سلط احتفال السفارة الأميركية بالقاهرة الأسبوع الماضي بمقابر "ليشع ومنشا" اليهودية، بعد إعادة ترميمها، الضوء على الاهتمام المتزايد بالمعابد والمقابر اليهودية في مصر خلال العامين الماضيين، خاصة بعد إعادة افتتاح المعبد اليهودي في الإسكندرية عقب سنوات طويلة من إغلاقه، فلماذا الاهتمام الآن بالمعالم اليهودية؟ وما هي هذه المقابر التي أثارت الجدل؟
مقابر "ليشع ومنشا" هي جزء من مقابر اليهود، أو مقابر البساتين، وهي من أقدم المقابر اليهودية الصالحة للزيارة في العالم، ويُنسب اسمها إلى عائلة "ميانشة"، واحدة من آلاف العائلات اليهودية التي عاشت في مصر مطلع القرن العشرين، وكذلك مقبرة مراد فرج يوسف (ليشع)، الذي توفي عام 1956، وهو يهودي مصري يتبع طائفة القرائيين، وكان أحد أعضاء مجمع اللغة العربية، ولديه عدد من المؤلفات القانونية.
تقع المقبرة في منطقة البساتين جنوب القاهرة، وفي تلك المنطقة قام اليهود المصريون، الذين هاجر أغلبهم من مصر منذ خمسينيات القرن الماضي، بدفن ذويهم بها، ومع تراجع أعداد اليهود جرى إهمال المقبرة العائلية، وتم استخدامها من جانب السكان المقيمين في تلك المنطقة، قبل أن تلتفت إليها السفارة الأميركية وجهات إسرائيلية ويهودية عام 2020.
ليشع ومنشا مشروع السفارة الأميركية
أطلقت السفارة الأمريكية بالقاهرة مشروعاً للحفاظ على تراث مقابر اليهود بمنطقة البساتين، وبررت ذلك بأن "الحفاظ على هذا الموقع التراثي يسهم في إلقاء الضوء على التنوع التاريخي والتعددية الثقافية في مصر، وفرصة لزيادة الوعي بالتعددية في مصر".
قبل عامين تقريباً أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن تقديم منحة قدرها 150 ألف دولار (أي ما يعادل 2.25 مليون جنيه مصري) كجزء من صندوق السفراء الأمريكيين للحفاظ على التراث الثقافي إلى مركز الأبحاث الأمريكي ARCE والمؤسسة الشريكة Drop of Milk Foundation لتمويل ترميم المقبرة.
وساهم عدد من اليهود القرائيين في الولايات المتحدة بجزء من تمويل إعادة الترميم، مما أضاف وسائل إضافية ومناظر طبيعية للحديقة التذكارية في الموقع، بحسب ما ذكرته السفارة الأميركية في بيان لها، تزامناً مع افتتاح المقبرة.
يقول المهندس ياسر محمود، وهو أحد المعماريين المصريين، الذي شارك في عملية الترميم، إنه كان مقرراً الانتهاء من افتتاح المقبرة العام الماضي، لكن تم التأجيل إلى نهاية العام الحالي بسبب الإجراءات الصحية التي فرضها انتشار فيروس كورونا.
جمعيات أهلية معنية بحماية التراث اليهودي تشارك في التطوير
ويضيف أن السفارة الأميركية إلى جانب عدد من الجهات الأهلية ذات الاهتمام بعملية الحفاظ على التراث وفي القلب منها جمعية "قطرة اللبن" والمعنية بحماية التراث اليهودي شاركت في عملية الترميم، وأن المهمة الأولى تمثلت في تطهير موقع مقابر اليهود التي بدأ الناس استخدامها كمناطق سكنية في ظل عدم توافد أي شخص عليها منذ سنوات طويلة.
ويؤكد أن عملية الترميم شهدت العديد من الصعوبات في ظل تعرّض بعض المقابر للسرقة وتهدم العديد من الأبواب والأسوار المحيطة والأعمدة الرخامية المحيطة بها، كما أن الأساسات كانت في حالة سيئة وأضحت عرضة للسقوط في أي وقت، وكانت هناك تصدعات عديدة جرى التعامل معها، مشيراً إلى أن المبنى الذي يأخذ شكل قبة خضع للترميم بشكل كامل إلى جانب المقابر الموجودة أسفله.
