“يا مسافر وحدك”.. موسوعة أغاني الغربة التي سلّى بها المسافرون والمشتاقون أوجاعهم

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/30 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/30 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش

"عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه؟ عود درة وحداني في غيط كمون"

هكذا عبّر الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي عن وحدة الأسطى حراجي القط، العامل بالسد العالي، وفي الأصل الأبنودي كان يعبِّر عن نفسه، هو الرجل الذي أضاع أكثر من نصف عمره بعيداً عن "بلده وناسه"، وكتب العديد من الأغنيات التي تعبر عن الغربة والارتحال، وكان لمحمد منير النصيب الأكبر في غنائها، فكلاهما جاء من الجنوب، يحمل مخزوناً ثقافياً مختلفاً.

"في الغربة الدنيا توهة والناس مالهاش أسامي

توهة ولوحدي فيها ومين يفهم كلامي؟"

كتب الأبنودي هذه الكلمات معبراً عن حاله، ولم يكتبها أغنية لأحد، لذلك حين طلبت "نجاة الصغيرة" أن تغنيها رأى الأبنودي أن الكلمات فقيرة وتحتاج إلى تغيير، لذلك أعاد بناء القصيدة، ثم وضع الموسيقار الكبير "كمال الطويل" لحناً لها، وغناها الفنان "محمد رشدي".

وغنى الفنان "عماد عبد الحليم" للأبنودي أغنية واحدة صدرت في ألبوم شهير عام 1984 بعنوان "رجعت بلدنا بعد سنين من الغربة".

التغريبة الفلسطينية

"يا ظريف الطول وقّف تاقولّك

رايح عالغربة وبلادك أحسنلك"

وظريف الطول أو "زريف الطول" كما ينطقونه في القرية الفلسطينية، هي قصة حدثت في عصر الانتداب البريطاني في فلسطين لشاب فارع الطول يعمل نجاراً، وكان يتَّسم بصفات طيبة كثيرة، مثل الصدق والشجاعة، وفي يوم من الأيام حدث هجوم مفاجئ من إحدى العصابات الصهيونية على القرية، واستُشهد 3 من خيرة شباب القرية، الأمر الذي دفع بطل حكايتنا إلى التسلل ليلاً خارج القرية؛ ليعود بعد أيام قليلة وقد اشترى بكل مدخراته مجموعة من البنادق والمسدسات.

بعد أربعة أسابيع عادت العصابة الصهيونية للقرية نفسها، ولكن كان ظريف الطول قد قام بتوزيع الأسلحة على شباب القرية، وقامت معركة كبيرة استُشهد على أثرها عدد كبير من أبناء القرية، ولكن في المقابل سقط عدد أكبر من أفراد تلك العصابة.

أظهر "ظريف الطول" بسالة كبيرة في تلك المعركة، كان يهاجم بكل شجاعة ويسحب المصابين من أمام العصابة، ولكن بعد نهاية تلك المعركة قام أهل القرية بجمع جثامين الشهداء، ولكن لم يكن "ظريف الطول" بينهم، انتظروه كثيراً ولكن لم يظهر أبداً، ولم يعرف أحد سر هذا الغياب، لتمر الأيام ويصير هذا الشاب أسطورة تلك القرية، ونُسجت الحكايات والقصص عن بطولاته، خاصةً بعد نكبة 1948 والتهجير القسري الذي عانى منه المجتمع الفلسطيني والغربة التي طالتهم حتى يومنا هذا.

يا ظريف الطول غايب عن الأوطان .. وغيابك عنا ملّى القلب أحزان

وارجع لأهلك وأرجع للحنان .. ما تلقى الحنية غير في بلادنا

أحلى من برلين: ذكريات فلسطيني في ألمانيا

وأصدر الفنان الفلسطيني فرج سليمان عام 2020 ألبوماً غنائياً بعنوان "أحلى من برلين"، بالتعاون مع الشاعر "مجد كيال"، يتحدث فيه عن الواقع الذي يعيشه هذا الجيل، وتطرق سليمان لمواضيع مختلفة عن الغربة والتهجير والحب والزواج، وغلب الأسلوبُ التهكمي على معظم الأغاني، فمثلاً أغنية "فيه أسئلة براسي" تتحدث عن الشاب الفلسطيني الذي هاجر إلى ألمانيا، ثم يتصل بعد سنوات بحبيبته القديمة ليضحك معها ويحدثها عن يومياته في الحي الذي كان يسكن فيه وذكرياتهما معاً.

