كشف مسؤولون أمريكيون الكواليس التي عاشتها إدارة الرئيس جو بايدن خلال الساعات الأولى عقب سقوط الصاروخ "الطائش" على بولندا قادماً من أوكرانيا، الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حينما كان بايدن نائماً على الجانب الآخر من الكرة الأرضية قبل أن يوقظه مساعدوه في منتصف الليل بخبر عاجل: هناك صاروخ ضرب بولندا وقتل شخصين، وفق شبكة CNN الأمريكية.
ودخل بايدن في مكالمةٍ هاتفية مع نظيره البولندي أندجي دودا في الـ5:30 صباحاً بالتوقيت المحلي لبالي في إندونيسيا؛ حيث كان متواجداً هناك لحضور قمة العشرين. وحاول بايدن أن يستوضح من دودا مصدر الصاروخ، وهو الأمر الذي يمثل حقيقةً حاسمة؛ نظراً لتداعياتها الوخيمة المحتملة في حال ضربت روسيا صاروخاً على إحدى دول الناتو.
كما استيقظ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي رافق بايدن في رحلته، على وقع طرقات مساعده الشخصي على الباب في الرابعة صباحاً بالتوقيت المحلي، حتى ينقل إليه خبر الانفجار بحسب تصريحات مسؤولٍ أمريكي.
واكتشف غالبية المسؤولين الأمريكيين أمر الانفجار من التقارير العلنية ومحادثاتهم مع المسؤولين البولنديين. في حين تحدث بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى نظيريهما البولنديين، ثم انضما إلى بايدن في محادثته مع دودا.
وسمع المسؤولون البولنديون بأمر الانفجار المحتمل في بلدة بشيفودوف على الحدود الشرقية للمرة الأولى في نحو الـ10 صباحاً بالتوقيت الشرقي (أي 11 مساءً بتوقيت بالي)، حسب المصادر التي نقلت عنها "سي إن إن". وبدأت المعلومات تتسرب إلى وسائل الإعلام وتُنقل إلى الحلفاء في الساعة الواحدة ظهراً بالتوقيت الشرقي تقريباً (أي الثانية صباحاً بتوقيت بالي).
ارتياح أمريكي بعد قلق
في تلك الأثناء، عكف المسؤولون الأمريكيون على مراجعة أنظمة الاستخبارات بالأقمار الصناعية وتحدثوا إلى أقرانهم البولنديين. ومع انقضاء النهار ببطء ووصول المزيد من المعلومات الاستخباراتية، بدأ يتضح للمسؤولين الأمريكيين أن الصاروخ الذي سقط على مزرعةٍ في أقصى شرق البلاد قد تم إطلاقه من أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية على ما يبدو.
وخرج بايدن أولاً لتهدئة التوترات بعد ساعات من القلق؛ حيث أخبر المراسلين بأن المعلومات الأولية تُشير إلى أن الصاروخ لم ينطلق من روسيا.
وظهر الارتياح جلياً على المسؤولين الأمريكيين؛ إذ جاءت الاستخبارات الأولية بمعلومات تناقض أسوأ مخاوفهم، وأوضحت أن روسيا لم تتعمد الهجوم على بولندا، بحسب أحد المسؤولين.
لكن هذه الواقعة مثّلت موقفاً لطالما كان مرعباً لبايدن ومستشاريه، ألا وهو تنفيذ ضربةٍ غير مقصودة على أراضي الناتو، وهو موقفٌ لا تزال تداعياته وعواقبه غامضة.
مطالبة أوكرانيا بتوخِّي الحذر
من جانب آخر، طالب مستشارو بايدن الجميع بالتزام الهدوء والصبر في ظل هذا الوضع المتقلب، وخاصةً المسؤولين الأوكرانيين.
إذ خرج فولوديمير زيلينسكي بعد نحو ساعة من انتشار خبر الواقعة ليقول في خطابه المسائي إن "صاروخاً روسياً قد ضرب بولندا"، ووصف الواقعة بأنها "تصعيدٌ كبير للغاية"، وتتطلب الرد.
وسرعان ما اتصل سوليفان بمكتب زيلينسكي بعد هذه التصريحات وحثّ المسؤولين على توخِّي الحذر في حديثهم عن الواقعة، وفقاً لمصادر مطلعة على تلك المكالمة. ولم يتحدث بايدن وزيلينسكي في مساء الثلاثاء رغم طلبات الزعيم الأوكراني لترتيب مكالمة هاتفية، وفقاً لمصدر مطلع.
واتفقت الولايات المتحدة مع بولندا سريعاً على التعاون المكثف في التحقيق المرتبط بالصاروخ؛ حيث التقى مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز بالرئيس دودا في وارسو مساء الأربعاء 16 نوفمبر/تشرين الثاني، وفقاً لمسؤولٍ أمريكي.
يُذكر أن بيرنز كان متحصناً داخل السفارة الأمريكية في كييف قبلها بساعات فقط، أثناء قصف الصواريخ الروسية للمدينة. لكن الواقعة أحدثت بعض الصدوع في تحالف الغرب مع أوكرانيا أيضاً.
