بعد أن كان إحياء الاتفاق النووي الإيراني على بُعد خطوات قليلة من توقيعه، وقرب الإعلان عن التوصل إلى صفقة بين أمريكا وإيران، عادت المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن والتي استمرت 17 شهراً إلى نقطة الصفر.
وتتمسك إيران بإلغاء تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية كشرط لا يُمكن التنازل عنه لإحياء الاتفاق النووي، في الوقت الذي ترفض فيه واشنطن هذا الطلب، وأمام التدخل الإسرائيلي تتجه المفاوضات إلى الطريق المسدود.
وسبق لجوزيب بوريل، منسق المفاوضات النووية، التأكيد على أن المسودة شبه النهائية لصفقة إحياء الاتفاق النووي الإيراني جاهزة على الطاولة، ولم يتبق سوى القليل لإعلان اختتام المفاوضات والنجاح في إحياء الصفقة النووية.
تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. أهم من الاتفاق النووي نفسه
في منتصف شهر أغسطس/آب الماضي، أرسلت طهران مسودة، نشرنا تفاصيلها على "عربي بوست"، تتضمن الرد على المطالب الأمريكية بشأن التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
وكانت البنود الإيرانية أغلبها تدور حول مسألة رفع العقوبات الاقتصادية عن الكيانات المالية، ومخزون اليورانيوم المخصب بدرجات أعلى من المنصوص عليها في نص الاتفاق النووي الاصلي لعام 2015، بالإضافة إلى أجهزة الطرد المركزي.
وأظهر الرد الإيراني المرسل إلى الولايات المتحدة أن طهران قررت تقديم بعض التنازلات، على رأسها التنازل عن مطلب إزالة الحرس الثوري الإيراني من قوائم المنظمات الإرهابية الأجنبية للولايات المتحدة.
كما تجاهلت طهران العديد من مطالبها القديمة فيما يخص الانتقام لمقتل قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، الجنرال الأهم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمسؤول الأول عن العمليات الخارجية لإيران.
لكن في نفس الوقت، لم تتنازل طهران عن طلبها الهام والعقبة الأهم في التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي، ألا وهو: إغلاق تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن آثار اليورانيوم المكتشفة في إيران.
وفتحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة تحقيقاً بعدما عثرت على آثار اليورانيوم في ثلاثة مواقع نووية إيرانية قديمة غير معلن عنها، وطلبت الوكالة من إيران تقديم توضيح، لكن الرد لم يكن مقنعاً بالنسبة لها ففتحت تحقيقاً.
يقول مسؤول إيراني بارز، مطلع على الملف النووي الإيراني، لـ"عربي بوست" إن "إغلاق تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أهم من الاتفاق النووي نفسه، وأهم من مسألة رفع العقوبات عن إيران".
ووصف المصدر نفسه التحقيق بـ"المُسيّس"، قائلاً: "كما قلت، إغلاق التحقيق أهم من أي اتفاق نووي لإيران الآن، هذا التحقيق سيظل أداة في يد إسرائيل وأمريكا للتذرع بأي أسباب لمهاجمة إيران أو فرض عقوبات دولية كبرى عليها".
لكن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن رفضت المطلب الإيراني بوقف تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فيما يخص آثار اليورانيوم المكتشفة في مواقع نووية إيرانية غير معلن عنها.
وبحسب تقرير مسرب عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تم نشره في بداية شهر سبتمبر/أيلول 2022، فإن الوكالة متسمكة باستكمال التحقيق، وتخشى أن يكون سبب عدم تعاون إيران في تقديم إجابات مقنعة هو وجود أغراض غير سلمية لبرنامجها النووي.
وقال مسؤول إيراني، على علاقة قوية بالمجلس الأعلى للأمن القومي، أحد المؤسسات الأمنية التي تتولى الملف النووي لـ"عربي بوست": "لن تقبل إيران باستمرار وجود مثل هذا التحقيق، الذي تم استخدامه من قبل لشن حملة عقوبات شرسة عليها، إنه أمر غير مقبول تماماً للمسؤولين الإيرانيين".
لا رغبة لدي خامنئي في إحياء الاتفاق النووي
ما حدث في الأيام الأخيرة، وتمسك إيران بمطلب وقف تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ورفض أمريكا هذا المطلب، أعاد التشاؤم مرة أخرى حول إمكانية نجاح جميع الأطراف في إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
يقول مصدر مقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله على خامنئي، لـ"عربي بوست": "في الأيام الأخيرة، أعلن السيد خامنئي عن عدم تلهفه للوصول إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي، ورأى أن من الأفضل عدم التسرع أو تقديم المزيد من التنازلات".
من جهته، كشف مسؤول إيراني مقرب من دوائر صنع القرار في طهران، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته لحساسية الموضوع، أن "هناك ضغطاً داخلياً من دوائر الأصوليين المقربين من آية الله خامنئي، لعدم التسرع للعودة إلى الاتفاق".
وأضاف المصدر نفسه أن "تحقيق الوكالة مصدر قلق كبير للمسؤولين الإيرانيين المقربين من خامنئي، والرافضين للاتفاق النووي منذ بدايته، فهم يعتبرون هذا التحقيق أداة ضغط بيد الأمريكان والإسرائيليين لشن هجوم جديد على إيران في أي وقت من الأوقات، كما أنهم يعتقدون أن هذا التحقيق وراءه ضغط اسرائيلي".