يلفت المهندس ذاته إلى أن كثير من أساسات المقابر خضعت إلى معالجات على يد خبراء الترميم كما أن العديد من الحرفيين القانطين بجوار منطقة البساتين بمصر القديمة شاركوا في عملية إعادة الترميم، وأن العمل استمر قرابة العام ونصف العام.
أنشئت مقابر اليهود بالبساتين تقع على مساحة تبلغ 120 فداناً ووصلت الآن لنحو 27 فداناً فقط بعد استقطاع مساحات من الأراضي الخاصة بها، وخصص السلطان أحمد بن طولون موقع إقامة هذه المقابر قبل أحد عشر قرناً، في منطقة بها أراضٍ زراعية ممتدة، كانت تسمى آنذاك "بساتين السلطان.
وخُصصت لدفن موتى اليهود من طائفتي القرائيين والربانيين، وتُعد ثاني أقدم مقبرة يهودية في العالم، بعد مقبرة "جبل الزيتون" في القدس، وتضم في ثراها رفات اليهود المصريين الذين كانوا يعيشون في مصر.
طبيب صلاح الدين الأيوبي وأحد كتّاب الكتاب المقدّس ضمن رفات مقابر اليهود بالبساتين
وتحتوي مقابر اليهود في البساتين على رفات المئات من اليهود المصريين، وفقاً لخبير أثري مصري، ضمنها مقبرة "سعديا غاؤون"، وهو من اليهود الذين كتبوا الكتاب المقدّس، و"يعقوب بن كلس"، الذي كلفه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي بولاية الضرائب، وكذلك "موسى بن ميمون" الذي استقر في مصر منذ عام 1165 ميلادية وشغل منصب طبيب بلاط السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان يشغل منصب نقيب الطائفة اليهودية.
وتضم المقابر أيضَاً، بحسب الخبير، بعض أفراد عائلة "موصيري" والتي استقرت في مصر بالنصف الثاني من القرن الثامن عشر وتعد من أشهر العائلات الاقتصادية الكبرى وأسست شركة فنادق مصر الكبرى، وبنت فنادق شهيرة ما زال بعضها قائماً حتى يومنا هذا، مثل: مينا هاوس، سان ستيفانو، سافوي، وكونتيننتال، والفنانة كاميليا التي ذاع صيتها في أربعينيات القرن الماضي، وارتبط اسمها بعدة حوادث وألغاز سياسية ومخابراتية.
وفي مقابر البساتين أيضاً رفات المحامي والسياسي اليهودي المصري الشهير شحاتة هارون، والد رئيسة الطائفة اليهودية الحالية في مصر ماجدة هارون، الذي رفض الخروج من مصر خلال هجرة اليهود منها لإسرائيل، وعاش بها حتى توفي في بداية الألفية الجديدة، ودُفن في مقبرة مع ابنته نادية.
وكذلك عائلة قطاوي التي وصلت إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، وسطع نجمها حتى منتصف القرن العشرين وتُعد أول عائلة يهودية يتم انتخاب 3 من أفرادها داخل البرلمان المصري، ويوسف القدسي، ويعدّ من أبرز التجار المعروفين في ثلاثينيات القرن الماضي، وساهمت تلك العائلة في بناء معبد اليهود الشهير بشارع عدلي وسط القاهرة.
60 مقبرة يهودية مسجّلة لدى وزارة الآثار المصرية
يوضح مصدر بوزارة الآثار لـ"عربي بوست" أن مقابر البساتين ليست الوحيدة التي دُفن بها اليهود المصريون، وتقدّر أعدادها بالآلاف ويوجد أغلبها في محافظات القاهرة والإسكندرية وعدد قليل منها بمحافظة المنيا، واختارت لجنة شكلتها إدارة الآثار اليهودية التابعة لوزارة الآثار المصرية 60 مقبرة لتسجيلها ضمن التراث اليهودي في مصر أغلبها بمحافظة الإسكندرية.
وقامت الوزارة منذ عام 2018 بإخضاع تلك المقابر لقانون حماية الآثار المصري، حيث يتم توثيق كل قبر بشخصه وتصوير المقبرة من جميع الجهات الأربعة وتحديد تاريخها وترجمة الكتابات المدونة عليها وتحديد بيانات المتوفى، هل من أعيان اليهود أو العامة أو الأثرياء أو من الأحبار أو الحاخامات أو من التجار.
