غطست أرجلهم بالملح ومكثوا بين الجثث.. روايات جديدة من سجن صيدنايا لمعتقلين حُبسوا في غرف الموتى

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/15 الساعة 17:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/15 الساعة 17:49 بتوقيت غرينتش
صور "قيصر" وثقت قتل آلاف المعتقلين في سجون الأسد – رويترز

وصف معتقلون سوريون لحظات مرعبة من تجربة حبسهم في غرف مغلقة لحفظ الجثث بدأ استخدامها خلال سنوات الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عام 2011، مع ارتفاع أعداد الموتى داخل سجن صيدنايا الذائع الصيت قرب دمشق. 

رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا وثقت في تقرير ستنشره قريباً للمرة الأولى تحت اسم "غرف الملح"، بحسب ما نشرته وكالة الأنباء الفرنسية، الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2022. 

ولكون سجن صيدنايا يخلو من برادات لحفظ جثث معتقلين يسقطون بشكل شبه يومي فيه من جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة، لجأت إدارة السجن على ما يبدو إلى الملح الذي يؤخّر عملية التحلّل.

بناءً على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة فرانس برس مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري "غرفتي ملح" على الأقل تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، على الأرجح لإضعافهم جسدياً.

التجربة الأكثر رعباً 

في أحد أيام شتاء 2017، وقبل نقله من السجن إلى المحكمة، دفع حارس بـ"عبدو" داخل غرفة لم يرها من قبل، فإذ بقدميه الحافيتين تغرقان في كميات من الملح الصخري.

لم يكن قد ذاق طعم الملح منذ دخوله قبل عامين سجن صيدنايا الذائع الصيت قرب دمشق والذي يمنع القائمون عليه الملح في الطعام عن السجناء.

بعد دقائق قليلة، تجمّد رعباً عندما تعثّر بجثة نحيلة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان أخريان. 

ويروي عبدو لوكالة فرانس برس التجربة "الأكثر رعباً" في حياته بسجن يصفه معتقلون سابقون بـ"القبر" و"معسكر الموت" و"السرطان".

يقول عبدو (30 عاماً)، طالباً عدم الكشف عن اسمه الحقيقي؛ خوفاً على أفراد من عائلته لا يزالون يقطنون بمناطق سيطرة النظام في سوريا: "بداية، قلت لنفسي: الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟!".

بعدما تناول كمية من الملح، توجّه إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة، وبعد خروجه منه تعثر بالجثة الأولى. ويقول: "دستُ على شيء بارد، كانت رِجل أحدهم".

تجمّد عبدو من الخوف بعدما رأى الجثث الثلاث الملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان.

يقول من منزله في لبنان: "ظننت أن هذا سيكون مصيري… وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي. لم أعد أقوى على الحركة، جلست قرب الحائط وبدأت بالبكاء وتلاوة القرآن".

لم يتحرك عبدو من مكانه لما يقارب ساعة ونصف الساعة، حيث قال: "كان هذا أصعب ما رأيته في صيدنايا جراء الشعور الذي عشته ظناً أن عمري انتهى هنا".

يصف عبدو الغرفة المستطيلة، ستة أمتار بالعرض وسبعة أو ثمانية بالطول، أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي. تقع الغرفة في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه ثلاثة أجنحة.

لم يتنفس عبدو الصعداء إلا حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه بات في طريقه إلى المحكمة.

أثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نقل فيها في أحد الأيام، وبأمر من الحراس، جثث معتقلين.

يقول عبدو الذي أفرج عنه في 2020: "في صيدنايا، قلبي مات. لم يعد شيء يؤثر بي. حتى وإن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عادياً"، ويضيف: "جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عادياً". 

كأن قلبه سيخرج من صدره

يروي معتصم عبد الساتر (42 عاماً)، تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع بالجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر، دخل إليها في 27 أبريل/نيسان 2014.

يصف معتصم غرفة بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا يوجد فيها حمام.

