كان صدور بيان مجموعة العشرين الختامي خبراً سيئاً لروسيا، بينما احتفى به الغرب باعتباره انتصاراً بعدما أدان البيان الغزو الروسي لأوكرانيا، فيما يمثل تحولاً لافتاً في موقفي الصين والهند، فهل تخلى البلدان عن صديقهما المقرب فلاديمير بوتين، وهل عقدا صفقة سرية مع أمريكا على حساب روسيا؟
وبعد أن كانت مهددة بالفشل، أصدر قادة مجموعة العشرين في ختام قمتهم ببالي بإندونيسيا التي تعد القمة الأكثر إشكالية في تاريخ المجموعة إعلاناً مشتركاً يدين حرب روسيا في أوكرانيا، ويشير إلى أنها أودت بحياة آلاف الأشخاص وأحدثت اضطراباً في الاقتصاد العالمي، فيما اعتبرته وسائل إعلام أمريكية دليلاً على تزايد عزلة روسيا.
وجاء في بيان قمة العشرين الختامي: "يستنكر بأشد العبارات عدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا ويطالب بانسحابه الكامل وغير المشروط من أراضي أوكرانيا"، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة CNN الأمريكية.
ولكن كان لافتاً أن البيان أشار في حديثه عن الأزمة الأوكرانية إلى أنه "كانت هناك آراء أخرى وتقييمات مختلفة للوضع والعقوبات".
وطالب بيان قمة العشرين الختامي "G 20″، روسيا بالانسحاب "الكامل وغير المشروط" من الأراضي الأوكرانية، فيما رحب باتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود.
ويمثل ذلك انتصاراً كبيراً للغرب بقيادة الولايات المتحدة، حيث وافقت دول مثل الصين والهند والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا على إدانة موسكو بعدما كانت مترددة في القيام بذلك، حسبما ورد في تقرير لموقع Axios الأمريكي.
بيان قمة مجموعة العشرين الختامي يعترف بوجود خلافات حول أوكرانيا
وفي حديثه بعد اختتام القمة، قال الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو مضيف مجموعة العشرين في مؤتمر صحفي إن "قادة العالم اتفقوا على محتوى الإعلان، أي إدانة الحرب في أوكرانيا" التي تنتهك وحدة أراضيها. ومع ذلك، أشارت بعض اللغة المستخدمة في الإعلان إلى الخلاف بين الأعضاء حول أزمة أوكرانيا.
وقال البيان المكون من 17 صفحة: "لقد تسببت هذه الحرب في معاناة عامة هائلة، كما عرّضت للخطر الاقتصاد العالمي الذي لا يزال عرضة للوباء، والذي تسبب أيضاً في مخاطر أزمات الغذاء والطاقة، فضلاً عن الأزمة المالية. وقد ناقشت مجموعة العشرين تأثير الحرب على الاقتصاد العالمي".
وقال الرئيس الإندونيسي إن موقف أعضاء مجموعة العشرين من الحرب في أوكرانيا كان الفقرة "الأكثر عرضة للنقاش".
وقال جوكوي: "حتى وقت متأخر من منتصف ليل أمس ناقشنا هذا الأمر، وفي النهاية تم الاتفاق على إعلان قادة بالي بالإجماع، والذي تضمن اتفاقاً على أن الحرب لها تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي، كما أن الانتعاش الاقتصادي العالمي لن يتحقق بدون أي سلام".
القمة نجت من فشل ذريع.. وروسيا تتهم الغرب بتسييس البيان
يوم الثلاثاء، جلس وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي مثل بلاده بدلاً من الرئيس فلاديمير بوتين في القمة، خلال الجلسة الافتتاحية، يستمع إلى عدد من زعماء العالم وهم يدينون الغزو الروسي، وقال الرئيس الإندونيسي لزعماء العالم: "يجب علينا إنهاء الحرب". وأضاف: "أنه إذا لم تنتهِ الحرب، فسيكون من الصعب على العالم المضي قدماً".
