلاء عليها عند دخولهم الأسواق العربية وتهيئة السوق بشكل مناسب للشركات الناشئة وريادة الأعمال إلى جانب الدعم الذي يحصلون عليه، بل وتحفيزهم من خلال تلك الأسواق التي تتواصل معهم وتساعدهم على اتخاذ القرار، وكذلك الاستماع لوجهة نظرهم حول احتياجاتهم لبيئة العمل، الأمر الذي يشجّع رواد الأعمال على التوجه لتلك الدول.
الشركات الناشئة تهرب لدول الخليج
وأوضح أن رواد الأعمال من الشباب ليست لديهم قدرة التعامل باللغة التي تجيدها الحكومة المصرية، والتي تفرض عليهم مشاركة مجتمعية وسياسية ليس لديهم استعداد للانخراط فيها، أسوة بالعديد من رجال الأعمال الذين تربوا في أحضان النظام الحالي والأنظمة السابقة. يكون الحل الأفضل لهم هو استمرار عمل الشركات في الداخل، لكن مع إنشاء مقار رئيسية لها في الخارج.
واستطاعت الشركات المصرية الناشئة جمع استثمارات تقدَّر بنصف مليار دولار خلال العام 2021. جاءت 80% من تلك الاستثمارات من الخارج ما يشير إلى حجم تعاملاتها الخارجية، بحسب ما أوضحه المصدر.
ويلفت إلى أن التوجه الأكبر لهؤلاء تحديداً هو المشروعات التكنولوجية، إذ تعمل المملكة العربية السعودية على استقطاب شركات التكنولوجيا المصرية الناجحة في ظل مساعيها التحول لوجهة رئيسية لرواد الأعمال بالمنطقة العربية إلى جانب تمتعها بامتيازات مهمة للمستثمرين، على رأسها أنها تعد سوقاً كبيراً واستهلاكياً يساهم في تحقيق مزيد من المكاسب.
ولفت خبير اقتصادي إلى أن تدشين صناديق في الخارج مملوكة لرجال الأعمال المصريين يحقق أكثر من مكسب اقتصادي بعيداً عن مسألة تضييق النظام، لأن المستثمرين يقومون بتحويل الأرباح بالدولار مع الاحتفاظ بها خارج البلاد، وفي حال هدف أي مستثمر لبيع الشركة مستقبلاً أو تصفية استثماراته لأي أسباب، فإنه سيتمكن من بيعها بسهولة وبالدولار أيضاً.
وذكر أن رجال الأعمال في الأغلب يبحثون عن طرق سلسة للخروج من السوق المصري بشكل غير مباشر، ولا يضعهم في مواجهة من السلطة، ويمكن وصف عملية تأسيس شركات لهم في الخارج بأنه "خروج هادئ وآمن"، لكن من المتوقع أن تفكر الحكومة في إجراءات تضييق الخناق عليهم أيضاً بعد أن اصطدمت بالهجرة الجماعية لرؤس الأموال خلال هذا العام.
وأوضح المصدر لـ"عربي بوست" أن عملية القبض على رجل الأعمال المصري صفوان ثابت صاحب شركة "جهينة" للألبان، ونجله سيف، ما زالت حاضرة في أذهان كثير من رجال الأعمال الذين يخشون من تعرضهم لضغوطات مماثلة، وبات من الشائع في أوساط رجال الأعمال أنه جرى القبض عليهما بعد أن رفض الأب التخلي عن جزء من أسهم الشركة.
وأشار إلى أن العديد من الشركات الأخرى يفضل أصحابها التكتم خوفاً من التعرض لأي مضايقات، ويقومون بتأمين أموالهم بنفس طرق البيع لشركات مسجلة في الخارج، بما يتيح اللجوء للتحكيم الدولي في حالة التعرض لإجراءات تعسفية.
ويضع المستثمرون ذلك في اعتبارهم، ما يجعلهم يتجهون نحو تأسيس شركات مصرية وشركات أخرى مملوكة لأقاربهم أو شركائهم في الخارج، بحيث تدخل السوق المصري كشركة أجنبية وفي تلك الحالة، فإنها تحصل على امتيازات ضريبية وتكون خاضعة لاتفاقيات التحكيم التجاري الدولي، ويمنح ذلك سهولة حركة الإيرادات والأرباح والمصروفات خارج البلاد.
حيل شركات الصرافة للحصول على الدولار
أشار مصدر بالغرفة التجارية المصرية لـ"عربي بوست" أن الحيل لم تقف عند رجال الأعمال فقط. فرغم الإجراءات العديدة التي اتخذتها الحكومة المصرية من رقابة أمنية وحملات على تجار العملة وشركات الصرافة وتغليظ العقوبات، فإن هناك حيلاً لجأت لها بعض شركات الصرافة.
