تطفو قضية تزوير الشهادات الجامعية المصرية على السطح بين الحين والآخر، كلما جرى ضبط قضايا تزوير جديدة، لكن البارز في الأمر أن الجدل والاهتمام الإعلامي المحلي تصاعد حين أثارت دولة الكويت تلك القضية مع ضبطها مئات الحالات لمواطنيها، ممن حصلوا على شهادات جامعية مزورة من جانب جامعات مصرية عريقة.
كشف رئيس اللجنة التعليمية في مجلس الأمة الكويتي، الدكتور حمد المطر، عن أن لجنة التحقيق البرلمانية، التي تشكلت بمعرفة البرلمان، وبناء على توصية من مجلس الوزراء الكويتي، توصّلت لحصول 142 مواطناً كويتياً على شهادات مزورة، صادرة من عدة جامعات مصرية، وأن عملية التزوير تمت بمساعدة موظفين في المكتب الثقافي الكويتي بمصر.
الحكومة المصرية تغضّ بصرها عن المزوّرين
يقول خبير تربوي مصري لـ"عربي بوست"، على صلة بملف تزوير الشهادات، إن الحكومة المصرية غضّت بصرها عن التعامل مع انتشار المزوّرين، ما ساهم في تحولهم من مجموعات صغيرة تعمل بشكل منفصل وعلى نطاق ضيق، إلى مافيا كبيرة لا يتوقف عملها فقط على تزوير الشهادات العلمية، بل إقامة كيانات وهمية، وتوجيه دفة رسائل الماجستير والدكتوراه نحو مراكز بعينها تقوم بعملية إعداد تلك الرسائل بمقابل مادي، والتنسيق مع عدد واسع من الأكاديميين والمعيدين في الجامعات المصرية، ودفع رشاوى مالية لهم في نظير تمرير نجاح الراغبين في الحصول على الماجستير والدكتوراه.
ووصل الأمر للتنسيق مع جهات رسمية سيادية مثل وزارة الخارجية للحصول على توثيق تلك الشهادات، بما يساعد أصحابها على السفر للخارج، بحسب المصدر، الذي أشار إلى أن "بيزنس التزوير" يحقق أرباحاً طائلة، وتستفيد منها جهات رسمية وشبه رسمية، في ظل صمت حكومي وبرلماني.
ويضيف أن هناك بعض المطابع المنتشرة في مناطق شعبية، وتعمل بشكل معروف على تزوير تلك الشهادات، وفي الأغلب يكون تحرك الأجهزة الأمنية ضعيفاً ولا يصل إلى الجزء الأكبر منها مع تزايد عددها، تحديداً في المراكز والنجوع القريبة من العاصمة القاهرة وضواحيها، ما يترك انطباعاً بأن عمليات التزوير لا تشكل خطورة على القائمين بعملية التزوير والساعين للحصول على الشهادات المزوّرة.
أسعار الشهادات على حسب الغرض منها
لا تقتصر قيمة الشهادات المزورة في مصر على نوع هذه الشهادة أو الكلية، وتتعلق بالهدف من استخراجها، فإذا كانت بهدف السفر إلى الخارج، فإنها قد تتجاوز الـ50 ألف جنيه، وفقاً للمتحدث ذاته.
وإذا كانت بغرض استكمال إحدى أوراق السجل المدني فلا يتجاوز سعرها 10 آلاف جنيه، وإذا كانت مصحوبة بمنح صاحبها كارنيه إحدى النقابات التي تتبع لها الكلية، فقد يصل سعرها إلى 25 ألف جنيه، أما التواصل مع الساعين للحصول على شهادات مصرية من الخارج، فيتم تحديده بالدولار، وقد يصل إلى ما يوازي 200 ألف جنيه أو أكثر.
اللافت أنه لم يعد التواصل مع الراغبين في تزوير الشهادات المصرية من المواطنين العرب في بلدان مختلفة بحاجة إلى وسيط، كما كان يحدث في الماضي، وأضحت مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشرت عليها مجموعات تحمل عناوين مثل "فرصة للحصول على شهادات مصرية "تساهم في التواصل المباشر مع المزوّرين في مصر، ما يجعل قضية التزوير تخرج من إطارها الداخلي إلى الدولي.
وقبل 4 سنوات تقريباً كشفت أجهزة رقابية كويتية عن أضخم عملية تزوير شهادات علمية صادرة عن جامعات مصرية، بينها كيانات وهمية أو جامعات غير معتمدة، وفي حينها ألقت القبض على وافد مصري قدم إلى الكويت منذ بداية التسعينيات واتهمته بتزوير 600 شهادة لشخصيات بارزة، وتراوح سعر الشهادة الواحدة ما بين 12 إلى 20 ألف دينار كويتي.
