لم يهنأ محمد إسماعيل، وهو موظف بإحدى الوزارات الحكومية، بالزيادة التي أقرتها الحكومة المصرية على الحد الأدنى للأجور والتي ارتفعت لتصل إلى ثلاثة آلاف جنيه مع صرف علاوة شهرية قيمتها 300 جنيه لكافة العاملين بالقطاع الحكومي لكنها فقدت قيمتها بعد تعويم الجنيه.
فبعد ساعات قليلة من تلك القرارات وجد أن قيمة راتبه انخفضت بمقدار 17% تقريباً مع قرار تعويم الجنيه الذي سجل تراجعاً لأقل معدلاته التاريخية أمام الدولار ليصل إلى أكثر من 23 جنيهاً وربع مقابل الدولار الواحد.
يخشى إسماعيل مثل غيره من زيادة مضطربة في أسعار كافة السلع ما سيكون لديه انعكاساته المباشرة على أوضاعه الاقتصادية التي ستزداد سوءاً في ظل صعوبة توفير حد أدنى من تكاليف المعيشة اليومية.
يشير المواطن الخمسيني ولديه أربعة أبناء إلى أن خطوته الأولى بعد التراجع الجديد للجنيه كانت إلى أحد المحال الكبيرة لبيع المنتجات الغذائية بأسعار مخفضة وقام بشراء احتياجاته الشهرية خوفاً من ارتفاع الأسعار خلال الساعات المقبلة.
وجد أن هناك فرصةً مع حصوله على راتبه الحكومي لتدبير ولو جزء بسيط يمكن أن يساعده على تحمُّل اختلالات السوق المتوقعة خلال الأيام المقبلة في ظل مخاوف من عدم استقرار سعر الصرف وتأثيراته المباشرة على أسعار السلع.
الجنيه يفقد جزءاً كبيراً قيمته بعد تعويم الجنيه
ارتفع الدولار الأمريكي في مقابل الجنيه منذ مارس الماضي، فور اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية وفرار المستثمرين الأجانب من أدوات الدين بالأسواق الناشئة، ومن ضمنها مصر.
في ذلك الوقت كان الدولار يعادل نحو 15.5 جنيه، قبل أن تنفذ ما يمكن وصفه بتعويم جزئي، حيث خفضت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنحو 15% ليصل الدولار إلى 18.15 و18.29، ومنذ ذلك الحين أصبح هناك سعر صرف موازٍ للدولار بالسوق السوداء في ظل أزمة شح عملة ظلت مسيطرة على الأسواق المصرية خلال تلك الفترة.
وتشير توقعات المؤسسات الغربية إلى أن السعر يتراوح بين 23 و24 جنيهاً أمام الدولار كسعر يمكن أن يحقق لمصر قدراً من التوازن المالي الذي يقلل فجوة العملة الأجنبية لديها، لكن ذلك سيكون مرتبطاً أيضاً بمدى قدرة الحكومة على جذب الأموال الساخنة التي هربت من جديد.
في حال لم تكن هناك ثقة بالسوق المصري وفي استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، فإن ذلك ستكون له نتائج أكثر سلبية على مستوى تراجع قيمة الجنيه ومن ثم زيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار.
وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فقد ارتفع التضخم لأسعار المستهلكين إلى 15% خلال سبتمبر/أيلول الماضي، مقابل نحو 14.6% خلال أغسطس/آب، وهو أعلى معدل للتضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مدن مصر منذ نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، عندما سجل التضخم مستوى 15.7%، وبلغ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية مستوى 133.8 نقطة خلال سبتمبر 2022، مسجلاً بذلك ارتفاعاً قدره 1.6%عن أغسطس 2022.
الألبان والجبن على رأس السلع الأساسية المتوقع ارتفاع أسعارها
يتوقع أحد مُصنعي الألبان في مصر ارتفاع منتجات الجبن والألبان بنسبة تصل إلى 15% خلال الأيام المقبلة، وذلك لاعتماد الصناعة على ألبان وزيوت نباتية مستوردة من الخارج وتدخل في صناعتها الأعلاف المستوردة التي سترتفع أسعارها بالتبعية، وسيكون من نتائج ذلك ارتفاعات موازية في أسعار اللحم البقري والجاموسي، ما سيتسبب في زيادة أسعار اللبن.