يومها، شعر كأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان بعدما نادى عليه السجان لإطلاق سراحه. لا يزال يتذكّر كلّ تفصيلة من ذلك اليوم، وبينها طعام الإفطار الذي كان عبارة عن قطعة خبز وثلاث حبات زيتون، بحسب ما رواه للوكالة. 

ودّع معتصم رفاقه وسار فرحاً خلف سجّانه، لكنه فوجئ بطلب هذا الأخير منه الدخول إلى غرفة لم يرها سابقاً.

يقول من منزله في الريحانية بجنوب تركيا: "غرقت قدمي في مادة خشنة. نظرتُ فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً"، مشيراً إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد أن يرى جوالات منه إلى جانب الطرق خلال أيام الشتاء، وتستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.

تذوّق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على أربع أو خمس جثث ملقاة في المكان.

يقول معتصم: "شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال. قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم… أنا أساساً أشبههم".

حين دخل معتصم السجن في العام 2011، كان يزن 98 كيلوغراماً، لكنه خرج منه بوزن لا يتجاوز 42 كيلوغراماً.

يضيف: "كانت الجثث تشبه المومياء، كأنها محنطة… كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍّ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة".

بقي معتصم في الغرفة ثلاث إلى أربع ساعات. ويقول: "كان الملح يذوب من تحتي من شدة تصبّب العرق مني".

يضيف المعتقل السابق الذي لا يزال يتذكّر أسماء أصدقاء توفوا إلى جانبه في المهجع جراء الضرب والأمراض: "ليست الجثث ما أثّر بي.. بل فكرة أنني بتّ أنتظر إعدامي".

من شدة الخوف، تبوّل معتصم في الغرفة، ثم سارع إلى تغطية البول بالملح؛ حتى لا يعرف الحارس.

ثروة بيد العائدين 

أما قيس مراد (36 عاماً)، الذي عانى من مرض السل حتى بعد الإفراج عنه في 2014، فقد أمضى ساعات طويلة يستخرج حبيبات الصوديوم من مسحوق غسيل الثياب.

في أحد أيام صيف 2013، استُدعي قيس للزيارة، فور دخوله غرفة الانتظار، داس على مادة خشنة، قبل أن يتوجه إلى الحائط ويجثو على ركبتيه، وهي القاعدة خلال وجود الحراس في الغرفة. وبينما كان ينتظر، استرق النظر، فرأى الحراس يكدسون أكثر من عشر جثث فوق بعضها.

في اليوم ذاته، عاد زميل له من الزيارة وأخرج من جيبه وجواربه كميات من الملح الصخري قال إنه أتى بها من غرفة انتظار مفروشة بالملح، ويُرجّح قيس أن تكون هي الغرفة ذاتها التي رأى فيها الجثث.

يقول قيس المقيم في غازي عنتاب: "منذ ذلك الحين، بتنا حريصين على ارتداء سراويل فيها جيوب ووضع جوارب؛ علّهم يضعوننا في الغرفة ذاتها"، لكن ذلك لم يتحقّق.

يضيف: "أول مرة أكلنا فيها البطاطا المسلوقة مع هذا الملح، كان طعماً خيالياً".

فيما يتذكر محمد فارس (34 عاماً)، الذي أمضى سبع سنوات بسجون النظام بينها عامان وخمسة أشهر في صيدنايا، بدوره صديقاً له عاد في أحد أيام أبريل/نيسان 2014، إلى الزنزانة محملاً بالملح في جيوبه. وأوضح له هذا الأخير أن الحراس طلبوا منه ومن معتقل آخر وضع جثث في أكياس داخل غرفة مفروشة بالملح.

لم يتوقف فراس وأصدقاؤه كثيراً عند وجود الجثث داخل الغرفة. ويقول عبر الهاتف من ألمانيا: "سعادتنا كانت تكمن في الملح، كان ثروة كبيرة". 

هل ما زالت موجودة؟ 

يشير المعتقلان السابقان إلى عدم انبعاث أي رائحة كريهة من الغرفتين، وإلى أنهما لم يتمكنّا من تحديد سبب وضعهما فيهما لبعض الوقت.

