بدا أن الحكومة بدأت تشعر بأزمة هجرة أطباء مصر إلى الخارج خاصة مع التضييقات والضغوطات التي تعرّضوا لها إبان أزمة انتشار فيروس كورونا، وعليه تحاول الحكومة فتح حوارات مع الأطباء في الداخل لتحسين أوضاعهم، حتى لا يفكروا في الهجرة، ومن جهة أخرى تحاول إقناع بعض الأطباء في الخارج بالعودة إلى مصر والعمل فيها.
أثار اللقاء المغلق الذي عقدته وزيرة الهجرة المصرية سها جندي، مع عدد من كبار الأطباء المصريين في الخارج، العديد من التساؤلات في وقت يتصاعد فيه هروب الأطباء من أزمات عديدة تلاحقهم في الداخل مقابل امتيازات عديدة يحصلون عليها في دول الخليج وبعض البلدان الأوروبية.
تطرق اللقاء إلى مسألة العودة غير المباشرة للأطباء، عبر الحديث عن كيفية الاستفادة من خبراتهم في تطوير المنظومة الطبية، وجاء ذلك على هامش مؤتمر نظمته الوزارة للأطباء والعلماء المصريين في الداخل والخارج.
حاولت "عربي بوست" الوصول إلى معلومات عما دار في اللقاء الذي بدا أنه يحمل في خفاياه الكثير، وعلمت من مصدر مطلع شارك في الاجتماع الذي انعقد بمدينة الأقصر جنوباً، الجمعة الماضي، أن الوزيرة استمعت إلى رؤى الأطباء بشأن دوافعهم نحو ترك العمل في الداخل.
وما الإجراءات الواجب اتخاذها لتحسين بيئة العمل، ودفعهم مرة أخرى للعودة، مع إمكانية تولي بعضهم مناصب إدارية في مشروعات طبية من المتوقع أن تدشنها الحكومة خلال السنوات المقبلة.
تؤكد دراسة للمكتب الفني لوزارة الصحة المصرية أن عدد الأطباء البشريين المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء يبلغ حوالي 212 ألفاً و835 طبيباً، يعمل منهم حوالي 82 ألف طبيب، في جميع قطاعات الصحة، سواء بالمستشفيات التابعة للوزارة أو المستشفيات الجامعية الحكومية، أو القطاع الخاص، بنسبة 38% من إجمالي عدد الأطباء المسجلين الحاصلين على تراخيص مزاولة المهنة، ما يعني تسرب نحو 62% من الأطباء بالمنظومة الصحية.
وتشير إحصائية أخرى لنقابة الأطباء إلى أن نحو 7 آلاف طبيب يهاجرون سنوياً بسبب الإجراءات التعسفية ضد الأطباء، كما يستقيل نحو 10 آلاف طبيب من وظائفهم في المستشفيات الحكومية للعمل بعيادات خاصة.
أطباء مصر يوضحون أسباب هجرتهم والحكومة تعدهم بمناصب إدارية
استمعت الوزيرة -حسب المصدر- إلى الأطباء الذين عبروا عن وجود كم هائل من الأزمات لا تشجّع أياً منهم على العودة، في مقدمتها السياسة الخاطئة للحكومة في التعامل مع أزمة هجرة الأطباء.
وأشاروا إلى أن الحكومة بدلاً من معالجة جذور المشكلة، والعمل على حلها، سواء بتحسين مناخ البيئة التعليمية، وتوفير التأمين اللازم للهيئات الطبية، أو عبر الاستجابة لمطالبهم المالية بزيادة الرواتب وبدلات خطر العدوى، فإنها سارعت نحو الحل الأسرع متمثلاً في زيادة كليات الطب الخاصة والحكومية، لمواجهة العجز الصارخ في أعداد الأطباء بالمستشفيات الحكومية.
يشير المصدر، والذي كان ضمن وفد الأطباء الذي حضر الاجتماع، إلى أن الوزيرة تلقت مطالب بضرورة إعادة النظر في زيادة معدلات القبول في كليات الطب، باعتبارها الخطوة الأولى نحو تراجع المهنة التي تحظى بسمعة طيبة في الخارج.
إلى جانب إعادة هيكلة أجور الأطباء ومنحهم حوافز مجتمعية تتماشى مع قيمتهم العلمية والإنسانية، والاهتمام بالجوانب البحثية وربطها بالمستشفيات الحكومية لتطوير المهنة، ونهاية بإشراك الأطباء في وضع استراتيجية منظومة التأمين الصحي الشاملة بما يضمن وجود بيئة جاذبة لخريجي كليات الطب للعمل في المستشفيات الحكومية.
