دلالات عديدة حملتها قضية التسريبات، تلك التي نسبت إلى رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي؛ لكونها جاءت في توقيت بالغ الحساسية، لكن ومع بدء التحقيقات مع المالكي بدا أن مقتدى الصدر خسر جولة سياسية جديدة عكس المتوقع.
ظهيرة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ذهب المالكي إلى محكمة الكرخ بالعاصمة بغداد، لبدء التحقيق معه في مسألة التسريبات الصوتية المنسوبة له، والتي سربها علي فاضل، الصحفي العراقي المقيم بالولايات المتحدة، في شهر يوليو/تموز الماضي.
حراسة مشددة واستقبال حار
وبحسب المصادر العراقية التي تحدثت لفريق "عربي بوست"، فإنه يتم التحقيق مع نوري المالكي في صحة التسريبات الصوتية، بناءً على دعوى قضائية قدمها نصار الربيعي أحد قادة التيار الصدري، في هذا الصدد، يقول مصدر قضائي عراقي، لـ"عربي بوست": "لقد تلقينا عشرات الدعاوى القضائية ضد نوري المالكي، غير دعوى الربيعي، عشرات المحامين قدموا هذه الدعاوى للتحقيق مع المالكي".
تحقيق هزيل
تم التحقيق مع نوري المالكي، في التسريبات الصوتية المنسوبة إليه، ووصف مصدر قضائي عراقي في حديثه لـ"عربي بوست"، التحقيق مع المالكي بأنه "هزيل ومثير للسخرية"، فيقول: "لم يستغرق التحقيق أكثر من أربعين دقيقة، بعد التحية والسلام، كانت الأسئلة روتينية ومختصرة، وبالتالى جاءت أجوبة المالكي غير جادة ولا تليق بحجم التهم التي تحدث عنها القضاة، ثم انصرف الرجل وسط الترحيب الحار نفسه، وعاد إلى منزله بعد أن وقع مذكرة الكفالة".
اكتفى المصدر السابق، بوصف شكل التحقيق، لكنه لم يرد الخوض في تفاصيله؛ نظراً إلى حساسية الموضوع.
لكنه أشار إلى عدم تحديد موعد لتقديم نوري المالكي إلى المحاكمة بعد التحقيق، فيقول لـ"عربي بوست": "لم يتم تحديد موعد لتقديم المالكي إلى المحاكمة، وبرر القضاة الأمر بأنهم يحتاجون لمزيد من الوقت لاستكمال الأدلة ضد المالكي، والبدء في الإجراءات القانونية اللازمة لتقديمه إلى المحاكمة".
ويضيف المصدر القضائي العراقي، والمطلع على مسألة التحقيق مع نوري المالكي، قائلاً لـ"عربي بوست": "من المفترض أن تقوم الجهات القضائية بالتحقق من صحة الصوت الموجود في التسريب، وهل هو فعلاً المالكي أم لا، وهذه المسألة لا وقت لها، مما يعني مزيداً من المماطلة".
اتهامات تمس بالأمن القومي العراقي
في الملف الصوتي المسرب والمنسوب إلى رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، والذي نشره الصحفي العراقي المقيم بالولايات المتحدة، علي فاضل، بحسابه على منصة تويتر، في يوليو/تموز الماضي، يسمع صوت المتحدث الذي يقال إنه المالكي شخصياً، وهو يتوقع حرباً شيعية شيعية في العراق، إذا لم يتم القضاء على مشروع مقتدى الصدر.
في إشارة إلى رغبة مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي والسياسي المثير للجدل، وزعيم التيار الصدري، في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، دون إشراك باقي الأحزاب السياسية الشيعية التقليدية.
فاز الصدر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تم إجراؤها في العاشر من أكتوبر/تشرين الثاني 2021، بأكبر عدد من المقاعد (73 مقعداً من أصل 329 مقعداً في البرلمان).
يُسمع في التسريب أيضاً رغبة المالكي في إنشاء فصيل مسلح بالاتفاق مع إيران، قائلاً: "أنا أخبرت الكاظمي (رئيس الوزراء المنتهية ولايته)، بأن الجيش والشرطة لا اعتماد عليهما، وأنا أحتاج إلى السلاح"، كما قال إن "مقتدى الصدر يريد الذبح والدم".