وليس واضحاً ما إذا كانت الغرفتان استخدمتا في الوقت ذاته كـ"غرفتي ملح" في العامين 2014 و2017، أو إذا تمّ استبدال واحدة بأخرى. كما ليس معروفاً ما إذا كانت تلك الغرف لا تزال موجودة.

بناء على شهادات معتقلين وموظفين سابقين في السجن، تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول "غرفة ملح" وُجدت في النصف الثاني من العام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن.

يقول الشريك المؤسس في الرابطة دياب سرية من مكتب الرابطة في غازي عنتاب التركية، لـ"فرانس برس": "تمكنا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب أو توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع".

يضيف أنه كان يتمّ الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع إلى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لـ"تأخير تحلّلها". ثم تُترك الجثث يومين داخل "غرف الملح" في انتظار تجميعها قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة ثم إلى مقابر جماعية.

يوضح سرية ذلك بقوله: "الهدف من الملح هو حفظ الجثث، إذ إن الملح يمتص السوائل والإفرازات، ويحول دون أن تفوح رائحتها، وذلك لحماية السجانين وإدارة السجن من البكتيريا والأمراض".

يضيف: "هناك كثير من الموت في صيدنايا لكن ليست هناك برادات للموتى"، مشيراً أيضاً إلى صعوبة نقل الجثث يومياً إلى خارج السجن، خصوصاً في فترات اشتدت فيها المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة بين 2013 و2017.

من جانبه، يوضح الأستاذ المساعد في علم التشريح بجامعة "بوينت لوما" في كاليفورنيا، جوي بلطا، أن "لدى الملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات"، مشيراً إلى أنه يمكن حفظ الجثة في الغرف الباردة لأسابيع من دون أن تُظهر علامات تحلّل، فيما "يتيح الملح فترات حفظ أطول".

يُعدّ الملح، على حد قوله، أحد مكوّنات عمليات التحنيط التي اشتهر بها الفراعنة، إذ كانت توضع الجثث داخل محلول يُسمى "النطرون"، ويتألف أساساً من ملح كربونات الصوديوم.

يُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخات جبول في محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا، وفق "سرية".

دراسة تفصيلية 

سيكون تقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية.

يقدم التقرير الذي يعتمد على مقابلات مع عشرة معتقلين سابقين و21 عنصراً من الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، شرحاً دقيقاً للبنية الإدارية والألوية العسكرية العاملة في صيدنايا، فضلاً عن خلفية عن مديريه كافة.

يقول سرية: "أراد النظام أن يكون هذا السجن ثقباً أسود، وألا يعرف أحد عنه شيئاً. هدف تقريرنا أن يقول العكس. ليس ثقباً أسود بل هو جهاز من أجهزة الدولة محكوم بقوانين وعلاقات تنظيمية"، وهو أيضاً "معسكر موت".

وتقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع النزاع في العام 2011، وقد أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصاً أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.

إضافة إلى الضرب والتعذيب والمرض، أكد عدد من المعتقلين السابقين أن أسوأ تجاربهم تمثلت في "الجوع الدائم" جراء النقص الكبير في الطعام، الذي كان عبارة عن كمية قليلة من البرغل أو الأرز، أو حبة بطاطس أو بيضة مسلوقة يتشاركها أكثر من شخص.

كما يغيب الملح عن كميات الطعام القليلة، ما له تأثيرات صحية، بينها التعب والصداع وغياب التوازن.

ويروي الناجون من صيدنايا وسجون النظام السوري وأفرعه الأمنية حكايات رعب لا تنتهي، وباتت رواياتهم جزءاً رئيسياً من تحقيقات تجري في دول غربية حول جرائم الحرب المرتكبة بسوريا.

يقول سرية: "صيدنايا هو ذاكرة بلد، لا يجب إغلاقه؛ بل يجب تحويله إلى متحف مثل معسكر أوشفيتز".

تحميل المزيد