كشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" عن عودة نشاط المخابرات السورية في لبنان، وذلك في ظل وجود توجهات من دمشق بدعم إماراتي لإعادة الدور السوري في لبنان من جديد، بهدف التخفيف من السطوة الإيرانية على لبنان ومحاولة سحب البساط من تحت إيران وحزب الله.
وتؤكدّ تلك المصادر أن المخابرات السورية تواصلت مع العديد من القيادات السياسية اللبنانية، مشيرةً إلى أنّ هناك توجهات لإعادة تفعيل الدور السوري في لبنان بدعم إماراتي. يأتي ذلك بالتزامن مع الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى الإمارات قبل عدة أيام.
وتشير المصادر إلى أن التحالف الإماراتي-السوري بدأت إرهاصاته تظهر بعد تلك الزيارة، إذ يسعى النظام السوري إلى إعادة شرعيته في الجامعة العربية والاقتراب من الحاضنة العربية، والبحث عن دور أكبر في المنطقة، وخاصة في لبنان، حيث ترغب في ملء الفراغ السياسي الذي تركته الرياض.
توغُّل المخابرات السورية في شمال لبنان
وفي هذا السياق، كشف الكاتب والمحلل السياسي اللبناني أمين بشير أنّ هناك معلومات عن توغل جديد لعناصر المخابرات السورية لاسيما في شمال لبنان وطرابلس وعكار، وذلك بسبب التلاصق الجغرافي لتلك المناطق.
وأشار إلى أنّ هناك تاريخاً سابقاً للنظام السوري الذي يعرف جيداً هذه المناطق وأمضى في لبنان ثلاثين عاماً ولديه أصدقاء وعملاء عاشوا معه ودجّنوا على أيديه، وبالتالي فإنّ إعادة عودته ودخوله تأتي عبر خروقات لجهات وشخصيات سياسية، وهذا لا يعدّ أمراً صعباً على النظام السوري.
وكشفت مصادر لبنانية مطلعة لـ"عربي بوست" أنّ المخابرات السورية تقوم بالتواصل مع جهات ورموز سياسية، وتتحرك حيال ذلك في اتجاهين: الأول يتمثل في أوساط العلويين في طرابلس والنافذين فيها، والثاني هم الطائفة السنية هناك، وكلا الطرفين يجمعهم تعاملات مالية واقتصادية سواء التجارة والتهريب بين البلدين.
مصدر خاص من داخل حزب الله أكدّ لـ "عربي بوست" أنّ المخابرات السورية تواصلت مع عدة شخصيات لبنانية وعلى رأسهم رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان وهو أحد أهم الزعامات الدرزية في لبنان، الذي يتناغم كثيراً مع النظام السوري أكثر من الإيراني.
وذكر المصدر أنّ أرسلان يعدّ إحدى الأذرع الإعلامية المروجة للإمارات في لبنان، والذي يأتي بتنسيق وموافقة من المخابرات السورية.
وكشف المصدر ذاته أنّ معظم الشخصيات السياسية اللبنانية التي تدور بفلك النظام السوري في لبنان خففت من لهجتها مؤخراً تجاه الإمارات والخليج، ومنهم أيضاً رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع الإمارات، فهي من الشخصيات القريبة من النظام السوري لكنّه يتجنب نقد الإمارات والخليج.
ومن هنا يؤكدّ المصدر أنّ الإمارات فتحت أبواب الدعم السياسي والمالي لمثل هذه الشخصيات السياسية عبر ضوء أخضر من المخابرات السورية، ومنهم المحلل السياسي نضال السبع وهو أحد المحسوبين على النظام السوري، وكثيراً ما يظهر على القنوات الإعلامية التابعة للإمارات للترويج لسياساتها والدفاع والتماهي معاً، وهو أحد الشخصيات القريبة من النظام السوري ولعب دوراً في الأزمة السورية التي اندلعت عام 2011 من خلال صياغة ورقة الحل السياسي التي عرفت بالنقاط الثماني والتي اعتُمدت من قِبَل المجتمع الدولي وكانت أساس مؤتمر جنيف 2 للسلام في سوريا.
نسخة سُنية عن إيران
وأضاف بشير لـ "عربي بوست" أن النظام السوري يعد بمثابة النسخة والوجه الآخر من النظام الإيراني الممثل بحزب الله في لبنان، وهو يسعى للعودة إلى لبنان اليوم تحديداً لأن حزب الله بطبيعته المذهبية لا يستطيع الدخول إلى مناطق شمال لبنان السنية، فكان لابدّ من الدفع بالنظام السوري لكي يقوم بهذه المهمة فتكون المناطق المحررة من هيمنة "حزب الله" ومن الهيمنة الإيرانية في لبنان واقعة بين فكَّي الكماشة الإيرانية عبر طرفين يدينان بالولاء لطهران.
