منذ بدأ الإنسان في استخدام المال، كان التضخم موجود أيضاً؛ إذ تتقلب العملة وترتفع الأسعار وتنخفض لعدة أسباب، وفي معظم الأحيان يتم التحكم في هذا الأمر بصورة أو بأخرى.
لكن في بعض الحالات عندما تحدث ظروف اقتصادية خاطئة، يمكن أن تخرج الأمور عن السيطرة بسرعة كبيرة وتفقد الدولة قدرتها على حماية عملتها بالكامل.
التضخُّم الحاد
التضخم المفرط أو الحاد هو المصطلح الذي يُطلق على التضخم المرتفع للغاية والمتسارع بسرعة في كثير من الأحيان.
وعادة ما يحدث نتيجة زيادة المعروض من العملة (أي طباعة المزيد من الأوراق النقدية) مقابل ارتفاع تكلفة السلع الأساسية بشكل كبير. وكلما أصبحت قيمة المال أقل، أصبحت البضائع تُكلف المزيد والمزيد.
لحسن الحظ، يُعتبر التضخم الحاد حالة نادرة نسبياً، وذلك لأن العملات الأكثر استقراراً، مثل الجنيه الإسترليني والدولار الأمريكي والين الياباني، يُنظر إليها على أنها أكثر العملات المرغوبة؛ لأنها احتفظت تاريخياً بقيمة قياسية نسبياً لقيمتها.
ومع ذلك، لم تكن عملات الدول الأخرى محظوظة بنفس القدر. فيما يلي أخطر حالات التضخم المفرط، وكيف بدأت في المقام الأول، وكيف انتهت وتمكنت الدول المُصابة من استعادة عافيتها الاقتصادية.
1- التضخم الكبير في اليونان عام 1944
في خامس أسوأ حالة تضخم على الإطلاق، شهدت اليونان عام 1944 تضاعف الأسعار وقيمة السلع والمواد كل 4 أيام وربع تقريباً.
بدأ التضخم المفرط في اليونان عملياً في أكتوبر/تشرين الأول عام 1943، وذلك أثناء الاحتلال الألماني للبلاد خلال الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، فإن أسرع معدل للتضخم حدث عندما استعادت الحكومة اليونانية في المنفى سيطرتها على أثينا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1944؛ حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 13800% في ذلك الشهر، و1600% أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني، وفقاً لموقع CNBC News الأمريكي.
في عام 1942، كانت أعلى فئة للعملة اليونانية هي 50.000 دراخما، ولكن بحلول عام 1944 كانت أعلى فئة هي 100 تريليون دراخما يونانية.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني للعام نفسه، أصدرت الحكومة إعادة تسمية للعملة، مما أدى إلى تحويل الدراخما القديمة إلى جديدة بمعدل 50 ملياراً إلى واحد، ومع ذلك استمر المواطنون في استخدام الجنيه البريطاني كعملة فعلية حتى منتصف عام 1945.
بعد الحرب الأهلية في اليونان من يناير/كانون الثاني وحتى ديسمبر/كانون الأول. تدخلت بريطانيا خلال عامَي 1945 و1946 بتقديم خطة لتحقيق الاستقرار في البلاد.
تضمنت الخطة زيادة الإيرادات من خلال بيع سلع المساعدة، وتعديل معدلات الضرائب المحددة، وتحسين طرق تحصيل الضرائب، وإنشاء لجنة العملة (المكونة من ثلاثة وزراء، يوناني وبريطاني وأمريكي) لتحمُّل المسؤولية المالية.
وبحلول بداية عام 1947، استقرت الأسعار وعادت ثقة الجمهور وارتفع الدخل القومي، مما أخرج اليونان من دوامة التضخم الحاد.
كان السبب الرئيسي للتضخم في اليونان هو الحرب العالمية الثانية، التي أثقلت البلاد بالديون، وألغت تجارتها وأسفرت عن أربع سنوات من احتلالها من دول المحور.
2- تضخُّم ألمانيا الحاد عام 1923
في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1922، تخلَّفَت ألمانيا عن سداد مدفوعات التعويضات لديها. ورداً على ذلك، غزت قوات الحلفاء وادي الرور، إحدى المناطق الصناعية الرئيسية في البلاد، وصادرت السلع الإنتاجية.