واتهم لافروف الدول الغربية بمحاولة "تسييس" البيان من خلال المطالبة بإدانة صريحة لروسيا.
وفي النهاية، ندد البيان بأي تهديدات باستخدام أسلحة نووية، وهو توبيخ ضمني لتلمحيات روسيا باستخدام الأسلحة النووية.
وقال جون كيرتون، مدير أبحاث مجموعة العشرين في برنامج الحوكمة العالمية ومقره تورونتو بكندا، إن الانقسامات داخل مجموعة العشرين بشأن حرب روسيا في أوكرانيا كان من الممكن بسهولة أن تجعل هذه القمة هي الأولى في تاريخ المجموعة التي تفشل في إصدار إعلان مشترك.
وكان لافتاً أنه تم إلغاء الصورة الجماعية التقليدية لقادة مجموعة العشرين هذا العام لأول مرة في تاريخ المجموعة؛ لأن العديد من القادة الغربيين رفضوا التقاط صورة مع أي ممثل لروسيا، حسبما قال كيرتون لموقع Axios.
ولم يتضح إلا مساء الإثنين، عندما تم الانتهاء من مسودة البيان، أن هناك إجماعاً كافياً بين قادة مجموعة العشرين لإصدار بيان مشترك.
لكن في النهاية، كانت معظم الدول على استعداد لإدانة الغزو علانية. وقال كيرتون: "كانت روسيا وحدها هي التي كانت ستشعر بالسعادة بدون بيان، لأنهم كان بإمكانهم أن يقولوا "انظروا، لم يقم أحد بإدانتنا".
مفاوضات شاقة لتمرير البيان، وهكذا كان موقف الصين
وقال مندوبون لكثير من الدول خلال المفاوضات التحضيرية، إن مجموعة العشرين لم تكن المنتدى المناسب لمناقشة القضايا الأمنية. لكن الدول الغربية وحلفاءها ردوا بأن الحرب كان لها تأثير على الاقتصاد العالمي، وخاصة على الطاقة.
كان تمرير الإعلان المشترك يتطلب موافقة القادة الذين لديهم علاقات وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأبرزهم الزعيم الصيني شي جين بينغ، الذي أعلن مع بوتين عن تدشين صداقة "بلا حدود" بين بلديهما قبل أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي الذي لدى بلاده علاقات وثيقة وقديمة مع روسيا التي تعد أكبر مصدر سلاح لنيودلهي.
وبينما يُنظر إلى الهند على أنها نأت بنفسها عن روسيا، فإن موقف الصين أقل وضوحاً.
ودعا الزعيم الصيني شي جين بينغ إلى وقف إطلاق النار، ووافق على معارضة استخدام الأسلحة النووية في سلسلة من الاجتماعات الثنائية مع القادة الغربيين على هامش مجموعة العشرين، لكنه لم يبدِ أي إشارة علنية إلى أي التزام بإقناع "صديقه المقرب". فلاديمير بوتين بإنهاء الحرب، حسب ما تتهمه وسائل الإعلام الغربية.
وتضمنت المفاوضات بشأن بيان قمة العشرين الختامي نقاشاً محتدماً حول كلمة حرب، حيث ضغطت روسيا والصين بشدة من أجل مصطلح آخر لوصف أكثر من ثمانية أشهر من الصراع العسكري الدموي الطاحن الذي أعقب الهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا ، وفقاً لما نقلته صحيفة Washington Post الأمريكية عن مشاركين في الاجتماعات.
ومنذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، رفضت بكين وصف الهجوم الروسي بأنه "غزو" أو "حرب"، وروجت وسائل الإعلام الصينية الدعاية الروسية التي تلقي باللوم في الصراع على الناتو والولايات المتحدة، بينما شجبت العقوبات الغربية على موسكو.
وعند مناقشة أوكرانيا مع قادة من الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى، تمسك شي دائماً بمصطلحات مثل "أزمة أوكرانيا" أو "قضية أوكرانيا" وتجنب كلمة "الحرب".