وما بين التهكم في الأغنية السابقة والنقد الساخر في أغنية "شارع يافا" استخدام المفردات الدارجة والمصطلحات الشعبية في الألبوم، مع قالب موسيقي حديث وحيوي هو ما ساهم بشدة في انتشاره بين فئة الشباب، فهم وجدوا صوتهم ومشاكلهم يتم التعبير عنها بأسلوب يشبههم.

يا المنفي: حكاية منفى ثوار الجزائر

تلك الأغنية التي ذاع صيتها بصوت الفنان الراحل رشيد طه والشاب خالد، قصة الثوار الجزائريين ومعاناتهم مع المنفى بعد انتفاضة 1871 في الجزائر واعتقالهم من قبل الاحتلال الفرنسي وترحيلهم جميعاً إلى كاليدونيا وهي تجمُّع خاص لفرنسا يطل على المحيط الهادي، وهناك التقى ثوار الجزائر ببعض مساجين كومونة الذين أتوا من باريس، وبعد فترة عاد مساجين كومونة إلى بلدهم، وظل الثوار في السجن، على الرغم من صدور عفو عنهم، لكنه لم يُنفذ. وظل المساجين يرددون تلك الأغنية ويتوارثونها عبر الأجيال حتى وصلت إلى الفنان الثوري الأمازيغي "آكلي يحياتين" وقدمها للجمهور بصورتها التي نسمعها الآن.

وهران: قصة الهجرة الجماعية لآلاف الوهرانيين

قعدوا في الغربة حيارى والغربة صعيبة وغدارة

تلك الكلمات التي غناها الشاب خالد عام 2010، فانتشرت بسرعة رهيبة بسبب اتسام كلماتها بمزيج من مشاعر الحنين والشجن والغربة، بالإضافة إلى لحن شجيّ حزين، تلك الأغنية في الأصل تنتمي إلى التراث الجزائري غناها المطرب الجزائري أحمد وهبي، ويسرد فيها ذكرياته في بلده "وهران" المدينة الجزائرية الواقعة بالساحل الغربي للجزائر، والتي عانت من الاحتلال بجميع أشكاله، الإسباني وأيضاً الاحتلال الفرنسي عام 1830 والذي استمر لأكثر من 130 عاماً. ومع دخول الفرنسيين إلى وهران فر آلاف من الوهرانيين بحياتهم وتركوا بلدهم، مما تسبب في شعور الغربة والشوق، وهو ما كان السبب الرئيسي الذي جعل الفنان أحمد وهبي يغني "مهران رحتي خسارة" ليعرف العالم كله قصة تلك المدينة الجزائرية.

يا رايح وين مسافر: من على مقاهي المهجر

في العام 1926 في مدينة "الحراش" في الجزائر ولد عبد الرحمن عمراني، والمعروف للعالم كله باسم "دحمان الحراشي"، صاحب أشهر أغنية تتحدث عن وجع الغربة والحنين "يا الرايح وين مسافر؟"، تلك الأغنية التي من شدة تأثر العالم بها دفعت إحدى القنوات الوثائقية إلى إنتاج فيلم كامل بعنوان "ثورة الحراشي.. يا الرايح وين مسافر؟"، تلك القصة التي بطلها هو الفنان دحمان الحراشي، التي جسدت أغانيه هموم جيله من الشباب الجزائري، وكان دحمان مختلفاً في ألحانه وطريقته في تناوله لمواضيعه، يقول عنه الشاب خالد: "بالنسبة للجزائريين دحمان الحراشي كان يؤلف موسيقى وكلمات مختلفة بعيدة عما اعتمده العنقة".

والعنقة هو الحاج محمد العنقة شيخ الحارة وسيد الأغنية الشعبية في الجزائر لسنوات عديدة، لكن دحمان كان يغني باللهجة العامية التي يتحدث بها الشباب في الشوارع، لذلك أحسوا بقربه منهم وأحبوه. وما زاد دحمان شهرة، فكرة إحياء الحفلات الموسيقية في المقاهي الأوروبية، فكانوا يغنون للمغتربين الجزائريين تلك الأغاني والتي تشعل فيهم حنين العودة لحضن الوطن، فأحبوها وتعلقوا بها.