ويشير إلى أن الجبن المستورد من الخارج من المتوقع أن تصل الزيادات فيه إلى 20% خلال الأيام المقبلة، لافتاً إلى أن العديد من الشركات تبحث في الوقت الحالي إمكانية تقديم منتجات بجودة أقل على نحو أكثر مما هي عليه الآن لضمان جذب المستهلك وإيجاد سوق لبيعها في المناطق الشعبية التي ستتأثر فيها قدرات المواطنين الشرائية بشكل ملحوظ.
الأمر ذاته يؤكده مصدر بشعبة المستوردين بالاتحاد العام للغرف التجارية المصرية، والذي قدر معدلات الزيادة في أسعار السلع المستوردة بنسبة لا تقل عن 25% خلال الشهر المقبل، واعتبر أن الأسواق في حالة ترقب فيما أقدم بعض التجار إلى تقدير سعر الدولار بـ 28 جنيهاً خوفاً من عدم استقرار أسعار الصرف خلال الأيام المقبلة، حتى يضمن مكسبه ويضمن عدم تعرضه لأي خسائر في رأس المال.
ودائماً ما يكون المستهلك المتضرر الأول من تعويم الجنيه؛ لأن مصر تعتمد على أكثر من 70% من إجمالي استهلاكها من السلع والمنتجات على الاستيراد من الخارج، وتقدر قيمة السلع المستوردة بنحو ٩٠ مليار دولار.
الأرز والزيوت ضمن قائمة طويلة من الأغذية المحلية والمستوردة سترتفع أسعارها
شركات إنتاج التغذية المحلية أيضاً سترفع من أسعارها، وفقاً للمصدر ذاته، إما لارتباط تلك الأغذية ببعض المواد الخام التي تأتي من الخارج أو لزيادة تكاليف الإنتاج بشكل عام نتيجة ارتفاعات الأسعار، وتوقع أن تنعكس الزيادات على غالبية السلع الأساسية وفي مقدمتها الزيوت والأرز والدقيق والمكرونة والجبن والسمن بنسب تتراوح بين 15% و25%.
مشكلة أخرى سيعانيها أغلب أصحاب المصانع الغذائية وستكون لها تأثيرات مباشرة على زيادات الأسعار، وتتعلق بعدم توفير العملة للمستوردين، إضافة إلى أن الأشهر الماضية كانت شاهدة على إقدام الكثير من الشركات على خفض معدلاتها الإنتاجية نتيجة عدم توفر العملة.
يتوقع خبراء المال أن تكون القرارات الأخيرة التي أعقبها إعلان مصر الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي وعدد من المؤسسات الدولية المانحة بلغت قيمته 9 مليارات دولار عاملاً مساهماً في توفير الدولار، إلى جانب أن تلك القرارات ستقضي على السوق الموازية لتبادل العملة والتجارة فيها ما سيتيح توفرها على نحو أكبر للشركات العاملة في مجالات مختلفة.
الجنيه الواحد لن يتمكن من شراء رغيف خبز سياحي
وإذا كانت الحكومة المصرية قد قررت الاحتفاظ بسعر السلع المدعم كما هو عند خمسة قروش للرغيف الواحد فإن الخبز السياحي بأنواعه المختلفة والذي يجذب الغالبية العظمى من المصريين سيكون على موعد مع زيادة جديدة في أسعاره، إذ إن سعر طن الدقيق الحر الفاخر قفز بالتزامن مع إعلان التعويم بنحو 800 جنيه ليصل إلى 17.5 ألف جنيها فى السوق، بدلاً من 16 ألف جنيه قبل أسبوع تقريباً.