قالت الوزيرة المصرية في بيان صحافي صادر عن وزارتها، إنها "عقدت لقاءً مع عدد كبير من الأطباء المصريين في الخارج للاستماع لرؤاهم ومقترحاتهم وأفكارهم بشأن دعم تطوير القطاع الطبي والصحي بمصر وكيفية الربط بين خبرات المصريين بالخارج والداخل لتحقيق التواصل الدائم مع أبناء مصر بالخارج والاستفادة منهم في عملية التنمية".
قاعدة بيانات للأطباء المصريين في الخارج
تحدثت الوزيرة المصرية أيضاً عن رغبة الحكومة في إنشاء قاعدة بيانات للعلماء والخبراء المصريين بالخارج تتضمن تخصصاتهم من أجل حوكمة واستدامة التواصل معهم لتحقيق الاستفادة من خبراتهم، وهو ما اعتبره عدد من الأطباء محاولة للتعرف على فشلها في إقناعهم بالبقاء بالرغم من اتخاذ إجراءات تضييق من الهجرة إلى الخارج مع التعنت المستمر في منحهم إجازات دورية.
وفي شهر يوليو الماضي، طالب وزير الصحة المصري خالد عبد الغفار، باستثناء الأطباء والتمريض من قرار رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، بشأن مدد الإعارات والإجازات الخاصة دون أجر للعمل بالخارج، وأرجع ذلك للعجز الشديد في أعداد الأطباء والأطقم الطبية المعاونة في مصر.
وكان رئيس الحكومة المصرية أصدر قراراً في مايو الماضي، بإطلاق مدد الإعارات والإجازات الخاصة دون أجر للعمل بالخارج للموظفين الخاضعين لأحكام قانون الخدمة المدنية، والعاملين بشركات القطاع العام، والعاملين بالهيئات الخدمية والاقتصادية، فضلاً عن العاملين بالشركات التي تمتلك فيها الدولة حصة حاكمة، والمؤسسات الصحفية القومية.
الترهيب والترغيب.. بين التضييق على الإجازات والحوار مع أطباء الخارج
ويقول عضو بمجلس نقابة الأطباء، شريطة عدم ذكر اسمه، أن الحكومة تستخدم أسلوب الترهيب والترغيب في مساعيها نحو عرقلة هجرة الأطباء، إذ إنها تظهر بوجه إيجابي حينما تتواصل مع الأطباء عبر وزيرة الهجرة وليس وزير الصحة المنوط به الاستماع إليهم.
وفي المقابل، فإنها تواصل تعنتها في الموافقة على إجازات الأطباء، بل إنها تعد الفئة الوحيدة في المجتمع التي تحظى بتأخر الإجراءات وعرقلة إتمامها، أملاً في تغيير مواقف الأطباء من السفر.
ويضيف لـ"عربي بوست" أن مطالبات وزير الصحة من المتوقع النقاش بشأنها تحت قبة البرلمان، وأن نقابة الأطباء ستتقدم بطلب يرفض التعامل مع أعضائها بمعزل عن باقي النقابات المهنية والمناصب الحكومية.
وسيكون من شأن ذلك دخول الأطباء في مزيد من الأزمات مع الحكومة، في حين أن لقاء وزيرة الهجرة وإن كان إيجابياً للاستماع إلى الأطباء ومطالبهم، فإنه لا يخرج عن كونه إجراء برتوكولياً، لا يؤشر على أن هناك متغيراً بشأن أوضاع الأطباء في الداخل.
ترك الأطباء مهنتهم: خسارة أكثر فداحة من هجرتهم للخارج
يلفت عضو نقابة الأطباء إلى أن الأرقام المعلنة بشأن هجرة الأطباء لا تُعبّر عن الواقع الذي يعد أكثر فداحة، وأن الأمر لا يرتبط فقط بالهجرة، لكن الأبرز أن العديد من الأطباء تركوا مهنة الطب خلال العامين الماضيين بشكل نهائي واتجهوا، إما لإنشاء شركات توريدات طبية، أو مستلزمات طبية، أو عملوا في مجالات تجارية أخرى، وهؤلاء قد يكونوا فشلوا في الهجرة أو قرروا الهروب من جحيم المستشفيات الحكومية.
