سنة 2010، بدأت نهاية نظام زين العابدين بن علي تلوح مباشرة بعد إعلان الاتحاد التونسي للشغل بمركزيته النقابية وهياكله الوسطى، في 17 ديسمبر/كانون الأول انخراطه في التحركات وانخراطه فيها تدريجيّاً بدأت تلوح نهاية بن علي، والتي كانت يوم إعلان اتحاد الشغل عن إضراب عام بالعاصمة.
واليوم، الخميس 16 يونيو/حزيران 2022، بعد مرور 12 سنة، تشهد تونس إضراباً في القطاع العام، دعا إليه الاتحاد العام للشغل؛ للمطالبة بتحسين أوضاع الموظفين؛ حيث يشمل الإضراب 159 مؤسسة عمومية، منها الموانئ البحرية، والمطارات، ويستمر يوماً، بإشراف الاتحاد العام.
علاقة الاتحاد بنظام بن علي
خلال العشرية التي سبقت أحداث ثورة يناير 2011 في تونس، شهد الاتحاد العام التونسي للشغل ركوداً سياسياً غير مسبوق، إذ تم تدجين المنظمة من طرف نظام زين العابدين بن علي إلى درجة مساندتها لترشّحه وتصنيفه كمرشّحها في كل الانتخابات الرئاسية التي تم تنظيمها في البلاد منذ إطاحة بن علي بالرئيس الحبيب بورقيبة عقب انقلاب أبيض في 7 نوفمبر 1987.
فحين استولى زين العابدين على السلطة، وفي سياق الإشارات والوعود بالديمقراطية واحترام الحريات، أفرج عن قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل التي كان مُلقى بها في السجون من طرف نظام بورقيبة، وأعطى الضوء الأخضر لإعادة ممتلكات الاتحاد المُصادرَة من طرف الدولة ومنحه الترخيص القانوني لعقد مؤتمره الذي أفرز قيادة موالية للرئيس بن علي، واعتبرته صاحب فضل على المنظمة.
وانحصر دور الاتحاد العام التونسي للشغل طيلة فترة حكم بن علي تقريباً، على التفاوض على الزيادة في الأجور فقط، وتجمّدت كل حركة داخل المنظمة، بلغت حدّ بقائه متفرّجاً في عديد من الأحداث التي عاشتها البلاد، بما فيها الانتفاضة التي شهدتها محافظة قفصة، في الجنوب الغربي التونسي، والمعروفة بأحداث الحوض المنجمي التي مثلت صدمة لنظام بن علي الذي كان يحكم تونس بالحديد والنار.
وغاب الاتحاد العام التونسي للشغل، ممثلاً في مركزيته النقابية، عن تلك الأحداث بصفة شبه كلية، في مقابل دور كبير في تأطير احتجاجات انتفاضة الحوض المنجمي وبلورة مطالبها من طرف جزء من هياكل الاتحاد الجهوية والمحلية بمحافظة قفصة، والتي كانت قياداتها في الغالب منتمية إلى أحزاب المعارضة وبصفة خاصة أحزاب اليسار التي كانت تتخفى وراء العمل النقابي في معارضة بن علي، وعلى رأسهم عدنان حاجي المحسوب على حزب العمال.
وبعد قمع نظام بن علي لانتفاضة الحوض المنجمي بحوالي 3 سنوات، اندلعت احتجاجات بمحافظة سيدي بوزيد عقب إضرام الشابّ محمد البوعزيزي النار في نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، والتي ستنتهي بإسقاط نظام بن علي وهروبه في 14 يناير/كانون الثاني 2011 إلى المملكة العربية السعودية، وكان للاتحاد العام التونسي للشغل دور كبير خلال كل مسار تلك الأحداث الفاصلة بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير/كانون الثاني 2011.
فرغم الموقف المهادن للمركزية النقابية لنظام بن علي، ورفض الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل عبد السلام جراد آنذاك لإصدار أي موقف من الاحتجاجات التي كانت تطالب بالتنمية والتشغيل في بدايتها، انخرطت هياكل وقيادات الاتحاد الوسطى في التحركات وتأطيرها وتنظيمها، منذ بدايتها وبصفة مُعلنة من طرف الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد الذي أصدر بلاغاً يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2010 أكد من خلاله مساندته للمتظاهرين.
فيما أصدر المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل بياناً يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 2010 أكد فيه أنّ الشغل حقّ مشروع، ودعا إلى ضرورة تجنّب الحلول الأمنية، وبتوسع دائرة الاحتجاجات الجغرافية، واشتداد القمع الأمني للمتظاهرين، انخرطت الاتحادات الجهوية والمحلية للشغل أكثر في التحركات، وتحولت مقراتها إلى مراكز انطلاق المسيرات في المحافظات الداخلية بصفة خاصّة.