ويشير عضو بغرفة المخابز التابعة للغرفة التجارية بالقاهرة إلى أن المخابز السياحية سترفع من سعر رغيف الخبز السياحي، ولن يتمكن الجنيه من شراء رغيف واحد من الخبز خلال الأيام المقبلة التي ستشهد ارتفاعات أخرى في أسعار الدقيق الحر.
إلى جانب تكاليف العمالة التي ستأخذ في التزايد أيضاً مع الزيادات المتوقعة في أسعار السلع والخدمات، وأنه لن يكون ممكناً إنقاص وزن الرغيف أكثر من ذلك بعد أن انخفض لأقل من 50 غراماً للرغيف الواحد.
وبالرغم من أن وزارة التموين والتجارة المحلية في مصر قد حددت 10 آلاف جنيه لسعر طن الدقيق الذي تبيعه إلى المخابز السياحية، لكنها لا تُلزم جميع المخابز بشرائه.
وبدأ الكثير من المخابز يعزف عنه لتردي جودته، كما أن الشروط التي تضعها الوزارة بأن تقوم المخابز بالالتزام بالأوزان والأسعار التي حددتها لسعر رغيف الفينو والخبز السياحي ليست مجزية بالنسبة لأصحاب المخابز الذين يرون أنها غير مناسبة لهم، وفقاً لأسعار مدخلات ومستلزمات الإنتاج مع تحديد هامش الربح.
محال الأجهزة الكهربائية وهواتف المحمول توقف البيع انتظاراً لاستقرار السوق
وفي جولة على بعض محال بيع الأجهزة الكهربائية وهواتف المحمول فإن توقف أغلبها عن البيع كان ملاحظاً في أعقاب القرارات الأخيرة، وأرجع أصحابها إلى حالة عدم الاستقرار التي يشهدها السوق، وصبت أغلب التوقعات بأن تتراوح الزيادة في أسعارها بين 15% إلى 30% على حسب توفر تلك الأجهزة مع أزمات عدم وصولها بسبب أزمة الاعتمادات المستندية وتوفر الدولار.
ويقول خبير في الأسواق العقارية، إن حركة أسعار العقارات هي الأخرى ستشهد قفزات خلال الفترة المقبلة، وسيكون ذلك مرتبطاً على نحو أكثر بأصحاب الشركات العقارية الذين سيحاولون تعويض خسائرهم خلال الفترة الماضية إما بسبب توقف حركة البيع على نحو كبير أو بسبب الزيادات المتلاحقة في أسعار مواد البناء بعد أن قامت أغلبها بتسويق وبيع وحداتها بنظام الدفع المقدم قبل التنفيذ أو التقسيط لعدة سنوات.
من المتوقع أن يكون قطاع العقارات الأكثر تأثراً بالتراجع الأخير في قيمة الجنيه، وفقاً للمصدر؛ لأن طرح شهادات ادخارية جديدة بنسبة 17.25% قد يكون له تأثير على مستوى جذب الفوائض المالية للمواطنين إلى البنوك بدلاً من الاستثمار العقاري، كما أن الموجات التضخمية المتوقعة ستؤثر سلباً على حركة الشراء بنحو أكبر مما كانت عليه في السابق وستحاول الشركات تعويض خسائرها، ما يجعل التنبؤات تشير لارتفاع يصل إلى 30% في قيمة أسعارها، تحديداً إذا ارتبط الأمر بمشروعات جديدة لم يتم تنفيذها بعد.
مخاوف من انفلات أسعار الصرف
لدى خبير اقتصادي جملة من المخاوف بشأن استقرار حركة السوق المصرية خلال الأيام الماضية، بسبب أن المبلغ الذي حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى بلغ 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يرى أنه قد لا يكون كافياً لسد العجز في حجم التجارة البينية والتفاوت في معدلات التضخم بين الجنيه والدولار.
وفي حال لم يتمكن البنك المركزي المصري من الحفاظ على احتياطي نقدي ينعكس إيجاباً على قيمة الجنيه فإنه من المتوقع أن يحدث انفلات في سعر الصرف.