وبحسب البشير، فهناك عملية سياسية بدأت كترجمة للانفتاح العربي على النظام السوري وبالتزامن مع قرب انتهاء المفاوضات الإيرانية-الأمريكية، وقرب التوصل لاتفاق نووي جديد.
لكنّ بشير يرى أنّ النوايا الخليجية في استعادة سوريا للحضن العربي لا يجب أن يجعل من لبنان جائزة ترضية، مؤكداً أن التحركات السورية في لبنان هي استدارة ولفتة من الجانب الإيراني ومحاولة للانفتاح على الجانب العربي بعد أن رأوا أنّ الخليج يقف على الحياد في الأزمة الروسية-الأوكرانية، ويقفون في دائرة الوسط بين الأمريكيين والروس والصينيين.
من هنا أرادت طهران استغلال الوضع بهدف الحصول على مكتسبات تدخلاته العسكرية في المنطقة عبر أذرعه ليقوم بترجمتها في السياسة ولينال مكاسب سياسية. ويعدّ لبنان جزءاً مهماً منها، فهو الذي سيقدم للإيرانيين عبر وسيطه الأقرب والأسهل متمثلاً في النظام السوري القدرة على التوغل أكثر في لبنان.
ويتمتع النظام السوري بخبرته التاريخية في البلاد وعلاقاته التي نسجها منذ أكثر من ثلاثين عاماً مع أصدقاء له بالداخل اللبناني، مؤكداً أنّ المستقبل القريب سيشهد تحركات أكثر حسب ما تسفر عنه نتائج المفاوضات التي تدور بين الجانب الإيراني-الأمريكي والجانب الآخر الخليجي-الإيراني، التي ستؤثر بدورها على الواقع السياسي اللبناني وترتد عليه.
دمشق تستمر في المراقبة
وفقاً لموقع Intelligence Online الاستخباراتي الفرنسي، يراقب مملوك عن كثب المرشحين اللبنانيين الموالين لسوريا ويراقب المعارك الدائرة لاختيارهم، ويراقب بصفة خاصة الدائرة الانتخابية بعلبك الهرمل. لم يعد العضو البرلماني الحالي جميل السيد -الرئيس السابق للمديرية العامة للأمن العام التي يرأسها الآن عباس إبراهيم– مؤيداً لمملوك أو علي عبد الكريم علي، السفير السوري في لبنان.
وكان السيد قد سافر إلى دمشق لمقابلة رؤساء الأمن التابعين لوزير الداخلية السوري محمد الرحمون. في حين لا يزال المرشحان علي حجازي وعاصم قانصوه، اللذان اشتهرا بقربهما من دمشق وحزب الله، في انتظار الحصول على موافقة جهاز المخابرات السوري.
كذلك حدد مملوك مجموعة من الممثلين في منطقة عكار الشمالية لمقابلة مسؤول حزب البعث الموالي لسوريا، شحادة العلي، وغيره من زعماء عكار. ويود النظام السوري أن يرى وليد البعريني، عضو سني في حزب تيار المستقبل المعروف بولائة للنظام السوري، يفوز في دائرته الانتخابية.
تناغم سوري-إماراتي في لبنان
قال القيادي في حزب البعث السوري أيمن عبد النور لـ"عربي بوست"، إن النفوذ السوري في لبنان بعد الانسحاب السوري عام 2005 بات يمارس عبر مؤسسات مرتبطة بالنظام والمخابرات السورية وبالتنسيق مع حزب الله، لكن هذا لا يعني أنّ النظام فوض حزب الله لإدارة كل القوى والأحزاب التي تأتمر بأمر النظام السوري، مثل: الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الديمقراطي اللبناني الذي يرأسه طلال أرسلان، وحزب البعث الاشتراكي.
وبالتالي، فإنّ المخابرات السورية تسعى في تحركاتها الأخيرة إلى التوغل بكافة الاتجاهات في لبنان، مستغلة البعد الأيديولوجي وديني، فهذا السبب الرئيسي في تحقيق الولاءات الكبيرة وإيمان تلك المجموعات والأحزاب التي يتحرك من خلالها عبر أيديولوجيا "محور الممانعة والمقاومة".