بالعودة إلى التحقيق مع نوري المالكي، يقول مصدر قضائي مطلع على هذه المسألة، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه: "يواجه نوري المالكي العديد من التهم، منها إنشاء فصيل مسلح مخالف للقانون بمساعدة دولة أجنبية أو بعبارة أخرى (التخابر)، وتوجيه الإساءة إلى سياسيين وقادة عراقيين، وتأجيج فتنة طائفية".
تحدث المالكي في التسريب المنسوب إليه بطريقة مهينة عن هيئة الحشد الشعبي العراقي، الذي من المفترض أنه حليف للمالكي في الإطار التنسيقي الشيعي، ووصف قادة الهيئة بالجبناء والفاسدين.
كيف تحدث مع رجل لا يعرفه جيداً..!
يقول سياسي شيعي عراقي بارز، مقرب من إيران، لـ"عربي بوست": "أعتقد أن الصوت في التسريب هو صوت المالكي، لكن لا أعلم كيف لرجل بعقل وخبرة المالكي، أن يتحدث عن كل هذه الأمور الحساسة والخطيرة، مع رجل لا يعرفه جيداً!".
يشير المصدر إلى أن المالكي، في التسريب الصوتي، كان يتحدث مع أحد القادة المسلحين فيما يعرف باسم "كتائب أئمة البقيع"، إضافة إلى شخصين آخرين كانوا حاضرين في هذا الملف الصوتي المسرب.
ويكمل الصوت الظاهر في التسريب الصوتي والمنسوب إلى المالكي، قائلاً: "مقتدى الصدر رجل حاقد، ويمتلك ثلاث خصال بغيضة، فهو يريد الدم، وجبان، ويريد سرقة أموال البلاد، يريد أن يكون ربكم الأعلى، والإمام المهدي، كما يدعي بين أنصاره"، في إشارة إلى الإمام الثاني عشر لدى المسلمين الشيعة.
من هم "كتائب أئمة البقيع" الذين تم ذكرهم في التسجيل الصوتي المسرب
على ما يبدو هو فصيل مسلح مجهول وما زال قيد التجهيز، ولم يتم ذكر اسمه من قبل داخل العراق، يقول قيادي بارز في الحشد الشعبي العراقي لـ"عربي بوست": "هذا الفصيل لم يشترك في أي عمليات داخل أو خارج العراق من قبل، ولا نعرف الجهة المسؤولة عنه على وجه التحديد، لكن على ما يبدو هو فصيل مسلح تابع للمالكي، لتأمين عودته إلى حكم العراق مرة أخرى".
أحدثت التسريبات الصوتية المنسوبة إلى نوري المالكي، ضجة كبيرة في العراق، مما دفع الأخير إلى نشر بيان، يوضح فيه عدم صحة التسجيلات الصوتية، وطالب القضاء بالتحقيق بها. وعلى الجهة المقابلة، أصدر مقتدى الصدر، الخصم اللدود للمالكي، بياناً شديد اللهجة، يتهم فيه المالكي بالتحريض على العنف وإشعال الفتنة الطائفية، كما دعاه إلى تقديم نفسه إلى العدالة، والانسحاب من الحياة السياسية العراقية.
خسارة مقتدى الصدر لجولته ضد المالكي
العداوة بين نوري المالكي ومقتدى الصدر قديمة ومستمرة، ففي عام 2008 وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العراق عام 2003، كان مقتدى الصدر قد أسس فصيله المسلح سيئ السمعة آنذاك، ويطلق عليه اسم "جيش المهدي"، وكان يخوض قتالاً ضد القوات الأجنبية في العراق وبالتحديد الأمريكية.
في ذلك الوقت وقعت أحداث طائفية دموية كثيرة، وكان لـ"جيش المهدي" يد بها، إلى أن ذهب الصدر وفصيله المسلح إلى مدينة البصرة، الغنية بالنفط، والتي تعتبر الشريان الاقتصادي الرئيسي للعراق، وقرر السيطرة عليها، حينها قرر نوري المالكي الذي كان رئيس الوزراء العراقي آنذاك، التخلص من مقتدى الصدر، وإنهاء سيطرة الأخير على مدينة البصرة، وقد ساعدته الولايات المتحدة في ذلك الأمر.
