يبدو أن ورقة كيل الاتهامات لحركة النهضة وغيرها من الأحزاب السياسية لم تعد كفيلة بتخفيف حدّة غضب التونسيين من تردي وضعهم المعيشي، بعد أكثر من سنة من جمع الرئيس قيس سعيد لكل السلطات بين يديه.
الرئيس قيس سعيّد أصبح هو المتحكم الوحيد في البلاد، من تعيين الحكومة وإصدار المراسيم وغيرها من الصلاحيات الواسعة التي تجعله في موضع مسؤولية كاملة عن مزيد من تدهور الوضع الاقتصادي في تونس.
أسوأ من أيام بن علي
ليس من الجديد أن تكون تونس تحت وطأة أزمة اقتصادية، فالبلاد لم تخرج من دائرة التدهور التدريجي للوضع الاقتصادي والاجتماعي منذ سقوط نظام بن علي، عقب ثورة أطاحت به في يناير/كانون الثاني 2011.
لكن ما بلغته بلاد ثورة الياسمين خلال الأشهر الأخيرة من مظاهر لأزمة غير مسبوقة، لم تشهده طيلة السنوات الماضية، بعد إعلان الرئيس قيس سعيد عن إجراءات استثنائية في 25 يوليو/تموز 2021.
فُقدت العديد من المواد الأساسية من الأسواق، وخاصة مشتقات الحبوب طيلة أسابيع، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي أعقبتها محاولة الحكومة البحث عن مزوّد جديد لها، ولكنها لم تُفلح بسبب عدم توفر السيولة المالية اللازمة والعجز الكبير الذي تُعاني منه ميزانية البلاد.
كما أصبحت الحكومة التونسية غير قادرة بشكل متزايد على صرف رواتب موظفي الدولة في الموعد المُحدد.
وبالتوازي مع فقدان المواد الأساسية، شهدت الأسعار ارتفاعاً كبيراً، وبلغت نسبة التضخم 6,4% في يوليو/تموز 2021، لترتفع بعد سنة إلى 8,2%، بعد أن كانت بنسبة 7,5% خلال شهر أبريل/نيسان، و7,2% خلال شهر مارس/آذار، و7% خلال شهر فبراير/شباط، و6,7% خلال شهر يونيو/حزيران، وفق إحصائيات رسمية ينشرها المعهد الوطني للإحصاء في تونس دوريّاً.
وأعلنت السلطات في تونس، الثلاثاء، أنها صدّقت رسمياً بمقتضى مرسوم رئاسي، على اتفاقية قرض مع البنك الدولي بقيمة 130 مليون دولار أمريكي، لتمويل مشروع التدخل العاجل من أجل الأمن الغذائي، وتوفير الحبوب ومادة الخبز بدرجة أساسيّة، وفق ما تضمنته الاتفاقية.
وقدم البنك الدولي لتونس خلال سنتي 2021 و2022، تمويلات بقيمة إجمالية تصل إلى مليار دولار بعنوان مساعدات عاجلة للتعامل مع مختلف الأزمات، وعلى رأسها أزمة فقدان المواد الأساسية والغذائية.
المختصة في المجال الاقتصادي شيراز الرحالي قالت: إنه "لا يمكن النظر إلى الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في تونس بعد 25 يونيو/حزيران 2021 بمعزل عما قبلها"، حيث قالت إنه "اقتصادياً لن يستقيم القول بالحديث عن النمو الهش والضعيف دون العودة إلى السياق الاقتصادي المحلي والدولي في الفترة التي سبقت ذلك التاريخ".
واستندت الرحالي، في حديثها مع "عربي بوست"، إلى نسب النمو المسجلة في السنوات الأخيرة التي تعكس وضعاً اقتصادياً صعباً، خاصة في عام 2015، حين بلغ النمو مرحلة الانكماش التقني، أي تسجيل تراجع لثلاثيتين متتاليتين.
وسجلت تونس في نهاية عام 2021 نمواً بـ3.1% بعد أن انكمش في عام 2020 بنسبة 8.8%، وحوالي 0.9% سنة 2019، مع توقعات بتحقيق تونس نمواً بـ2.6% مع نهاية العام الجاري الذي حققت في ثلثه الأول نسبة نمو بنسبة 2.4%.
قرض لحلّ الأزمة وشروط
حكومة نجلاء بودن التي عينها قيس سعيّد خلفاً للمشيشي الذي أقاله في 25 يوليو/تموز 2021، تعمل من خلال مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي على الحصول على قرض ضخم يبلغ حوالي 4 مليارات دولار.
ويُعوّل قيس سعيد على هذا القرض للخروج من الأزمة الحالية، مقابل تنفيذ حزمة من الإصلاحات تؤدي إلى حلّ اختلال الاقتصاد التونسي بشكل مستدام، كما يقول ممثلو الصندوق.