ويضيف أن القاهرة ليس لديها الأدوات الرقابية التي تساعدها على ضبط الأسواق في تلك الحالة، وستكون هناك زيادات كبيرة في السلع المستوردة والمحلية على حد سواء، وقد تصل إلى معدلات لا يمكن التنبؤ بها في الوقت الحالي، وستتأثر بالزيادات المضطربة في قيمة تكاليف الإنتاج، وستتعرض الحكومة في تلك الحالة لهزات عنيفة اقتصادية وسياسية.
لكنه يشير في الوقت ذاته إلى أن القرارات الأخيرة لديها فوائد على مستوى الاتجاه نحو إيداع الدولار في البنوك بدلاً من تداوله في السوق السوداء، وتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير، مع زيادة متوقعة في التحويلات من الخارج، كما أنه يشجع على الإنتاج المحلي؛ لأن الشركات المصدرة إلى الخارج ستتأثر إيجاباً بالتعويم الأخير.
وتصطدم الأسواق المصرية بأزمة أخرى كشف عنها أحد المستثمرين المحليين تتمثل في كون مخزون المصانع من المواد الخام قارب على النفاد مع استمرار الدولة في عدم الإفراج عن مستلزمات الإنتاج المكدسة في الموانئ، وأن التعويل على أن تلتزم الدولة بتعهداتها بإلغاء كافة الإجراءات الخاصة بالاعتمادات المستندية قبل نهاية العام الجاري، لكن ذلك لا يمنع من إمكانية حدوث أزمات على مستوى إقدام الشركات على التخلص من بعض العمالة التي لديها لحين تحسُّن أوضاعها.
أزمات شركات الإنتاج تضاعف أسعار السلع بالأسواق
ويشير إلى أن عدم استقرار عملية الإنتاج لدى الشركات سيؤدي إلى أزمتين ذات ارتباط مباشر بالطبقة المتوسطة والفقراء؛ لأن الشركات ستلجأ في تلك الحالة إلى مضاعفة أسعار السلع لتعويض خسائر الإنتاج على مدار الأشهر الماضية التي توقفت فيها عملية الاستيراد بشكل شبه كامل، وستكون الزيادات مقدرة بنسبة 60% في تلك الحالة، والأزمة الثانية لها علاقة بالتخلص من آلاف العمال الذين سيتركون أثراً مباشراً على مستوى زيادة معدلات الفقر والبطالة.
وكان حسن عبد الله، محافظ البنك المركزي المصري، قد أكد خلال مؤتمر صحفي الخميس بحضور رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ورئيس بعثة صندوق النقد الدولي بمصر، أن مصر اتفقت مع الصندوق على حزمة متكاملة من السياسات والتدابير والإصلاحات الاقتصادية والهيكلية المتسقة مع برنامج الإصلاح الوطني، وأن ذلك سيعزز من الاستقرار الاقتصادي الكلي.
وذكر أن البنك المركزي يستهدف إعادة بناء الاحتياطات الدولية على نحو تدريجي ومستدام، حيث تم تصميم البرنامج بعد التأكد من سد الفجوة التمويلية في خلال 4 سنوات قادمة.
وحول أسعار الصرف قالت لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي إنها "اتخذت إجراءات إصلاحية لضمان استقرار الاقتصاد الكلي وتحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل، وتحقيقاً لذلك سيعكس سعر الصرف قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية الأخرى بواسطة قوى العرض والطلب في إطار نظام سعر صرف مرن.
وأكدت أنها ستقوم بإلغاء تدريجي للتعليمات الصادرة في فبراير 2022 الخاصة باستخدام الاعتمادات المستندية في عمليات تمويل الاستيراد حتى إتمام الإلغاء الكامل لها في ديسمبر/كانون الأول 2022، ويعد ذلك بمثابة حافز لدعم النشاط الاقتصادي على المدى المتوسط، إضافة إلى العمل على بناء وتطوير سوق المشتقات المالية بهدف تعميق سوق الصرف الأجنبي ورفع مستويات السيولة بالعملة الأجنبية.