بعد أيام من القتال العنيف بين القوات الأمنية الحكومية بقيادة نوري المالكي، ومقاتلي "جيش المهدي"، انسحب مقتدى الصدر ومقاتلوه من البصرة، وبعدها قرر تفكيك فصيله المسلح، واعتزال العمل السياسي واختار العزلة في إيران.
يقول مصدر مقرب من نوري المالكي لـ"عربي بوست": "لا يستطيع مقتدى الصدر نسيان ما فعله به المالكي في ذلك الوقت، الرجلان يحملان الكراهية المطلقة لبعضهم البعض، المالكي يريد التخلص من الصدر، والأخير يريد إنهاء وجود المالكي تماماً في الحياة السياسية العراقية، وهذا الصراع لن ينتهي بأي شكل من الأشكال".
وفي ضوء هذه الخلفية، كان مقتدى الصدر يعتقد أنه بعد نشر هذه التسريبات الصوتية المنسوبة للمالكي، كسب جولة أخرى في صراعه مع المالكي، في هذا الصدد يقول مصدر مقرب من مقتدى الصدر لـ"عربي بوست": "كان مقتدى الصدر يعتقد أو ربما يأمل أن تكون هذه التسريبات نهاية الحياة السياسية للمالكي، كما أنه اعتقد أنه بعد انتشارها الواسع سيثور العراقيون عليه في الشوارع، لكن هذا لم يحدث".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "كان من الطبيعي أن يلجأ مقتدى الصدر إلى القضاء، لكن في الوقت نفسه يعلم أنه لن يحصل على أي نتيجة إيجابية من القضاء ضد نوري المالكي".
في الوقت نفسه، خسر أيضاً نوري المالكي، لكن خسارته تبدو قليلة مقارنة بخسارة مقتدى الصدر، وبحسب المسؤولين والسياسيين العراقيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، كان المالكي يرغب بشدة في تولي منصب رئاسة الحكومة، بعد أن استطاع الإطار التنسيقي الشيعي الإطاحة بمقتدى الصدر وعرقلته من أجل تشكيل حكومة أغلبية وطنية كما كان يريد.
يقول قيادي بارز فى الإطار التنسيقي الشيعي لـ"عربي بوست": "بعد مسألة التسريبات المنسوبة للمالكي، اجتمع قادة الإطار، في محاولة لإقناع المالكي بعدم ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الحكومة، بغض النظر عن صحة التسريبات من عدمها، فإنها أضرت بسمعة المالكي، ولم يكن من المعقول توليه رئاسة الحكومة مرة أخرى".
يضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "في النهاية وبعد العديد من المحاولات، اقتنع المالكي بالفكرة، وتم ترشيح السوداني بدلاً منه".
لكن في الوقت نفسه، يُنظر إلى محمد شياع السوداني رئيس الوزراء العراقي الحالي، على أنه محسوب على نوري المالكي، رغم استقالة السوداني من حزب الدعوة الذي يترأسه المالكي في عام 2019، وتقديم نفسه على أنه مرشح مستقل.
بالنسبة إلى نتائج التحقيق المنتظرة مع نوري المالكي، يقول المصدر القضائي العراقي لـ"عربي بوست": "لا ينبغي توقع اتخاذ أي إجراء قضائي جاد ضد المالكي، جمعُ الأدلة التي أشارت إليها جهات التحقيق، من الممكن أن يستغرق سنوات، كما جرت العادة في العراق، لذلك أقول إنه لا ينتظر خصوم المالكي النتيجة لصالحهم".
ويشير المصدر السابق، إلى تحقيقات سابقة قد خاضها نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، قائلاً لـ"عربي بوست": "بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الأراضي العراقية، قرر البرلمان تقديم المالكي (الذي كان حينها رئيساً للحكومة)، إلى التحقيق، ولكن أيضاً جمع الأدلة استغرق سنوات، وانتهى الأمر كأنه لم يكن".