وكذا الرسومات ووقت الدفن وهل يوجد علامة داوود على القبر أم لا، فضلاً عن وصف الشاهد بما يحيط به، سواء كان يوجد أسدان على الباب الرئيسى له أو نافورة، بحسب مصدر بوزارة الآثار.
تحتوي محافظة الإسكندرية على الجزء الأكبر من مقابر لليهود، وتهتم وزارة الآثار المصرية تحديداً بـ3 مقابر والتراكيب المميزة و المتفردة، التي تخص المشاهير من اليهود والحاخامات في منطقتي الأزاريطة والشاطبي 1 و2، وهي مقابر على شكل معابد وفيلات لأشهر العائلات اليهودية، منها عائلة يعقوب منشا الذي جدّد بناء معبد منشا بالإسكندرية، العائد تاريخ بنائه إلى سنة 1860.
وتشير وزارة الآثار المصرية إلى أن مساحة المقابر الثلاث تبلغ حوالي 15 فداناً وعمرها 170 سنة، وتضم عشرات الآلاف من الشواهد، ومنها مقبرة تتميّز بتصميم جمالي وزخارف، وبها أحواش كاملة البناء تشبه "المعابد الصغيرة"، فضلاً عن أنها تضم قبور عشرات العائلات اليهودية المشهورة.
وسجلت لجنة الآثار اليهودية 10 معابد يهودية في مصر مقسمة ما بين القاهرة والإسكندرية وبعض مدن الدلتا، وأصبحت هذه المقدسات والآثار اليهودية خاضعة لقانون حماية الآثار الذي يلزم الحكومة بالحفاظ عليها وترميمها وتسجيلها في الوكالات الدولية ووضعها على خريطة الزيارات والمناطق الأثرية في البلاد.
ترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية فتح الباب أمام مزيد من الترميمات
وفي العام 2020 افتتحت الحكومة المصرية معبد "الياهو حانبي" والمعروف شعبياً، بـ"المعبد اليهودي"، والكائن في شارع النبى دانيال وسط الإسكندرية، بعد 3 سنوات على انطلاق عملية إعادة ترميمه بتكلفة وصلت إلى 70 مليون جنيه تكلفتها بشكل كامل، ووصفته بأنه مزارا دينيا وسياحيا مهما لأبناء الطائفة فى مصر والخارج، خاصة لما تبقى من يهود الثغر، حيث تعتبره الطائفة الإسرائيلية بمثابة "قدس أقداس" لها على أرض عروس البحر الأبيض المتوسط.
ويعتبر المعبد من أقدم معابد الإسكندرية، حيث أسس لأول مرة عام (1354م)، ويمثل المعبد أهمية دينية كبيرة لليهود حول العالم لاعتقادهم أن النبي إلياهو ظهر بعد وفاته لحاخامات اليهود بالمدينة فى نفس المكان المقام عليه المعبد الآن، وأن ظهوره يأتى قبل ظهور المسيح المخلص أو الميسا أو الميشا، ولليهود اعتقاد فى ظهوره قبل عيد الفصح اليهودى، فيما يشبه التجلي لدى المسيحيين بالنسبة للسيدة العذراء مريم – عليها السلام -.
ويقول قيادي بوزارة الآثار بمحافظة الإسكندرية، إن الحكومة المصرية أخذت في التحرك نحو إعادة ترميم المقابر والمعابد اليهودية بعد أن توالت الانتقادات الخارجية إليها بسبب إهمالها، وأن رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، ماجدة هارون، قادت حملة عالمية في عامي 2017 و2018، ونشرت بالصور تفاصيل ما تعرضت له الآثار والمقابر اليهودية التي طالها الإهمال لسنوات طويلة، ما كان دافعاً لتحرك الحكومة المصرية بالتعاون مع جهات أميركية وإسرائيلية.