وتشمل شروط صندوق النقد الدولي لمنح تونس قرضاً بـ4 مليارات دولار، تنفيذ الحكومة لما يُعرف في تونس بالإصلاحات الموجعة بتجميد كتلة أجور موظفي الدولة وأعوانها، وإيقاف الانتدابات والتخفيض في جرايات التقاعد.
أيضاً يطالب صندوق النقد الدولي من تونس إصلاح الصناديق الاجتماعية المفلسة، والتفويت في المؤسسات المملوكة من طرف الدولة، والرفع التدريجي للدعم على المواد الأساسية.
وقال قيس سعيّد في وقت سابق إنه من الضروري القيام "بإصلاحات مؤلمة" لتجاوز الأزمة، كما أن الحكومة التونسية كذلك تناقش مراجعة دعم المواد الأساسية التي تثقل كاهل الموازنة العامة.
وبلغت، وفق وزيرة المالية التونسية حوالي 1,3 مليار دولار في خلال العام الجاري مقابل 3,2 مليار دولار العام الماضي، فيما قدّرت الوزيرة أن تبلغ 1,5 مليار دولار في 2023 بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار بعض المواد الأساسية كالقمح.
وخفّضت وكالة "فيتش" الدولية، في مارس/آذار الماضي، تصنيف تونس السيادي من "ب سلبي" إلى "س س س"، وقالت إنه يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة.
مُناخ اجتماعي متوتّر
أحد أهم مظاهر الاحتقان والتوتر الذي يصبغ المناخ الاجتماعي بعد 25 يوليو/تموز 2021، هو تنفيذ الاتحاد العام التونسي للشغل ذي التأثير الكبير في تونس لإضراب عام في 16 يونيو/حزيران 2022، شمل أكثر من 150 مؤسسة مملوكة للدولة.
وشُلّت بموجب هذا الإضراب حركة النقل في كامل البلاد، ولم تتجاوب الحكومة التونسية ومن ورائها سعيد مع مطالب النقابة، ولم تدعها حتى لعقد جلسة صلحية، وفق ما أكدته قيادات الاتحاد آنذاك.
وفي 27 يونيو/حزيران 2022 أعلنت المركزية النقابية أن الهيئة الإدارية الوطنية للمنظمة قررت، في حركة تصعيدية، خوض إضراب عام جديد يشمل هذه المرة القطاع العام (كالبريد والخطوط الجوية التونسية والنقل…) والوظيفة العمومية (كالصحة والتعليم…)، مع تفويض المركزية النقابية بتحديد تاريخ تنفيذه، وهو ما عاد يُذكر به أمين عام المنظمة نور الدين الطبوبي هذه الفترة.
وتتمثل مطالب اتحاد الشغل في فتح جولة مفاوضات اجتماعية تفضي إلى ترميم القدرة الشرائية للعمال، والزيادة في أجورهم، والتخلي عن أي توجه لرفع الدعم التدريجي على المواد الأساسية، وعدم التفويت في المؤسسات المملوكة للدولة والشروع في إصلاحها.
كما تشمل مطالب المركزية النقابية بإلغاء المساهمة التضامنية الاجتماعية التي تُخصم من أجور التونسيين بنسبة 1% لتمويل الصناديق الاجتماعية، وقد كان مُقرراً في البداية اعتمادها لمدة سنة فقط بداية من عام 2019، ولكن واصلت كل الحكومات التي تقلدت السلطة بعد يوسف الشاهد خصمها من الأجور لتمويل ميزانيّتها وليس توجيهها للصناديق الاجتماعية، كما كان مقرراً في البداية.
وقد اعتبرت الحكومة أن الاستجابة لتلك المطالب صعبة بالنظر إلى وضع البلاد الذي لا يسمح بتلبيتها، وأكدت أن التكلفة المالية الإجمالية للزيادة في أجور أعوان الدولة وموظفيها بـ3 سنوات تقدر بحوالي 340 مليون دولار.
وفي 9 ديسمبر/كانون الأول 2021 وجّهت رئيسة الحكومة نجلاء بودن، منشوراً أصبح يُعرف في تونس بالمنشور 20، إلى كل الوزراء وكتّاب الدولة والمديرين العامين والرؤساء المديرين العامين للمؤسسات والمنشآت العمومية، حدّدت فيه شروط وضوابط التفاوض مع النقابات المهيكلة في غالبها صلب الاتحاد العام التونسي للشغل.