برأي الطبيب ذاته، فإن الأطباء المهاجرين يمكن الاستفادة منهم بشكل غير مباشر، سواء كان ذلك من خلال عمليات تبادل الخبرات مع الأطباء الموجودين في الداخل أو لعودة بعضهم إلى الداخل مرة أخرى لسبب أو لآخر، لكن من يترك مهنته ليس هناك أمل في الاستفادة منه مجدداً، وهؤلاء قامت الحكومة بدعم تعليمهم بمبالغ هائلة، لكنها لم تستطع الحفاظ عليهم بعد تخرجهم.
وتحدد وزارة الصحة معدلات الأطباء الذين تركوا المهنة وفقاً للأرقام المدونة لديها للأطباء الذين حصلوا على إجازات، لكن هناك مئات بل آلاف الأطباء الذين فشلوا في الحصول على إجازات لأسباب تتعلق بتعنت الجهات الحكومية، وقرروا الهروب أو السفر إلى الخارج دون تسوية وضعهم الحكومي، وهؤلاء بحسب المتحدث ذاته، لا يمكن أن يعودوا مرة أخرى إلى الداخل على الأقل في الوقت الحالي.
وفقاً لنقابة الأطباء المصرية، فقد استقال 934 طبيباً خلال 3 أشهر فقط من يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار الماضي، ليصبح العدد الإجمالي للأطباء المستقيلين منذ عام 2016 حوالي 17741 طبيباً، بخلاف المنقطعين عن العمل ومن يحصلون على إجازات طويلة بهدف العمل في الخارج.
وتكون وجهة الأطباء المصريين الأولى إلى دول الخليج، التي توفر عوائد مادية وبيئة صحية أفضل من الموجودة في مصر، وتليها بريطانيا، وكشف تقرير صادر عن القوى العاملة في بريطانيا عن ارتفاع نسبة الأطباء المصريين المهاجرين إلى هناك بنسبة تزيد على 200% منذ عام 2017 حتى عام 2021، وتأتي مصر بعد الأردن والسودان في دول الشرق الأوسط بالنسبة لعدد الأطباء المهاجرين إلى بريطانيا، حسب ما ذكره التقرير.
أطباء يرون أن تحركات الحكومة تدفعهم للهجرة على نحو أكبر
يلفت عضو بمجلس نقابة الأطباء إلى أن التحركات الحالية التي تقوم بها وزارة الصحة تدفع الأطباء للهجرة على نحو أكبر، لأنه لم يتم عرض أي محفزات حقيقية قادرة على جذبهم مرة أخرى، وعلى النقيض تماماً فإن قانون المسؤولية الطبية بصيغته الحالية التي تقدم بها عدد من النواب المحسوبين على الحكومة سيساهم في هجرة ما تبقى من الأطباء المصريين.
وجهة نظر الطبيب التي قالها لـ"عربي بوست" فإن القانون يضاعف من العقوبات المفروضة على الأطباء، بدلاً من أن يوفر لهم الحماية القانونية، لأنه يقضي بتطبيق عقوبتي الحبس والغرامة مجتمعتين على مقدم الخدمة الذي تسبب في ضرر طبي أو انتقص من التدوين في السجلات الطبية، مساوياً بينه وبين مقدم الخدمة غير المرخص له.
وزاد من أعباء مقدم الخدمة بمسؤوليته عن صلاحية الأجهزة والأدوات الطبية المستخدمة، والتي من المفترض أنها مسؤولية المنشأة، ووفقاً للمتحدث ذاته، فإن تلك المادة غير منطقية بالأساس، لأن الطبيب ليس مهندساً لديه القدرة على التعرف على ما إذا كانت الأجهزة الطبية تعمل بكفاءة من عدمه، كما أن مشروع القانون المتداول لم ينص على تشكيل لجان فنية نوعية في التخصصات الطبية المختلفة تنظر تحديد المسؤولية عن الضرر الطبي.
المسؤولية الطبية والفاتورة الإلكترونية صدامات جديدة بين الحكومة والأطباء
وقبل أيام أحال رئيس مجلس النواب المصري، المستشار حنفي الجبالي، مشروع قـانون المسؤولية الطبية، الذي تقدم به الدكتور أشرف حاتم، رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، و60 نائباً، إلى لجنة مشتركة من لجنتي الشؤون الصحية والشؤون الدستورية والتشريعية، وتروج الحكومة لأن القانون كان مطلباً للأطباء منذ 7 سنوات، ويطبق مثله في العديد من الدول الأوروبية، لكن الأطباء يعترضون على بعض تفاصيله.