أمرت حكومة ألمانيا رداً على ذلك بانتهاج سياسة "المقاومة السلبية"، حيث يرفض الموظفون العمل أو التعاون مع القوات الأجنبية مقابل استمرار الحكومة في دفع رواتبهم. وجاء هذا الدفع من خلال طباعة المزيد من النقود.
وبحسب موقع Sky History للتاريخ، كان من المفترض في البداية أن يكون هذا تدبيراً مؤقتاً، حيث استمر الاحتلال واستمر معه تداول المزيد من النقد المطبوع حديثاً.
استخدمت البنوك المركزية أكثر من 30 مصنعاً للورق، و133 شركة لطباعة الأوراق النقدية. ونتيجة لذلك، ارتفعت الأسعار بصورة جنونية.
على سبيل المثال، ارتفع سعر رغيف الخبز من 250 رايخ مارك في يناير/كانون الثاني 1923 إلى 200.000 مليون بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 1923.
كما أن سرعة ارتفاع الأسعار أدت لتلقي العمال رواتبهم مرتين في اليوم لمواكبة ذلك.
ولتقدير تلك الكارثة أكثر، فقد كان سعر 500 مليار بيضة عام 1918 بألمانيا، هو نفس المبلغ النقدي المطلوب لشراء بيضة واحدة فقط عام 1923.
تسبب التضخم السريع في قيام الحكومة بإعادة تسمية عملة الدولة، واستبدالها بالمارك الورقي، بقيمة 4.2 لكل دولار أمريكي.
وعلى الرغم من أن إعادة إصدار عملة أدت إلى استقرار الورقة النقدية بشكل فعال دفعت جمهورية فايمار للبقاء حتى عام 1933، فإن التضخم المفرط والضغوط الاقتصادية الناتجة عنه ساهمت في صعود الحزب النازي وأدولف هتلر.
3- تضخُّم زيمبابوي بين 2007 و2008
كان النظام الاقتصادي في زيمبابوي في مأزق قبل فترة طويلة من بدء فترة التضخم الحاد عام 2007؛ حيث بلغ معدل التضخم السنوي للبلاد 47% عام 1998، واستمر في الانهيار بلا هوادة تقريباً حتى بدأ التضخم الحاد لزيمبابوي.
بحلول نهاية فترة التضخم، تآكلت قيمة الدولار الزيمبابوي لدرجة أنه كان لا بد من استبداله بعملات أجنبية مختلفة.
المشكلة بدأت بعد حصول زيمبابوي على استقلالها عن بريطانيا العظمى عام 1980، عندما قررت الحكومة في البداية اتباع سلسلة من السياسات الاقتصادية التي تتميز بالحصافة المالية والإنفاق المنضبط.
هذا التحسُّن لم يدُم. بحلول أواخر عام 1997، بدأ الإنفاق الحكومي المسرف يسبب مشاكل لاقتصادها. واجه السياسيون عدداً متزايداً من التحديات، بما في ذلك الاحتجاجات ضد الضرائب المرتفعة والمدفوعات الكبيرة المستحقة لقدامى المحاربين.
واجهت الحكومة أيضاً مقاومة لخطتها للاستحواذ على المزارع المملوكة للبيض لإعادة توزيعها على الأغلبية السوداء في البلاد، بحسب تقرير لموقع Insider الأمريكي.
وبالتالي انخفض سعر الصرف ما أدى لارتفاع أسعار الواردات، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى تضخم مفرط. عانت البلاد من تضخم دفع التكلفة، وهي حالة اقتصادية حرجة ناتجة عن ارتفاع أسعار العمالة أو المواد الخام، أو كليهما.
ساءت الأمور عام 2000 بعد أن انعكس تأثير مبادرات الإصلاح الزراعي الحكومية على الاقتصاد. كان تنفيذ المبادرة ضعيفاً وعانى الإنتاج الزراعي بشدة لعدة سنوات. كانت الإمدادات الغذائية منخفضة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار.