وحتى يوليو 2020، سُجلت ضد المزوّر أحكام قضائية، وصل إجمالي سنوات الحبس فيها إلى أكثر من 63 عاماً، وهزت تلك القضية الرأي العام الكويتي والمصري أيضاً، ووجدت الحكومة المصرية نفسها مقصرة في الظاهرة التي أخذت في الانتشار تحت مرأى ومسمع من أجهزتها الأمنية والرقابية.
وفي ذلك الحين دافعت السفارة المصرية بالكويت عن الجامعات المصرية بتأكيدها أن حالات التزوير تتم عبر شبكات متخصصة تقوم بتغيير بيانات شهادات جامعية عبر إضافة أسماء من يرغبون في الحصول على شهادات مزورة لتصدر باسم الجامعات المصرية، ومن ثمّ فإنه "من غير المقبول أن يتم النص على أن حالات التزوير هي من جامعات مصرية، حيث إنها زُوّرت باسم الجامعات، ولم تصدر منها، أو من قِبل أحد العاملين فيها".
أبعاد سياسية خلف إثارة قضية تزوير الشهادات الجامعية
ويؤكد أكاديمي بكلية التربية جامعة القاهرة، أن التوسع المستمر في تزوير الشهادات لديه تأثيرات سلبية على العمالة المصرية في الخارج، إذ إن إعادة تسليط الضوء على قضية التزوير لدى مجلس الأمة الكويتي يحمل أبعاداً أخرى تتعلق بمساعي دولة الكويت وقف دخول العمالة المصرية إلى أراضيها، إضافة إلى حديثها عن اشتراطات جديدة لتوثيق عقود العمل، وبدا أنها بعثت إشارات على الهجوم الذي تعرّضت له للتذكير بتلك القضية التي لم تنته التحقيقات فيها بعد 4 سنوات من إثارتها لأول مرة.
لا ينكر المصدر أن هناك حالة "انفلات" في استخراج الشهادات المزورة دون رقابة صارمة من الحكومة، ما سيكون له تأثير سلبي على الصورة الذهنية لخريجي الجامعات المصرية في الخارج.
وسيزيد من حالة التدهور التي تعانيها الجامعات المصرية التي لم تحقق نتائج إيجابية على مستوى التصنيفات العالمية، كما أن ذلك يدعم أيضاً زيادة معدلات الأمية لوجود قناعة بأنه من الممكن شراء الشهادات بالمال.
وتقع مصر في المرتبة السابعة على مستوى الدول العربية كأكثر الدول التي تعاني من الأمية، وتقدر الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة القوى العاملة نسبة الأمية بـ25.8%، من إجمالي تعداد السكان البالغ 110 ملايين نسمة تقريباً.
مكتبات صغيرة تحوّلت في مصر إلى كيانات جامعية وهمية
يكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن "المكتبات الصغيرة" التي كانت تُعرف بأنها تسهل عملية الحصول على تلك الشهادات تحولت إلى كيانات جامعية وهمية، وتزايدت وتيرة إنشائها تحت مرأى وبصر من الحكومة، دون أن تتدخل لغلقها، وأن التحقيقات التي جرت مع بعضها أوضحت أنها ليست لديها عملية تعليمية بالمعنى الحقيقي كما أنها لم تحصل على رخص إنشائية.
وبدلاً من أن تعلن وزارة التعليم العالي عن أسماء تلك الكيانات خوفاً من عدم تمكنها من رصدها بشكل كامل، اضطرت لنشر قوائم الجامعات والمعاهد المعتمدة لديها، وذلك مع انطلاق العام الدراسي الجديد هذا العام، في سابقة برهنت على حجم التوسع الحاصل في الجهات التي تمنح شهادات مزورة.
ويذهب الأكاديمي ذاته إلى التعليم الجامعي المصري يعاني تدهوراً على كافة المستويات؛ لأن الأساتذة أضحوا على قناعة بأن رسائل الماجستير والدكتوراه يتم إعدادها في المكتبات، بدءاً من موضوع الرسالة والمشكلة والعنوان وجمع المعلومات الخاصة بها وفصولها ونتائجها التحليلية وتقريرها النهائي.
ويُعني ذلك وفق المصدر ذاته، أن الفوضى أضحت عارمة وأن عمليات التزوير معترف بها، وبالتالي فإن كثيراً من الأكاديميين يديرون ظهورهم عن تلك الممارسات، كما أن الطلاب منشغلون بكيفية الحصول على شهادات دون جهد أو تعب.
ونشر صحفي متخصص بملف التعليم بصحيفة الأهرام الحكومية المصرية، عبدالرحمن عبادي، تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قال فيها إن "عميد كلية في جامعة مصرية كبيرة -دون أن يسميه- تدخل شخصياً لتغيير نتيجة طالبة كويتية من "راسب" إلى "ناجح" بعد مرور شهرين من إعلان نتيجتها، رغم أنه تم التحقيق معه منذ عدة سنوات حول إصدار شهادات وهمية بمقابل مادي لطلاب كويتيين، وتم الاكتفاء بغلق مركز كان يديره.