تطور البرنامج النووي الإيراني
بحسب المسؤولين وخبراء إيرانيين تحدثوا لـ"عربي بوست"، فهناك "تأييد كبير من الأصوليين المقربين من خامنئي، بالإبقاء على التطور الذي وصل إليه البرنامج النووي الإيراني، وعدم إهدار هذا التقدم في مقابل الحصول على حفنة من التنازلات الأمريكية".
يقول نائب برلماني إيراني مقرب من الحرس الثوري الإيراني، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه، إن "المقابل الذي يقدمه الأمريكيون لإيران غير مجدٍ، لقد تطور برنامجنا النووي بشكل كبير، لا أعتقد أنه من الصواب التنازل عنه مقابل حفنة من الدولارات".
وفي 2019، بعد عام من انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي قررت طهران اختراق بعض بنود الصفقة النووية رداً على الانسحاب فرفعت مستويات تخصيب اليورانيوم بـ%60 عوض 3.67%، وزادت من عدد أجهزة الطرد المركزي المتقدمة.
يقول النائب البرلماني الإيراني والمعارض لإحياء الاتفاق النووي: "ليس من المعقول أبداً التخلي عن كل ما وصلت له إيران، هذا جنون، وما المقابل؟ صفقة صغيرة تمتد لسنوات قليلة، ومن بعدها يتم انتخاب إدارة جديدة في أمريكا تطيح بكل الاتفاقيات مع إيران".
الاقتصاد الإيراني بخير.. لا داعي للتسرع
دائما ما نظرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والمعارضين للاتفاق النووي مع إيران، في أمريكا إلى نظرية أن الضغط الاقتصادي على طهران سيجبر الإيرانيين على التنازل عن الكثير من مطالبهم، والإسراع إلى طاولة المفاوضات.
لكن التجربة أثبتت فشل هذه النظرية، فمع حملة الضغط بالعقوبات التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة، لم تستسلم طهران، ولم تسرع إلى عقد صفقة سريعة من أجل إحياء الاتفاق النووي، واستعادة عافية اقتصادها.
وعلى عكس الرئيس السابق، حسن روحاني، الذي ربط المشاكل الاقتصادية لإيران بالعقوبات الأمريكية، وضغط على القيادة العليا للإسراع في التوصل لصفقة مع أمريكا، يرى الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، أن الاقتصاد الإيراني قادر على مواجهة العقوبات.
وترى إدارة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، أن الأفضل هو تحييد العقوبات، بدلاً من التسرع في التوقيع على صفقة تجرد إيران من تطور برنامجها النووي مقابل رفع القليل من العقوبات.
يقول مسؤول إيراني مقرب من دوائر صنع القرار في طهران، لـ"عربي بوست": "الحرب الروسية الأوكرانية، ودعم إيران لبوتين، بدأت طهران تُجني ثمارها؛ إذ تم التوصل لصفقة ناجحة مع موسكو بخصوص توريد روسيا القمح لإيران".
وأضاف المصدر ذاته أن "الحكومة الإيرانية في صدد توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية الهامة مع موسكو، منها مشاريع سكك حديدية، وطرق برية، من شأنها أن تضع إيران على طرق تجارية تصل آسيا بأوروبا، وهذا يعود بالمنافع الاقتصادية الهائلة على إيران".
وبحسب المسؤولين الإيرانيين فإن "الهيمنة الأمريكية بدأت تنكسر، وإيران في طريقها لتحسين علاقتها بدول خليجية وروسيا والصين، والدليل زيادة صادرات إيران النفطية في الآونة الأخيرة؛ لذلك لا حاجة للتسرع في الدخول في صفقة ضعيفة تنتهى بعد سنوات قليلة من أجل مكاسب قريبة، وترك المكاسب طويلة الأمد".
الحسابات الأمريكية
في الوقت نفسه، الذي على ما يبدو تراجعت فيه الرغبة الإيرانية في التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، هناك أيضاً حسابات أمريكية داخلية أبطأت من عملية المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران.
في الآونة الأخيرة زادت معارضة الجمهوريين وعدد من الديمقراطيين لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، مؤكدين أن التوصل إلى صفقة حتى ولو فرضت المزيد من القيود على البرنامج النووي الإيراني، لن يمنع طهران من الحصول على سلاح نووي.
هذا بالإضافة إلى الضغوط الإسرائيلية الأخيرة على واشنطن، لعدم التوقيع على أي صفقة مع إيران، ففي يوم الأحد الماضي، قال رئيس الوزراء الاسرائيلي، يائير لابيد، إن "اسرائيل تقوم بجهود دبلوماسية مكثفة لوقف أي اتفاق أمريكي إيراني وشيك".
وفي غضون ذلك، تبدو إدارة جو بايدن متكاسلة بشأن إيجاد مخرج للأزمة توقف المفاوضات النووية مرة أخرى، خاصة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
على ضوء هذه الخلفية، يقول دبلوماسي إيراني رفيع المستوى لـ"عربي بوست": "من شبه المؤكد أنه لا يوجد توصل لصفقة إيرانية أمريكية، قبل الانتهاء من انتخابات التجديد النصفي الأمريكية، قبل ذلك من الصعب التوصل إلى أي اتفاق".
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”