وفي تلك الاجتماعات، كرر شي دعوة الصين لوقف إطلاق النار من خلال الحوار.
ولكن كان لافتاً موافقة الرئيس الصيني لأول مرة خلال زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز لبكين على معارضة استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، لكن هذه التصريحات لم يتم تضمينها في رواية الصين للمحادثات.
وقال وزير الخارجية الصيني وانغ يي لوسائل إعلام رسمية صينية في وقت لاحق إن شي أكد موقف الصين في اجتماعه مع بايدن بأنه "لا يمكن استخدام الأسلحة النووية ولا يمكن خوض حرب نووية".
وفي محاولة لتأكيد أن إدانة الأسلحة النووية ليس هدفه إدانة روسيا، أشاد وانغ في لقاء مع نظيره الروسي سيرجي لافروف يوم الثلاثاء بموسكو لتأكيدها على نفس الموقف الرافض للأسلحة النووية.
ولم يشِر الرئيس الصيني شي إلى أزمة أوكرانيا في كلمته الافتتاحية في قمة العشرين. وبدلاً من ذلك، وجَّه الزعيم الصيني انتقادات مبطنة إلى حد ما للولايات المتحدة -دون ذكرها بالاسم- بسبب "رسم الخطوط الأيديولوجية" و"الترويج لسياسات الكتل".
وكانت الصين، يوم الاثنين الماضي، واحدة من 14 دولة صوَّتت ضد قرار للأمم المتحدة يدعو روسيا إلى دفع تعويضات الحرب لأوكرانيا.
هل تراجع الدعم الصيني لبوتين؟
معارضة الصين لكلمة "حرب" ثم موافقتها على بيان قمة العشرين الختامي يسلط الضوء على محاولتها اللعب على كلا الجانبين في أزمة أوكرانيا.
سارت بكين على حبل مشدود دبلوماسياً منذ بداية الحرب، وفي بعض الأحيان بدت وكأنها تنأى بنفسها عن موسكو، بينما تؤكد أن لدى روسيا "مخاوف أمنية مشروعة" وأن "الجاني النهائي" في الصراع هو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. يظهر هذا النهج المزدوج بشكل واضح حين تحاول الصين سرد قصص مختلفة لجمهورها المحلي والمحاورين الدوليين.
واعتبر البعض في أوروبا رفض شي للتهديد بالأسلحة النووية أو استخدامها في أوكرانيا خلال اجتماع مع المستشار الألماني أولاف شولتز في بكين الأسبوع الماضي علامة على أنه بدأ يفقد صبره مع روسيا بعد ما يقرب من تسعة أشهر من القتال.
لكن قراءة الصين للقمة الأمريكية الصينية في بالي بين شي والرئيس الأمريكي جو بايدن التي عقدت يوم الإثنين واستمرت ثلاث ساعات لم تبدِ أي اعتراض مماثل على الحرب النووية.
وقالت أماندا هسياو، كبيرة المحللين الصينيين في مجموعة الأزمات الدولية، إن بكين "تحاول تحقيق أقصى استفادة من خطاب رفض الأسلحة النووية" و"الاستفادة منه في تحسين العلاقات مع أوروبا"، ولطالما كان الموقف الذي أعرب عنه شي مع المستشار الألماني برفض استخدام الأسلحة النووية، هو سياسة الصين الرسمية بشأن الأسلحة النووية، وإن لم تكن بكين قد صرحت به من قبل عند الحديث عن أوكرانيا، حسب ما ورد في تقرير Washington Post.
ويظهر ذلك أن الصين لا تريد أن يبدو أنها تنحاز لأمريكا ضد روسيا، ولكنها تبدي موقفاً أكثر ليونة مع الأوروبيين.
"حقيقة أنهم أشاروا فقط إلى معارضة الأسلحة النووية بشكل غير مباشر في قراءة اجتماع شي بايدن تشير إلى عدم الارتياح للظهور متحالفين مع الولايات المتحدة بشأن هذه القضية، وكبادرة لطمأنة موسكو".