السماح بالتزوير يستهدف التعليم الجامعي الحكومي المجاني
لدى العديد من السياسيين في مصر قناعة بأن ما يحدث على مستوى تزوير الشهادات لا ينفصل عن اتجاه أبناء الذوات في مصر للتعليم الأجنبي والجامعات الدولية، وبالتالي لم يعد هناك اهتمام بالتعليم الحكومي ولا خريجيه في الوقت الذي أصبحت فيه الأولوية في الوظائف إلى خريجي الجامعات الخاصة والدولية
ويبدو الأمر متعمَّداً في أحيان عديدة لإنهاء التعليم الجامعي المجاني، وإعادة ضبطه بآليات جديدة تُنهي ما يمر به من مشكلات.
ولا يمر شهر واحد دون الإعلان عن ضبط العديد من الأكاديميات الوهمية التي تمنح الشهادات العلمية والجامعية المزورة، وبحسب مصادر أمنية، فإن الوصول إلى تلك الجهات يكون على الأغلب من خلال الإعلانات المنتشرة في الطرق العامة ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من أدوات الاتصال العلنية.
وتؤكد المصادر التي تحدث إليها "عربي بوست" أن تلك الكيانات قد تكون عبارة عن شقة أو عمارة صغيرة، وتمنح من ينضمون إليها شهادات دراسية تخصصية نظير الحصول على مبالغ مالية من الطلاب، كما أنها تنظم دورات تدريبية ودراسية وهمية، تمكن من خلالها استقطاب العديد من الأشخاص راغبي الحصول على تلك الشهادات بمقابل مادي أيضاً.
ضبط 342 كياناً وهمياً في شهر واحد!
وتشير تقديرات وزارة الداخلية المصرية إلى أنها ضبطت خلال العام الماضي 342 كياناً وهمياً خاصاً يمنح الشهادات المزورة، حينما شنّت حملة مكبرة على تلك الكيانات في شهر أغسطس أي قبل انطلاق العام الدراسي الماضي بعدة أسابيع.
ودافع مصدر مطلع بوزارة التعليم العالي المصرية عن إجراءات وزارته للتعامل مع ملف تزوير الشهادات، مشيراً لوجود تعاون مع وزارة الداخلية لضبط المزورين بشكل مستمر، وأنه لا يمر شهر دون أن يكون هناك ضبط للعديد منهم، ما يشير إلى أن الحكومة جادة في إجراءاتها، لكنها تتعامل مع ظاهرة أضحت منتشرة في كثير من دول العالم، وليس مصر فقط.
ويضيف قائلاً: "هناك جامعات في قلب أوروبا والولايات المتحدة نفسها تنتشر فيها عمليات تزوير الشهادات، ومع التقنيات الحديثة يصعب ضبط الشهادات المزورة أو التعرف عليها، بل إن هرولة العديد من المصريين إلى بلدان مثل رومانيا وبولندا وروسيا للحصول على شهادات غير معروفة هويتها ومن جامعات ليست لديها سمعة دولية، وفي مقابل دفع أموال طائلة يؤكد أن مصر ليست الدولة الوحيدة التي تشهد مثل هذه الممارسات، وأن تسليط الضوء على الجامعات المصرية يرجع لكونها محل جذب العديد من الطلاب العرب.
مصدر حكومي: التزوير في كافة بلدان العالم وليس مصر فقط
وشدد المتحدث ذاته على أن بعض الدول تفتح المجال بشكل غير مباشر أمام الحصول على شهادات مزورة من خلال دفع الأموال، وهو أمر لا يحدث في مصر التي يتم فيها التزوير عبر الأبواب الخلفية، ولا يمكن القول إنه يتم بشكل رسمي، وأن اتهام الجامعات الحكومية وحدها كبوابة للتزوير أمر جانبه الصواب؛ لأن هناك مخالفات من جامعات خاصة ودولية.
وكانت وزارة التعليم العالي المصرية قد ناقشت في المجلس الأعلى للجامعات "قضية تزوير شهادات الخريجين" عام 2017 مع تصاعد الأزمة، قبيل إثارة القضية في الكويت، وخلصت إلى وضع ضوابط على الشهادات الجامعية بعلامات مائية لا تقبل التزوير، أشرفت عليها جهات سيادية بالدولة، لكن ذلك لم يوقف عمليات التزوير التي استمرت بتلك العلامات.
ويعاقب القانون المصري، وفقاً للمادة 211 من قانون العقوبات "كل شخص ليس موظفاً قام بارتكاب تزوير بالسجن المشدد، أو مدة قد تصل إلى 10 سنوات سجن"، وتنص المادة 214 من القانون ذاته على أنه من استعمل الأوراق المزورة المذكورة في المواد السابقة وهو يعلم تزويرها يعاقب بالسجن المشدد أو بالسجن لمدة 3 إلى 10 سنوات.