يا عزيز عيني وأنا بدي أروّح بلدي: حكاية الجنود المصريين في المنفى الإجباري

أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، وفي خضم أحداث الحرب العالمية الأولى قررت بريطانيا الاستفادة من الجنود المصريين لمساعدة الإنجليز وتم وضع مقابل مادي مغري في البداية، بالإضافة لقرار السلطان فؤاد الأول بإعفاء المتطوعين من الخدمة العسكرية في مصر، في بداية الأمر تطوع آلاف من الشباب المصري لكن في ظل الظروف غير الآدمية التي وجدوها بدأت أعدادهم في النقصان، الأمر الذي جعل الإنجليز يفرضون نظام السخرة، وأصبح الانضمام إجبارياً.

وأصبح الإنجليز يجمعون الشباب المصري عنوة ويرسلونهم إلى حروب لا شأن لهم بها، ومات أكثرهم في الغربة، وإلى الآن لا تزال مقابرهم الجماعية وشواهدهم في بيروت وفرنسا وبلجيكا، مما جعل الشيخ يونس القاضي يضع كلمات تعبر عن إحساسهم بالغربة وإحساس أهاليهم بالفقد "يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي، والسلطة خدت ولدي" ثم يلحنه ويغنيه فنان الشعب سيد درويش؛ لتنتشر الأغنية بهذا اللحن الحزين "ليلة نمت فيها وصحيت مالقتش بلدي".

عشرين عام انقضت وانت اللي ناسينا: النشيد الرسمي للغربة

قبل أكثر من عشرين عاماً كان الشاعر السوري عبد الناصر محمد يقرأ ملحمة "الأوديسا" لهوميروس، وتأثر كثيراً برحلة الفارس الإغريقي "أوديسيوس" الذي رحل عن بلده وأهله وشارك في حروب طروادة، ثم عاد إلى وطنه، حيث كانت تنتظره زوجته من رحلته الطويلة التي امتدت لعشرين عاماً، فكتب عبد الناصر قصيدة بعنوان "عشرين عام" ولم يكن يعرف أنها ستجوب العالم العربي بأكمله حين يغنيها الفنان العراقي الكبير "سعدون جابر"، ويكفي أن تقرأ التعليقات على الأغنية على موقع "يوتيوب" ستجد آلاف الناس يسردون حكاياتهم الخاصة مع تلك الأغنية، هؤلاء الذين فُرضت عليهم الغربة وكانوا لا يستطيعون أن يكبحوا دموعهم مع كل مقطع، وحتى يومنا هذا، لا تزال تلك الأغنية تملك ملايين الذكريات من هؤلاء الذين مسّهم الحنين.

أغاني الغربة: تجسيد الحنين وفتح صندوق الذكريات

لا يقرر الشخص أن يترك بلده وأهله وأصدقاءه وذكرياته إلا مضطراً باحثاً عن فرصة أفضل، لكنه في الغربة تظل تلك الذكريات تحاصره، فتأتيه رسالة من صديقه القديم، أو يعثر على صورة في محفظته تذكره بالأيام الخوالي، أو يصادف أغنية تجسد كل مشاعر الحنين بداخله.

أنا من البداية يا غربة بتحمل

الأغنية التي أصبحت أشهر من مغنيها الفنان "إسماعيل البلبيسي"، الذي غناها في التسعينيات، ولا تزال محفوظة في ذاكرة هذا الجيل.

الحدود

 فترة التسعينيات شهدت العديد من الأغاني التي تتناول في موضوعها الحنين إلى الوطن البعيد، مثل أغنية "الحدود"، أشهر أغاني فرقة "الأصدقاء" التي كونها الموسيقار الراحل "عمار الشريعي" في تسعينيات القرن الماضي، وتأخذك الأغنية إلى رحلة طويلة من الذكريات.

وهناك العديد من الأغاني الأخرى في تلك الفترة مثل "جاي في إيه" للفنانة نادية مصطفى، التي تناولت الغربة من وجهة نظر الحبيبة والزوجة المنتظرة زوجها المغترب، والحنين الذي تعتريه لحظات الشك فتقول: "هي الغربة صحيح وحشاك ولا بقالك حب هناك؟"، تلك الأغنية ارتبطت في أذهان المصريين خاصة بعد أن قدمتها نادية مصطفى في إحدى ليالي التلفزيون وبصحبتها الفنان الكبير سمير سرور.