أما في العاصمة تونس ومحافظات إقليم تونس الكبرى، وهي محافظة تونس وبن عروس وأريانة ومنوبة، فقد كان الجميع يراقبون ما يحدث في المحافظات والجهات الداخلية من احتجاجات وردة فعل النظام العنيفة، إلى حين دخول نقابتي التعليم الثانوي والتعليم الأساسي، التابعتين لاتحاد الشغل، على خطّ التحركات الميدانية في تحدٍّ مباشر لنظام بن علي الذي لم يكن يسمح بأي تحرك في الشارع في العاصمة.
حيث نظمت نقابتا التعليم الثانوي والأساسي تجمّعاً احتجاجياً أمام المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل، المعرف باسم بطحاء محمد علي، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2010، لمساندة التحركات الاحتجاجية في بقية المحافظات، وقد شهد التحرك حضوراً أمنياً غير مسبوق لمنع النقابيين وعشرات المحتجين من الخروج من ساحة محمد علي والتظاهر في الشارع الرئيسي بالعاصمة المحاذي للمقر المركزي لاتحاد الشغل.
وكان سامي الطاهري، كاتب عام نقابة التعليم الثانوي، محسوباً على تيار الوطنيين الديمقراطيين (الوطد) المعارض لنظام بن علي، وهو حالياً عضو مكتب تنفيذي وطني ويشغل خطة ناطق رسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، فيما كان كاتب عام نقابة التعليم الأساسي، حفيّظ حفيّظ، منتمياً هيكليّاً لحزب العمال المعارض كذلك لنظام بن علي، والذي لم يكن حاصل على تأشيرة العمل القانوني.
تسييس المطالب
بعد الدخول الرمزي للعاصمة في دائرة التحركات الاحتجاجية في 25 ديسمبر/كانون الأول بمبادرة من نقابتي التعليم الأساسي والثانوي، نظم النقابيون من القيادات الوسطى باتحاد الشغل في اليوم الموالي تجمعات أمام مقرات فروع الاتحاد في بقية المدن الداخلية للتضامن مع سكان محافظتي سيدي بوزيد والقصرين، الذين كانوا يواجهون آلة القمع البوليسي لنظام بن علي.
وبانخراط تلك القيادات النقابية الوسطى للاتحاد العام التونسي للشغل، الذين هم في غالبهم منتمون لأحزاب سياسية غير مسموح لها بالنشاط من طرف نظام بن علي، وتحول مقرات الاتحادات الجهوية إلى ما يُشبه غرف عمليات التحركات الاحتجاجية، تغيّرت مطالب المحتجين من مُطالبة بالشغل والتنمية العادلة في الجهات الداخلية واعتماد التمييز الإيجابي بإعطائها الأولوية في إقامة المشاريع الاقتصادية المبرمجة.
فوفق شهادة الكاتب العام للنقابة العامة للتعليم الأساسي، حفيّظ حفيّظ، لـ"عربي بوست" بتأطير من النقابيين أخذت مطالب المحتجين منحى سياسياً بإعلان شعار "خبز..حرية..كرامة وطنية"، والمطالبة بالحريات والحقوق ورحيل بن علي والتنديد بالفساد المستشري في الدولة وسيطرة عائلة زوجة الرئيس بن علي على مفاصل الاقتصاد واستحواذهم على أهم المؤسسات الكبرى في البلاد.
كما واصلت النقابتان تحدّي نظام بن علي في العاصمة، لتدعو نقابة التعليم الثانوي في بيان أصدرته يوم 5 يناير/كانون الثاني 2011 إلى تنظيم وقفة احتجاجية بالمعاهد والمدارس يوم 7 يناير/كانون الثاني لمدة 20 دقيقة لمساندة الاحتجاجات الشعبية التي كانت قد عمّت كل أنحاء البلاد، وبعد ذلك التحرّك بيوم نظمت النقابتان كذلك تجمعاً بساحة محمد علي للمطالبة بإطلاق سراح المساجين.
المركزية النقابية: تعاطٍ حذر
إن لم يكن للمركزية النقابية دور ميدانيّ مُباشر في الاحتجاجات والتحركات التي كانت تعيشها كل محافظات البلاد تقريباً في تلك الفترة، فلا يعني أنها كانت غائبة كلياً عن الأحداث، حيث كان المكتب التنفيذي يُصدر بيانات حذرة تُراوح بين التأكيد على شرعية المطالب الاجتماعية للاحتجاجات، وتبني سردية النظام بوجود مخرّبين يحاولون استغلال التحركات لبثّ الفوضى وغيرها من الاتهامات التي وجهها نظام بن علي للمحتجّين.
وبتوسّع دائرة الاحتجاجات الجغرافية وزيادة منسوب عنف النظام في مواجهتها بلغ حدّ إطلاق الرصاص الحيّ في بعض المناطق خاصة في محافظتي القصرين وسيدي بوزيد، صعّدت المركزية النقابية من نبرة خطابها وبياناتها لتبلغ في البداية حدّ التعبير عن الاستياء والرفض من محاصرة الشرطة لمقرّات الاتحاد ومساندة القطاعات التي تخوض تحرّكات وعلى رأسهم المحامون.