كانت الخطوة التالية للحكومة هي تنفيذ سياسة نقدية صارمة. في البداية كانت تعتبر ناجحة؛ لأنها أدت إلى تباطؤ التضخم، ومع ذلك اتضحت للخطة عواقب غير مقصودة.
إذ تسبب في اختلال التوازن في العرض والطلب على السلع في البلاد، مما أدى إلى توليد نوع مختلف من التضخم يسمى تضخم الطلب والسحب، وهو الضغط التصاعدي على الأسعار الناجم عن نقص العرض.
واصل البنك المركزي في زيمبابوي تجربة طرق مختلفة للتراجع عن الآثار المزعزعة للاستقرار لسياسته النقدية المتشددة. كانت هذه السياسات غير ناجحة إلى حد كبير. بحلول مارس/آذار 2007، كانت البلاد تعاني من تضخم مفرط شامل.
فقط بعد أن تخلت زيمبابوي عن عملتها وبدأت في استخدام العملة الأجنبية كوسيلة للتبادل، تضاءلت الكارثة الاقتصادية للبلاد واستعادت عافيتها تدريجياً.
4- تضخُّم المجر الأكبر في 1945 و1946
في عام 1944، أصبحت البلاد ساحة حرب بين القوات الألمانية والروسية، مما أدى إلى تدمير 90% من قدرتها الصناعية. كما نهب النازيون الكثير من قدرات المملكة وأعادوها إلى ألمانيا، أو صادرها الروس كتعويضات.
ومع هذا الانهيار التام لقدرات الإنتاج، ارتفعت الأسعار بشكل كبير. وفي محاولة للحد من هذا، كثَّفت السُّلطة المجرية تداول عُملة البنغو.
مثلما حدث مع ألمانيا، ارتفعت الأسعار بشكل مهول نتيجة لتلك الخطوة، حيث تضاعفت كل 15 ساعة تقريباً.
وبحسب موقع History Hit التاريخي، أصبح الشيء الذي كلف 379 بينغو في سبتمبر/أيلول 1945 يُكلف تريليون بينغو بحلول يوليو/تموز 1946.
نتيجة لذلك كان على الحكومة أن تتوقف فعلياً عن تحصيل الضرائب؛ لأن تأخير يوم واحد في التحصيل قضى على قيمة الإيرادات تماماً.
في ذروة التضخم في مملكة المجر، قدرت دراسة نشرها الموقع السالف ذكره، أن معدل التضخم اليومي بلغ آنذاك 195%، مع تضاعف الأسعار كل 15.6 ساعة تقريباً، لتصل إلى معدل تضخم شهري قدره 13.6 كوادريليون في المئة.
كان الوضع رهيباً لدرجة أن الحكومة تبنت عملة خاصة تم إنشاؤها بشكل صريح للمدفوعات الضريبية والبريدية وتم تعديل قيمتها كل يوم عبر الراديو.
تم استبدال البنغو في نهاية المطاف في وقت لاحق من ذلك العام في إعادة تقييم العملة، ولكن من المقدر أنه عندما تم استبدال العملة في أغسطس/آب 1946، كان إجمالي جميع الأوراق النقدية المجرية المتداولة يساوي واحداً من الألف من الدولار الأمريكي.
وبدلاً من محاولة كبح التضخم عن طريق تقليل المعروض النقدي وزيادة أسعار الفائدة -السياسات التي كان من شأنها أن تثقل كاهل الاقتصاد المتدهور بالفعل- قررت الحكومة توجيه أموال جديدة من خلال القطاع المصرفي نحو أنشطة ريادة الأعمال.
كان الأمل في أن هذا من شأنه أن يساعد على استعادة القدرة الإنتاجية والبنية التحتية والنشاط الاقتصادي.
وبحسب موقع Investopedia للاقتصاد، كانت الخطة على ما يبدو ناجحة؛ حيث استعادت المجر قدراً كبيراً من القدرة الصناعية قبل الحرب بحلول الوقت الذي عاد فيه استقرار الأسعار أخيراً مع إدخال الفورنت، العملة المجرية الجديدة، في أغسطس/آب عام 1946.