فقد قامت بعض الشركات بنقل نشاطها إلى خارج مصر، وتقوم بجمع الدولار من المصريين العاملين بالخارج وتصريفه بالخارج للمستوردين والتجار، مما كان أحد الأسباب في تراجع تحويلات المصريين بالخارج.
ووفقاً لتقرير صادر عن البنك المركزي المصري، فإن تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الفترة بين يناير/كانون الثاني، وأغسطس/آب 2022 سجلت نحو 20.9 مليار دولار، متراجعة من نحو 21.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق.
ووفق التقرير سجلت التحويلات خلال شهر أغسطس/آب 2022 نحو 2.2 مليار دولار، متراجعة من نحو 2.4 مليار دولار خلال شهر يوليو/تموز 2022.
وقد انتشرت هذه الطريقة مؤخراً خاصة في أوساط العمالة المصرية الموجودة بالخارج، ولم تعد تقتصر على شركات الصرافة، ولكنها ضمت أفراداً تحولوا في وقت قصير إلى تجار عملة، ويقومون باستلام الدولارات من العاملين في الخارج وتسليمها بالجنيه المصري إلى أسرهم في مصر.
وتستعين بعض شركات الصرافة بأشخاص متعددي الجنسية أو من يسافرون بسهولة لوجود جواز سفر أجنبي معهم، ويتم نقل الدولارات من خلالهم إلى خارج البلاد بشكل قانوني.
البنك المركزي يلاحق رجال الأعمال
يوضح خبير في سوق المال، أن تحويل الدولار في السابق من مصر إلى الخارج كان يتم عبر حسابات الشركات، حيث يتم تحويل المبالغ من حساب شركة موجودة في مصر إلى حساب شركة أخرى في الخارج، وكانت هذه العملية قانونية، لكن تم استغلالها في تهريب العملة الصعبة من السوق المحلي.
وعندما قيّد البنك المركزي المصري حركة التحويل تلك، اتجه بعض الأفراد إلى الاعتماد على بطاقات الخصم والائتمان الصادرة من البنوك المصرية وتستعمل في الخارج.
هؤلاء استخدموا بطاقات الخصم في الحصول على مبالغ كبيرة من العملة الأجنبية دون وجود غرض واضح لهذا الاستخدام، وبما يستنفد موارد البنوك من العملة الأجنبية، حيث يتم سحب الدولار من خلال هذه الكروت، والحصول عليه بالسعر الرسمي وإعادة بيعه بالداخل في السوق السوداء المصرية.
ووضع البنك المركزي المصري قيوداً على استخدام البطاقات الائتمانية وبطاقات الخصم المباشر خارج البلاد، وقال إنه رصد "ممارسات غير مشروعة" تتعلق باستخدام تلك البطاقات، وطالب البنوك بإخطار العملاء بحظر إساءة استخدام البطاقات، وطلب تدبير العملة لأغراض السفر للخارج دون مغادرة مصر.
ووفق بيان للبنك المركزي المصري صادر الإثنين، فإنه وجد زيادة مطردة في الاستخدامات الخاصة ببطاقات الائتمان وبطاقات الخصم المباشر خارج البلاد، على الرغم من وجود العملاء المصدر لصالحهم هذه البطاقات داخل البلاد، حيث بلغت ذروتها في منتصف الأسبوع الماضي، بمبالغ تصل إلى 55 مليون دولار في يوم واحد، بزيادة تقدر بأكثر من 5 أضعاف عن المتوسط اليومي في الربع الأخير من العام السابق.
وأوضح البنك أنه رصد قيام البعض بتأسيس شركات ذات طبيعة خاصة خارج البلاد، تقوم بالوساطة خاصةً في مجالي التصدير والسياحة، وتستهدف الاحتفاظ بالنقد الأجنبي خارج البلاد والتعامل فيه خارج الإطار القانوني. فضلاً عن ذلك تقوم بعض هذه الشركات بطلب تدبير النقد الأجنبي من القطاع المصرفي المصري، بالرغم من احتفاظها بحصيلة متراكمة من النقد الأجنبي في الخارج. وفي حال ثبوت ذلك، قال البنك المركزي إنه سيتم اتخاذ جميع الإجراءات المقررة حيال تلك الشركات ومساهميها.
وانخفضت حدود السحب النقدي على بعض أنواع البطاقات من ماكينات الصراف الآلي خارج مصر إلى 100 دولار شهرياً فقط من 500 دولار وإلى 250 دولاراً بدلاً من 750 دولارًا، وإلى 500 دولار بدلاً من 1500 دولار في بعض البنوك، حسب نوع البطاقة.