وحرر المرضى في مصر أكثر من 54 ألف محضر مسؤولية طبية ضد الأطباء سنوياً، وفقاً لنقابة الأطباء، ويعاقبون وفقاً لقانون العقوبات الجنائي، والذي يقضي أيضاً بعقوبة الحبس في حال ثبت الخطأ الطبي ضد الطبيب، وهو أمر لا يتم تطبيقه في أغلب دول العالم التي لديها قوانين خاصة بالمحاسبة الطبية، وتفرق ما بين المضاعفات المرضية والخطأ الطبي والإهمال الجسيم، أو ما نسميه الجرائم الطبية، وما نادت به نقابة الأطباء كثيراً لكن الاستجابة لمشروعات القوانين التي تقدمت بها.
ويشكو الأطباء بشكل يومي تقريباً من استمرار الاعتداءات عليهم في المستشفيات والهيئات الحكومية، منها واقعة اعتداء عدد مرافقي أحد المرضى التي تبين بعد ذلك أنها زوجة أحد ضباط الجيش على الطاقم الطبي داخل مستشفى قويسنا المركزي في محافظة المنوفية.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة على منصات التواصل تعرّض الطاقم الطبي في مستشفى قويسنا المركزي لهجوم من قبل مرافقي أحد المرضى، حيث علا الصراخ واشتد الضرب بين كلا الطرفين باستخدام العصي والأيدي.
حادث قويسنا يسلط الضوء على متاعب الأطباء
ودخلت القوات المسلحة ووزارة الصحة على خط الأزمة التي أخذت أبعاداً سياسية، وتم إحالتها إلى القضاء المدني، وراجت معلومات أيضاً حول إحالتها للقضاء العسكري لمساءلة ضابط الجيش الذي يخضع للقضاء العسكري.
ويوم الثلاثاء، أمرت النيابة العامة بحبس 6 أشخاص 4 أيام احتياطيّاً على ذمة التحقيقات؛ لاتهامهم بالتعدي بالضرب على طبيب وطاقم تمريض وفرد أمن بمستشفى إيتاي البارود العام، وإتلاف أجهزة طبية بها.
وجاء الاشتباك بعد أن بادر أحدهم بصفع ممرضة لخلاف معها، فتدخل الطاقم الطبي للذود عنها، و فوجئوا باعتداء المتهمين عليهم وإحداث إصابات بهم وإتلاف أجهزة بالمستشفى، وقد عاينت النيابة العامة تلك التليفات بها.
وتدخل نقابة الأطباء في أزمة أخرى مع الحكومة من المتوقع أن تأخذ في التصاعد خلال الأيام المقبلة نتيجة إرغام النقابات المهنية على إخضاع أعضائها لنظام الفاتورة الإلكترونية، ووفقاً لمصدر بنقابة الأطباء فإن الأطباء لن يستجيبوا للموعد النهائي الذي حددته الحكومة للتسجيل إلكترونياً في منتصف الشهر الجاري، وهو موعد ملغى لحين عقد اجتماع بين مجلس النقابة ووزارة المالية لمناقشة المشكلة.
ويؤكد المتحدث ذاته أن مجلس النقابة سيدعو إلى جمعية عمومية طارئة لعموم الأطباء لمناقشة أزمة قانون المسؤولية الطبية والفاتورة الإلكترونية، وقد تكون هناك إجراءات تصعيدية إذا لم تتم الاستجابة لمطالب الأطباء، تحديداً وأن تطبيق الفاتورة إلكترونية على الأطباء يصعب تنفيذه لأن كثيراً من العيادات الخاصة موجودة في مناطق نائية لا تتوفر فيها الخدمات الإلكترونية.
ويشدد على أن كل هذه الأزمات لا تشجع على عودة العقول المهاجرة للخارج، وهناك عشرات الأزمات التي تتركها الحكومة بلا حل، ودون أن تخوض لقاء فعلياً من الممكن أن تخرج عنه نتائج إيجابية تُبشر بأن هناك تغيراً في رؤيتها تجاه الأطباء، وبما يدعم إعادة بناء جسور الثقة بين الأطباء والأجهزة الحكومية المختلفة.