شنطة سفر

ومن الأغاني التي لا يمكن إغفالها أغنية "شنطة سفر"، التي غنتها الفنانة الصاعدة آنذاك "أنغام"، وهي من كلمات الشاعرة فاطمة جعفر، التي كانت مرتبطة بأخيها كثيراً، لكنه سافر وأخذته سنوات الغربة، وقام بتلحين الأغنية الفنان محمد علي سليمان (والد أنغام).

الأغنية كانت في الأصل لمطربة أخرى، لكن أنغام كانت تريدها بشدة، فلم يجد والدها مفراً سوى أن يعتذر للمطربة الأخرى ويعطيها لأنغام. ونجحت الأغنية نجاحاً كبيراً، خصوصاً بعد الكليب الذي قام بإخراجه المخرج الكبير عاطف الطيب، وكأنه فيلم قصير، وقامت أنغام ببيع سيارتها وإنتاج الكليب على حسابها الشخصي، لكن نجاح الأغنية المدوي كان تعويضاً لها.

وأتذكر أغنيات عديدة مثل "سلمولي على مصر"، التي غنتها الفنانة صباح من ألحان محمد الموجي وكلمات حسين السيد في فيلم "نار الشوق"، وأغنية "خلاص مسافر" الشهيرة التي غنتها المطربة شادية من ألحان بليغ حمدي وكلمات محمد حمزة، وبالتأكيد أغنية داليدا الشهيرة "حلوة يا بلدي" وأغنية "بلاد طيبة" للمطربة الأرمينية الأصل "أنوشكا"، وأغنية "أمي الحبيبة" للمطرب هشام عباس، التي يوجِّه فيها رسالته من غربته لوالدته التي يشتاق لها، وأغنية "تذكرتي رايح جاي" للفنان حمزة نمرة التي يتناول فيها حيرة كل مغترب ما بين العودة إلى الوطن أو الاستمرار في الغربة.

وأغنية "على الله تعود يا ضايع في بلاد الله" التي غناها المطرب اللبناني الكبير وديع الصافي من ألحان العظيم فريد الأطرش، وأغنية "يا غربة" للفنان محمد حماقي، وأغنية "يا غربة رسّينا" للفنان إيمان البحر درويش، وأغنية "شايلك في قلبي وفاكرك يا مصر" التي ظهرت في فيلم النمر الأسود عام 1984، وأغنية "يا رايح صوت بلادي دخلك وصلي السلام" للفنان اللبناني أحمد قعبور، وأغنية على بلد المحبوب وديني لكوكب الشرق أم كلثوم. وأغنية "ورجعت من السفر" لعمرو دياب، التي كتبها مدحت العدل ولحنها الموسيقار الكبير ياسر عبد الرحمن، وأغنية "على بالي" للفنانة عايدة الأيوبي، و"يا مسافر وحدك" لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، "وحياتي عندك" للفنانة ذكرى من ألحان صلاح الشرنوبي.

مئات الأغنيات المختلفة التي تتناول الغربة في موضوعها بألحان متنوعة ومقامات مختلفة، كل فنان يحاول أن ينجح في إيصال إحساسه بالغربة، سواء من خلال الكلمات الحزينة أو اللحن المليء بالشجن، أغنيات على لسان المغترب الذي ترك وطنه وأمه وحبيبته وأصدقاءه، طامحاً في تحقيق أمنيات وأحلام جديدة، وأغنيات أخرى على لسان هؤلاء الذين تركهم مشتاقين ينتظرون عودته كل يوم، في هذا المقال حاولنا أن نتذكر معاً تلك الأغاني وحكايات بعضها، ونتمنى أن يعود كل غريب.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود العطار
كاتب فلسطيني مصري وباحث في الموسيقى
باحث موسيقى فلسطينيّ مصريّ، ومؤسس جاليري "حيفا" في القاهرة، صدر لي كتاب بعنوان "حلّاج الأوتار" عن الموسيقى العربية في القرن العشرين، ولي عدة مقالات في التاريخ الموسيقي
تحميل المزيد