وأوصت رئيسة الحكومة عبر المنشور 20 بـ"ضرورة التنسيق بصفة مسبقة مع رئاسة الحكومة، وعدم الشروع في التفاوض مع النقابات، سواء فيما يخص مجال الوظيفة العمومية أو المؤسسات والمنشآت العمومية، إلا بعد الترخيص في ذلك من قبلها".
وبعد ما أسفر عنه المنشور من توتر للمناخ الاجتماعي في البلاد بسبب تعطّل للتفاوض بخصوص مطالب القطاعات الحكومية، كالبريد والصحة وعمال النظافة، شنت تلك النقابات إضرابات متتالية طيلة الفترة التي تلت إصدار المنشور 20، قبل أن تدخل المركزية النقابية على الخطّ بتنفيذ إضراب عام في المؤسسات العمومية يوم 16 يونيو/حزيران الماضي، أحد أهم مطالبه هي سحب المنشور 20.
الجانب السياسي والتصنيف
المختصة في المجال الاقتصادي شيراز الرحالي، أوضحت في إفادتها لـ"عربي بوست" أنه ونظراً لأهمية الجانب السياسي في التصنيف الائتماني للدول وقدرتها على الإلتزام بتعهّداتها المالية، فمنذ 25 يونيو/حزيران 2021 تعرضت تونس إلى تخفيضين أساسيين في تصنيفها الائتماني من طرف وكالتين دوليّتين.
حيث خفضت وكالة "موديز" تصنيف تونس إلى "Caa1″، مع آفاق سلبية، وفي مارس/آذار 2022 قامت وكالة "فيتش رايتنغ" بتخفيض تصنيف تونس أيضاً إلى "CCC".
وأكدت الرحّالي إلى أنه من غير الممكن أن يتحسّن الاقتصاد في سنة، خاصّة في ظلّ الظرف العالمي والمحلي الذي لا يقود نحو أي تحسن في القريب.
وتحدّثت الرحالي عن صعوبة ولوج تونس إلى الأسواق المالية الدولية في ظلّ عدم التوصّل إلى اتفاق مع النقد الدولي، الذي يعد رسالة طمأنة للممولين، ورجّحت أن تنتهي السنة الجارية بنسبة تضخّم برقمين، أي 10% فما أكثر.
وقالت المتحدثة في تصريح لـ"عربي بوست": إن "هذا التضخم سيصاحبه ارتفاع جنوني في الأسعار؛ ما سيزيد من احتقان الشارع والتونسيين"، في تقدير الخبيرة الاقتصادية التونسية.
وخلصت شيراز الرحالي، إلى أن الآمال التي عُلقت على تغيير الأوضاع مع قيس سعيد بدأت تتلاشى في ظلّ سيطرة الجانب السياسي على إدارة البلاد؛ ما سيزيد من حالة الغليان في الشارع التونسي.
ماذا ينتظر قيس سعيّد؟
المعروف في تونس أن الفترة الممتدّة بين نهاية كل سنة والأشهر الثلاث الأولى من السنة الجديدة تشهد انفجاراً اجتماعياً، خاصة في المحافظات الداخلية حيث تغيب الخدمات بما فيها الخدمات الصحية، إلا أن الشتاء الماضي هو الأول منذ سنوات لم تشهد فيه تونس الاحتجاجات.
الخبير والمحلّل عبد الجليل البدوي، قال إن الإجراءات الاستثنائية التي أقرها سعيد خلّفت أملاً لدى التونسيين بإيجاد حلّ للوضع الاقتصادي المتردّي والفساد المستشري وغيرها من مظاهر الفوضى، وهو ما جعل الشارع يحيد عن قاعدة التحرّك في الشتاء لمنح سعيد وقتاً للإصلاح.
"لكن اليوم في ظل مزيد تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع للقدرة الشرائية، وبعد أكثر من سنة على تولي الرئيس للسلطة وتعيينه لحكومة يُحدّد هو نفسه سياساتها وتوجّهاتها، سيعود الشارع للاحتجاج في الشتاء"، وفق ما أفاد به الخبير والمحلّل عبد الجليل في تصريحه لـ"عربي بوست".
وتظهر استطلاعات الرأي أن نسبة تأييد الرئيس تتراجع، على الرغم من أنه لا يزال حتى الآن أكثر السياسيين الذين يثق فيهم التونسيون، إلا أن تردي الوضع المعيشي يطيح تدريجيّاً بشعبية الرئيس، خاصة لدى الشباب الذين عزفوا في نسبة كبيرة جداً منهم على المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور.
وكشف وزير الشؤون الاجتماعية التونسي مالك الزاهي، في تصريحات إعلامية في بداية مارس/آذار الماضي أن 963 ألف عائلة تضم نحو 4 ملايين تونسي يعانون من الفقر، من نحو 12 مليوناً إجمالي عدد سكان البلاد.