حيث خرج بايدن ودودا ليخبرا الرأي العام بأن الصاروخ يبدو وكأنه انطلق من منظومة الدفاع الجوي الأوكرانية. بينما استمر زيلينسكي في إنكار هذا الزعم بشدة، مما أثار إحباط المسؤولين البولنديين، بحسب المصادر.
وتحدّث بايدن مع دودا والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في أعقاب الانفجار، كما أجرى محادثات طارئة مع زعماء العالم في قمة العشرين. لكن بايدن لم يتحدث إلى زيلينسكي مباشرة حتى ظهر الأربعاء، وفقاً لما أفادت به المصادر المطلعة لشبكة "سي إن إن" الأمريكية.
بينما تحدث سوليفان مع رئيس مكتب زيلينسكي في الساعات التي أعقبت الانفجار وفقاً للمصادر. كما تحدث بلينكن مع نظيره الأوكراني دميترو كوليبا.
وطلبت أوكرانيا الانضمام إلى فريق التحقيقات الذي ضم مسؤولين أمريكيين وبولنديين لفحص موقع الضربة الصاروخية، حسب ما أفاد به زيلينسكي الأربعاء. لكن الطلب لم يُقبل بعد.
سباق البنتاغون مع الزمن
وبالعودة إلى يوم الثلاثاء في واشنطن، سنجد أن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، كان في اجتماع مع نائبته كاثلين هيكس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي، عندما قطع أحد المساعدين اجتماعهم بنبأ الانفجار. ليهرع المسؤولون الثلاثة للاتصال بنظرائهم البولنديين على الفور.
وبعدها بفترةٍ وجيزة في حدود الثانية ظهراً، كان المتحدث باسم البنتاغون العميد بات رايدر على بعد دقائق من الموعد المقرر لمؤتمرٍ صحفي. لكنَّ مسؤولي البنتاغون كانوا قد سمعوا بأمر الصاروخ الذي ضرب بولندا من وسائل الإعلام للتو، ولم يكن لدى البنتاغون ما يُثبت إصابة صاروخ روسي لأراضي الناتو.
وكان على مسؤولي البنتاغون أن يقرروا ما إذا كانوا سيعقدون المؤتمر الصحفي أم لا، مع علمهم أنهم لا يمتلكون أية معلومات عن أهم خبر لهذا اليوم. وصرح مسؤولٌ لشبكة "سي إن إن" بأن الفريق الإعلامي قرر المضي قدماً في المؤتمر الصحفي، على اعتبار أن إلغاء المؤتمر في اللحظات الأخيرة سيكون دلالةً على حالة الذعر التي يحاول المسؤولون تفاديها من الأساس.
وانهمرت على رايدر الأسئلة حول الصاروخ بمجرد وقوفه على المنصة، دون أن يمتلك أي إجابات لها في ذلك الوقت.
وفي الوقت ذاته، انهمك ميلي في توجيه التعليمات لفريقه بإعداد قائمة مكالمات هاتفية من داخل مكتبه في البنتاغون. وبدأ مكالماته مع نظيره البولندي، ثم أتبعه بنظيره الأوكراني سريعاً. وتنقل ميلي من مكالمةٍ لأخرى مع مسؤولي الدفاع. كما تحدث ميلي إلى قائد القيادة الأمريكية في أوروبا الجنرال كريستوفر كافولي، الذي كان يجري عدة مكالمات هاتفية بدوره.
وحاول فريق ميلي الوصول إلى نظيره الروسي فاليري غيراسيموف عبر الهاتف. ويُذكر أن آخر مكالمةٍ بين الثنائي كانت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. لكن المكالمة لم تجر هذه المرة، ولم يتحدثا في مساء الثلاثاء مطلقاً.
وفي تلك الأمسية، أطلع ميلي وأوستن رئيسهما بايدن على آخر ما توصلا إليه حول الحادث.
وضوح الصورة
بحلول يوم الأربعاء 16 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ عدة مسؤولين أمريكيين بارزين في التصريح علناً بأن المعلومات الاستخباراتية تُشير إلى أن مصدر الانفجار جاء من صاروخ دفاع جوي أوكراني سقط في بولندا بالخطأ. وشاركت الولايات المتحدة معلوماتها السرية مع الحلفاء قبل اجتماع مجلس شمال الأطلسي في مقر حلف الناتو صباح الأربعاء، وفقاً لأحد المسؤولين.
وكشفت الفحوصات الأولية لموقع الانفجار أن الحطام الذي عُثِرَ عليه كان لصاروخ إس-300 من الحقبة السوفييتية على ما يبدو، وفقاً للمصادر المطلعة على المعلومات.
كما أشارت التقديرات الأولية إلى أن أحد صواريخ الدفاع الجوي الأوكراني حاول اعتراض صاروخٍ روسي، لكنه أخطأ هدفه وسقط في بولندا، بحسب تصريحات عدد من مسؤولي الولايات المتحدة والناتو.
بينما واصل زيلينسكي إصراره على أن القوات الأوكرانية لم تُطلق ذلك الصاروخ. وقال للمراسلين في كييف، الأربعاء: "ليس لديَّ أدنى شك في أنه ليس صاروخنا"، واستشهد بتقارير وصلته من قيادة القوات المسلحة والقوات الجوية الأوكرانية.