وبتطوّر مجرى الأحداث واتساع الهوة بين المركزية النقابية والقيادات الوسطى لاتحاد الشغل وهياكله في التعاطي مع الاحتجاجات التي كانت تتخذ تدريجيّاً منحى ثورياً تُهدّد وجود نظام قمعي بأكمله، فاجأت المركزية النقابية بن عليّ بمخالفة الحدود التي رسمها لها بعد توليه الحكم وتمكين المنظمة من عقد مؤتمرها بعد إطلاق سراح قياداتها التي كانت قابعة في سجنه بورقيبة.
حيث أصدرت في 11 يناير/كانون الثاني 2011 بياناً يحمل مطالب بإصلاحات سياسية بتكريس الديمقراطية ودعم الحريات وتفعيل دور الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ويؤكدون ضرورة تمكينها من عقد مؤتمرها في ظل احترام استقلالية قرارها، كما أدانت الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد إطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل المواطنين في عدد من الجهات، وطالب الأعضاء بضرورة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق من أجل محاسبة كل من أطلق الرصاص الحي على المتظاهرين.
بداية النهاية
إلا أن القرار الصادم الذي حمل في طيّاته أول إشارة لنهاية بن علي، فقد كان اتخاذ الهيئة الإدارية الوطنية لاتحاد الشغل قراراً بالإضراب العام في كامل البلاد يوم 27 يناير/كانون الثاني 2011، بعد خضوع المركزية النقابية لضغط القيادات الوسطى النقابية، خاصة المنتمين والمحسوبين على أحزاب اليسار في تونس منهم.
كما منحت الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل، خلال نفس الاجتماع الحاسم الذي عقدته في 11 يناير/كانون الثاني 2011، الضوء الأخضر لكل الهياكل الجهوية والمحلية لاتخاذ قرار الإضراب في التاريخ الذي تراه مُناسباً، احتجاجاً على ارتفاع عدد الموتى جراء إطلاق الرصاص الحي من طرف الأمن والقنّاصة، خاصة في محافظتي سيدي بوزيد والقصرين.
لتنطلق بعد ذلك سلسلة من الإضرابات العامة في كامل البلاد في أيام مختلفة، لكنها متتالية كمحاولة للهروب من الإضراب العام في يوم محدد في كامل البلاد.
وقبل منح الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل الضوء الأخضر لهياكل المنظمة للإضراب، كان الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد قد قرر تنفيذ إضراب عام جهوي يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011.
وفي محاولة لمزيد من الضغط على نظام بن علي وتضييق الخناق عليه عبر تنفيذ إضراب عام في أكثر عدد من المحافظات في نفس اليوم، سارعت عدد من الاتحادات الجهوية لتحديد يوم 12 يناير/كانون الثاني 2015 تاريخ لتنفيذ إضراباتها، ومنها محافظة صفاقس التي تُعتبر تاريخيّاً معقل اتحاد الشغل وأهم جهة من حيث ثقلها السكاني والاقتصادي، فيما حدّد الاتحاد الجهوي للشغل بتونس تاريخ إضرابه العام بـ14 يناير/كانون الثاني.
وبتنفيذ الإضرابات في عديد المحافظات يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011 ومنها محافظة صفاقس التي شهدت مسيرة يومها شارك فيها أكثر من 130.000 شخص طالبوا برحيل بن علي وعائلته وأصهاره، ومن هناك لاحت نهاية رأس نظام حكم تونس بالحديد والنار لمدة 23 سنة.
وعشية يوم 13 يناير/كانون الثاني أعلن المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل أن ما يحدث في تونس هو "ثورة شعبية وأن الرئيس زين العابدين بن علي هو الذي يتحمَّل المسؤولية" بالتوازي مع لقاء انعقد بين بن علي وأمين عام الاتحاد عبد السلام جراد يومها، وفي اليوم الموالي كان إضراب الاتحاد الجهوي بمحافظة تونس التي تُعتبر أكبر الاتحادات الجهوية وأقواها، خاصة أن أي تحرك تخوضه يُشارك فيه بقية الاتحادات الجهوية لإقليم تونس الكبرى (محافظات منوبة وبن عروس وتونس وأريانة).
ووفق رواية عضو المكتب التنفيذي الحالي والكاتب العام لنقابة التعليم الأساسي، حفيّظ حفيّظ، لـ"عربي بوست" فمنذ الساعات الأولى من صباح الجمعة 14 يناير/كانون الثاني بدأ النقابيون بالتوافد على ساحة محمد عليّ المحاذية للشارع الرئيسي للعاصمة التونسية أين تقع وزارة الداخليّة.
وبعد صدام خفيف مع الأمن الذي حاول منعهم من تجاوز الحواجز، تمكنوا من المرور إلى شارع الحبيب بورقيبة والتوجّه إلى الرصيف المقابل لوزارة الداخلية، وبمرور الوقت تزايد عدد المحتجين المئات، ليبلغ آلافاً طالبوا برحيل بن علي ودوّى هتافهم بشعار "Dégage..Dégage"، فهرب بن علي إلى المملكة العربية السعودية.