السيسي تعهّد بتنظيف مقابر اليهود وتطويرها
وفي ذلك الحين تحدث بالفعل الرئيس عبد الفتاح السيسي عن ترحيبه بـ"عودة اليهود المصريين، وتعهد بتنظيف المقابر وحماية التراث، وهو ما أثار ضجة وتأويلات متعددة حول الأبعاد السياسية لقراره، في وقت شهدت فيه البلاد تقارباً مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
ويشير إلى أن الطائفة اليهودية وظفت تصريحات الرئيس والاستجابة التي ظهرت من خلال تدشين لجان حصر المعابد والمقابر للضغط باتجاه إعادة ترميم الجزء الأكبر منها، وتستمر في خططها حتى الآن بالتعاون مع السفارة الأميركية بالقاهرة وجهات يهودية إسرائيلية عديدة.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن اللجنة التي شكلتها إدارة الآثار اليهودية بالوزارة مستمرة في حصر المعابد ومن المتوقع أن تُعلن خلال الفترة المقبلة عن ضم عشرات المقابر لقانون حماية التراث استعداداً لتطويرها وعدم السماح بالاعتداء عليها.
وفي إبريل الماضي بدأت وزارة السياحة والآثار المصرية في تنفيذ مشروع ترميم معبد بن عزرا بمنطقة مجمع الأديان بمصر القديمة، وبحسب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، فإن المعبد الذي يقع داخل حصن بابليون، يعد أقدم معبد يهودي في مصر والشرق الأوسط، وجرى تشكيل لجنة مشتركة بالتعاون مع قطاع المشروعات بالمجلس الأعلى للآثار للبدء في مشروع ترميم المعبد، إذ إنّ آخر أعمال الترميم تمت به كانت سنة 1991.
وكان المعبد مركزًا للعديد من الاحتفالات والتجمعات والصلوات، لكنه لم يعد مستخدما اليوم، يعتقد البعض أنها كانت ذات يوم كنيسة قبطية أرثوذكسية تم بيعها لأفراد الجالية اليهودية في مصر عام 882 م، وقد تم تسمية المعبد على اسم عزرا العالم الديني والفيلسوف اليهودي.
خطة الحكومة المصرية لتسويق سجلها الحقوقي
وقدَرت رئيسة الطائفة اليهودية في مصر ماجدة هارون، في تصريحات إعلامية سابقة، عدد المعابد والمقابر اليهودية في مصر بـ14 معبدا ومقابر ونسخ تاريخية من أسفار التوراة، فضلا عن ثلاث مكتبات تعج بمئات الكتب النادرة المكتوبة باللغة العبرية والعربية وثلاث مدارس، وأكثر من 200 ألف وثيقة يعود أقدمها إلى القرن الـ11 الميلادي، وتتنوع هذه الوثائق بين عقود زواج وطلاق ومواليد ومخطوطات توثق حياة اليهود المصريين منذ الخلافة الفاطمية، والدولة الأيوبية، وعصر المماليك.
ويشير باحث بوزارة الآثار المصرية أن مصر تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف وراء عمليات إعادة ترميم المناطق الأثرية اليهودية، إذ أنها تأتي ضمن خطة عامة لإعادة ترميم الآثار الإسلامية والمسيحية واليهودية بميزانية تتجاوز المليار جنيه.
تستهدف الخطة إعادة التسويق إلى مصر سياحيًا باعتبارها أرض الأديان السماوية القديمة، كما أنها تستهدف جذب اليهود إلى جذورهم المصرية مرة أخرى بما يبدد التهم المغلوطة الموجهة للدولة المصرية بأنها من قامت بطردهم.
ويضيف أن الأبعاد السياسية حاضرة أيضًا لأن القاهرة تستفيد من ملايين الدولارات التي توجهها مؤسسات أميركية لحماية التراث في مصر وأن إهمال المعابد والآثار اليهودية كان سيقود لوقف عمليات التمويل، وبما يؤكد على احترام مصر على مواطنيها الذين لهم جذور مصرية ضمن إستراتيجية للاهتمام بحقوق الإنسان.
وشهد العامان الماضيان زيادة وتيرة زيارات الحاخامات اليهود إلى مصر، كما أن الاهتمام بالمقابر القديمة دفع بأعداد من اليهود المصريين الذين رحلوا قبل نحو 70 عاما وأسرهم لزيارة الوطن الأم، بينهم الأخوين الأستراليين أليكس وجاك مارس قصدا مصر للمرة الأولى مطلع العام 2020 لزيارة منزل جدهما اليهودي المصري نسيم مارس الذي تركت عائلته البلاد ورحلت بعد اشتعال الصراع العربي – الإسرائيلي عام 1948 ولم يعد أحد من عائلته أبدا منذ ذلك الوقت.