طُرد من مصر، فلجأ لسوريا، وحاولت إسرائيل اغتياله مرتين.. قصة الجاسوس الألماني الذي مات بسجون الأسد

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/01 الساعة 11:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/01 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
نظام حافظ الأسد في سوريا / مواقع التواصل

عاش مجرم الحرب النازي، ألويس برونر، مختبئاً في دمشق طيلة عقود، ومع أن إسرائيل فشلت في اغتياله مرتين، فإنه تلقى عقابه الأخير على يد النظام السوري ذاته الذي لطالما سخَّر برونر نفسه لخدمته، حسب تقرير مطول لمجلة  New Lines الأمريكية، الثلاثاء 30 أغسطس/آب 2022.

كان برونر يسكن المنزل رقم 22 الكائن في زقاق صغير بشارع جورج حداد، المتفرع عن حي أبو رمانة أشهر أحياء العاصمة السورية دمشق. وقد خصصت الحكومة السورية هذا المنزل وعدة شقق أخرى في خمسينيات القرن الماضي لإقامة ضيوف الدولة المغتربين من ذوي الرتب المنخفضة والمستشارين الأجانب. 

كان بعض هؤلاء الضيوف من مجرمي النازية الهاربين، وأكثرهم شهرة في ذلك المبنى كان ألويس برونر، أحد أشرس المشاركين في المحرقة النازية، والمسؤول البارز السابق في الغستابو (البوليس السري النازي)، والرجل الثاني بعد أدولف أيخمان، رئيس "إدارة الشؤون اليهودية" في البوليس السري الألماني.

قصة الهروب من مصر إلى سوريا

اختبأ برونر مدة قصيرة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه شعر أن خناق المطاردة يضيق حوله بحلول عام 1954، خاصة بعد أن حكمت عليه محكمة فرنسية بالإعدام غيابياً. فهرب إلى مصر في عهد جمال عبد الناصر.

على خلاف ما ورد من مزاعم في مقال سابق نشرته مجلة New Lines، فإن برونر لم يعمل لمصلحة النظام المصري قط، بل سارعت القاهرة بترحيله بعد مدة وجيزة، مما دفعه للهروب إلى سوريا، وحصل على تأشيرة عمل، وانضم إلى تجارة السلاح المزدهرة آنذاك بين مطاريد النازية في دمشق عام 1955.

مجرم الحرب النازي، ألويس برونر / مواقع التواصل
مجرم الحرب النازي، ألويس برونر / مواقع التواصل

أقام برونر في المبنى رقم 22 بشارع جورج حداد مستأجراً سكناه من ضابط ألماني يُدعى كورت وِتزكي، كان يعمل مستشاراً للحكومة السورية. لكن برونر وشى بوِتزكي للمخابرات السورية بعد بضع سنوات، ليحكم على صاحب المنزل بالاعتقال والتعذيب، وكل ذلك ليحصل على الشقة بأكملها لنفسه.

اعتُقل برونر في أواخر عام 1959، ونُقل إلى مقر تابع لـ"المكتب الخاص"، أحد أكثر أجهزة الاستخبارات السورية وحشية آنذاك والذي كان يقوده عبد الحميد السراج القائد البارز بالقطر الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة. 

وقد أجرى التحقيق مع برونر أحد قادة المكتب، والذي كان يُعرف باسم "النقيب لحام"، واتَّهم بتهريب المخدرات، ثم أُمر باعتقاله "حتى نهاية التحقيقات". 

"عدو عدوي إنما هو صديقي"

حينما عرف برونر أنه قد لا يخرج من هذه المنشأة حياً، قرر الرهان على آخر شيء قد يضفي على شخصه بعض الأهمية، فقال للنقيب لحام: "كنت مساعد أيخمان، وأنا مطارَد لأنني عدو لليهود"، فتغير موقف لحام منه على الفور، وقال له: مرحباً بك في سوريا. فعدو عدوي إنما هو صديقي".

أصبح برونر منذ ذلك اليوم مستشاراً للشؤون الألمانية في المخابرات السورية، وعمد إلى تجنيد الكثير من أصدقائه النازيين، بعونٍ من النقيب لحام والعقيد ممدوح الميداني، اللذين كانا يتحدثان الألمانية وكانا متعاطفين مع نظام الرايخ الثالث خلال الحرب العالمية الثانية.

في الوقت نفسه، عمل برونر على نقل خبراته في أساليب الاستجواب والتعذيب النازية إلى المخابرات السورية، وكان يسافر كل يوم إلى وادي بردي بضواحي دمشق، لتعليم الضباط السوريين أساليب الغستابو والتحدث باللغة الألمانية. 

وضمت قائمة طلاب برونر بعضاً من أسوأ قادة المخابرات السورية سمعة بعد ذلك، مثل اللواء علي دوبا الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية السوري والمستشار المقرب من حافظ الأسد.

الموساد الإسرائيلي يطارد برونر

ما لم يدركه برونر في ذلك الوقت هو أن جهاز الموساد الإسرائيلي كان يراقبه منذ عام 1958، لكن ليس بدافع تجنيده بالطبع، وإنما الانتقام منه لمشاركته المزعومة في محرقة الهولوكوست.