فغالباً ما استخدمت الصين المناقشات مع القادة الأوروبيين كفرصة لتبني لغة أكثر انتقاداً للغزو الروسي، على سبيل المثال كان وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في اجتماع مع نظيره الفرنسي في مارس/آذار الماضي، قد وصف الصراع بأنه "حرب"، رغم تجنب الدبلوماسيين الصينيين هذا المصطلح إلى حد كبير منذ ذلك الحين.
هل عقدت بكين صفقة سرية مع أمريكا؟
ويبدو أن الرئيس الصيني سعى خلال قمة العشرين إلى نزع فتيل التوترات مع الولايات المتحدة وحلفائها بشأن حرب أوكرانيا، ولذا وافقت على أن يدين بيان قمة العشرين الختامي الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ولا يمكن تجاهل احتمال أن تكون القمة الصينية الأمريكي هي السبب وراء هذا الموقف الصيني، خاصة أن بايدن بدا أنه ينحو للتهدئة مع بكين خلال القمة، عكس خطابه المتشدد منذ توليه السلطة، وكان لافتاً قوله بعد القمة إنه لا حرب باردة جديدة مع الصين.
ويؤشر كل ما سبق أن بكين قبلت جزئياً بما تريده إدارة بايدن أو ما يمكن وصفه بالصفقة الأمريكية، وهي تنظيم المنافسة بين بكين وواشنطن مقابل نبذ موسكو.
ويؤشر ذلك إلى أن الصين تسعى لأكبر استفادة من الصراع بين الغرب وروسيا، دون أن تتضرر منها، أي ستتعامل مع شريكها الروسي مثلما تتعامل مع كوريا الشمالية، حيث تستفيد من التصعيد بينها وبين الغرب دون أن تتورط هي في هذا التصعيد.
الهند "تنأى بنفسها عن روسيا" بشكل أكثر وضوحاً
مقارنة بالموقف الغامض نسبياً للصين، لاحظ المراقبون الغربيون تحولاً أكثر وضوحاً من قبل الهند، حيث دعا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى "إيجاد طريقة للعودة إلى مسار وقف إطلاق النار والدبلوماسية في أوكرانيا"، وذلك في كلمته الافتتاحية في قمة العشرين.
وتضمن بيان قمة العشرين الختامي أيضاً جملة تقول إن "هذا العصر لا يجب ألا يكون وقتاً للحرب"، وهي تعبير يعكس اللغة التي قالها مودي لبوتين في سبتمبر/أيلول 2022، على هامش قمة منظمة شنغهاي في أوزبكستان.
وقال هابيمون جاكوب، الأستاذ المشارك في الدبلوماسية ونزع السلاح في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، نرى الهند تنأى بنفسها عن روسيا بعدة طرق، حسبما نقلت عنه شبكة CNN الأمريكية.
ولدى الهند دوافع أكبر للنأي بنفسها عن روسيا، فهي عكس الصين، لا تصنف خصماً من الغرب، بل حليف محتمل وتوصف بأنها أكثر ديمقراطية في العالم ويتم تجاهل عنصريتها ضد المسلمين من قبل أمريكا، التي تريدها حليفاً ضد الصين.
كما أن أقوى المصالح التي تربط الهند بروسيا هي السلاح، ولكن السلاح الروسي لم يعد له ذات سمعة الرائعة بعد هزائم الجيش الروسي في أوكرانيا، وحتى لو أرادت نيودلهي استيراد السلاح من موسكو، فإن المجمع الصناعي العسكري الروسي منشغل بتوريد الأسلحة والذخائر للجيش الروسي المتورط في معارك على حدود البلاد، كما أن أي صفقة سلاح مع موسكو قد تعرض نيودلهي لعقوبات أمريكية.
في المقابل، فإن الهند أمامها فرصة لا تعوض للانضمام للحلف الأمريكي ضد الصين، جارتها اللدودة، وهو تحالف قد يفتح الباب لها للحصول على الأسلحة الأمريكية المتقدمة، التي قد تساهم في تقليل الفجوة المتصاعدة بينها وبين بكين عسكرياً.