وصلت الأخبار حول مخبأ برونر في سوريا إلى الموساد، فكانت النية الأولى هي اختطافه ونقله إلى الأراضي المحتلة لمحاكمته، لكن سرعان ما تبين للموساد صعوبة اختطاف برونر من دمشق، فتغيرت الخطة وانعقد القرار على اغتياله.  وهكذا جهز عميل الموساد الإسرائيلي طرداً مفخخاً لقتل برونر، لكنه أخطأ فلم يسلمه لبرونر نفسه، بل أرسله له بالبريد.

استخدم برونر أداة طويلة لفتح الطرد، وربما كان احتياطه ذاك سبباً في نجاته، فقد أصيب ولم يمت، وبعد أيام قليلة نشرت الصحافة العربية أن "أجنبياً أصيب في مكتب البريد الرئيسي في دمشق"، بينما قال ضابط مخابرات كبير في الجمهورية العربية المتحدة لمصدر إسرائيلي إن الضحية كان رجلاً يُدعى جورج فيشر "له سابقة من النشاط المعادي لليهود". 

حينئذ أدرك الموساد فشله في اغتيال برونر، ولم يحاول اغتياله مرة أخرى إلا بعدها بعقدين.

تبدَّل النظام في دمشق، لكن برونر استأنف وظيفته القديمة في الاستخبارات وعمله بتدريس أساليب التعذيب وكأن شيئاً لم يحدث، ثم ارتقت مكانته إلى درجات أعلى في حكومات البعث الاستبدادية اللاحقة، واجتمعت له في الستينيات مزايا الرفاهة، فأصبحت له سيارة بسائق خاص، واستمتع بالرحلات الفاخرة في جميع أنحاء سوريا، وكانت له علاقات بكثير من كبار شخصيات النظام.

محاولة اغتيال فاشلة للمرة الثانية

عادت إسرائيل للاهتمام ببرونر في عام 1977، فقد كانت حكومة حزب العمل قد خسرت الانتخابات وحلَّت مكانها حكومة يمينية بقيادة حزب الليكود وزعامة مناحم بيغن. 

كان بيغن مهووساً بالانتقام من المشاركين في محرقة الهولوكوست، فقد ماتت عائلته بأكملها فيها، ومن ثم أمر الموساد باستئناف العمل على محاسبة المسؤولين عن المحرقة، إما باختطافهم ومحاكمتهم، أو قتلهم إذا تعذَّر غير ذلك.

رأى رئيس وحدة العمليات في الموساد آنذاك أن إرسال عملاء لقتل برونر أمر شديد الخطورة، فقرر استخدام وسيلة أكثر أماناً، وهي إرسال رسالة مفخخة بالبريد. 

وعرف عملاء الموساد أن برونر كان مشتركاً في مجلة نمساوية عن الطب الطبيعي، فعزموا أمرهم وأرسلوا القنبلة المفخخة إليه داخل عدد خاص من المجلة. لكن كمية المادة المتفجرة كانت صغيرة أيضاً هذه المرة، لذلك عندما فتح برونر الظرف في شقته وانفجرت القنبلة، فقد عدة أصابع لكنه ظل على قيد الحياة.

وصلت طلبات عديدة إلى نظام حافظ الأسد لتسليم مجرمين من النمسا وألمانيا الغربية والولايات المتحدة، إلا أنه واصل حماية برونر طيلة الثمانينيات والتسعينيات، وكان رد النظام السوري دائماً: "لا يوجد شخص كهذا في سوريا".

مع ذلك، ازداد حرج النظام السوري بعد الحملات الإعلامية المكثفة لإسرائيل على مطاردي النازية، وعلى رأسهم برونر، فقرر النظام إخراجه من العاصمة، خاصة أنه فقد أهميته منذ مدة طويلة. 

"لا تقتلوا هذا الخنزير"!

في السياق، استند تقرير المجلة إلى شهادات من حراس برونر للصحفي الاستقصائي الفرنسي، الهادي عويج، أن النظام السوري فرض رقابة صارمة على تحركات برونر طوال الثمانينيات والتسعينيات، لا سيما بعد أن انتهك تعليمات مباشرة من الأسد بالابتعاد عن الأنظار، واستمر في إجراء مقابلات مع وسائل إعلام ألمانية ونمساوية ودولية.

في تلك الأثناء، قرر حافظ الأسد التخلص أخيراً من برونر في عام 1996، فأمر بإخراجه من شقته، وسجنه إلى أجل غير مسمى في زنزانة تحت الأرض في مركز شرطة بحي المهاجرين في دمشق. 

وقال أحد حراس الزنزانة في شهادته أن برونر قضى سنواته الأخيرة في البؤس والقذارة، فقد جاءت الأوامر من أحد قادة السجن: "لا تقتلوا هذا الخنزير، لكن لا تحاولوا إبقاءه على قيد الحياة أيضاً".

في نهاية المطاف، مات برونر في عام 2001، ودُفن سراً في مقبرة للمسلمين. وقد انتهت حياته في حالٍ أسوأ بكثير مما كانت سيُعانيه في أي دولة غربية. لكن نهايته لم تأتِ على يد إسرائيل، بل عاقبه النظام السوري الذي لطالما سخَّر نفسه لخدمته، حسب المجلة الأمريكية.

تحميل المزيد