أما بالنسبة لزيارة بشار الأسد إلى الإمارات، فيرى عبد النور أنّها كانت ذات بعد اقتصادي ظاهرياً، بينما الهدف الإماراتي منها هو البعد السياسي، مؤكداً أنّ أبوظبي ترغب في تشكيل كتلة سياسية تقف بوجه المحور الإيراني-التركي.
يأتي هذا بعد اتضاح سياسات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تدعم إيران بشكل كبير، وتسعى إلى فكّ الحظر المفروض على أموال طهران وتصدير النفط والغاز، الأمر الذي سيجعلها تعود إلى قوتها الإقليمية التي ستؤدي إلى زعزعة الأمن الإقليمي، الذي يمسّ جزءاً كبيراً منه أمن الإمارات مباشرة، وبالتالي ترغب الإمارات والسعودية في تكوين كتل داعمة لها في الخارج.
لذلك تريد الرياض وأبوظبي أن تكون سوريا ضمن إطار هذا التكتل حتى لو كان ذلك غير معلن، لأنّ دمشق ستكون مكان مرور كل أنابيب النفط الإيرانية إلى أوروبا والبحر المتوسط جنباً إلى جنب مع خط الغاز القطري الذي سيصل لتركيا ومن ثمّ أوروبا، وهذا لن يكون إلا عبر احتواء سوريا وتفعيل دورها السياسي في المنطقة من جديد.
الإمارات وحزب الله
وفي هذا السياق يؤكدّ رئيس مجموعة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في حزب المحافظين البريطاني أشرف محمود، بأنّ هناك مساعي خليجية للتعامل مع الأمر الواقع الذي فرضه حزب الله في لبنان.
هذا ما يتمثل في تقوية الدور السوري في لبنان الذي سيعمل بدوره على التقليل من الأدوار التي يقوم بها حزب الله والسيطرة على الأحزاب السياسية في لبنان، مشيراً إلى أنّ الإمارات لها اليد الطولى في هذا الأمر، وذلك بعد عزوف السعودية عن لعب دور في الوضع السياسي اللبناني في السنوات الأخيرة.
ويرى محمود في حديثه لـ"عربي بوست" أنّ الفراغ السياسي الذي ستتركه السعودية في لبنان، سيحل محله الدور السوري وذلك برغبة إماراتية للتخفيف من السطوة الإيرانية على لبنان وسحب البساط من تحت إيران وحزب الله، وهذا ما تؤمن به أبوظبي حتى وإن بدا أنّ النظام السوري يعدّ حليفاً استراتيجياً لإيران.
ويوضح محمود أنّ الإمارات ما كان لها أن تلعب مثل هذا الدور وتستقبل الرئيس السوري بشار الأسد في زيارته إلى الإمارات لولا ضوء أخضر غربي، وخاصة من الولايات المتحدة، مشدداً على أنّ الإمارات تسعى إلى إحداث تقارب سوري-لبناني في ظل حاجة النظام السوري حالياً إلى الدعم السياسي والاقتصادي.
إضافة إلى أنّ إيران لا تمانع من أن تلعب الإمارات والخليج دوراً اقتصادياً وسياسياً في سوريا ولبنان باعتبار أنّ هذا يعد تخفيفاً للأعباء المترتبة عليها في سوريا ولبنان، وعلى وجه الخصوص حليفها "حزب الله" في لبنان.
الإمارات تسعى إلى لعب دور أكبر في سوريا ولبنان
الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى الإمارات تحمل لها أبعاداً سياسية-اقتصادية، في ظل أنّ المنطقة تمرّ أمام متغيرات كبيرة، وهذا ما يكشف عنه المحلل السياسي والخبير في الشؤون الدولية رضوان قاسم، الذي يشير إلى أنّ الإمارات تسعى إلى أن تلعب أدواراً سياسية أكبر باعتبارها أكثر براغماتية من الطرف السعودي، كما أنّ التحركات السياسية الإماراتية تسير بشكل متسارع الخطى وسبقت بخطوات التحركات السعودية.
ويؤكدّ قاسم أنّ الجانب الإماراتي قام بدعوة سوريا أكثر من مرة للعودة إلى الجامعة العربية، مؤكداً أنّ سوريا سيكون لها دور أساسي ومهم، خصوصاً بعد الأزمة الروسية-الأوكرانية، وبالتالي فإنّ أبوظبي تسعى إلى أن تستغل الوضع في سوريا ولبنان لكسب وتمرير بعض الأوراق، منوهاً بأنّ الإمارات تسعى إلى الخروج من اليمن، ويمكن أن يشكل التقارب مع سوريا أحد هذه الأبواب، ومنها مساهمتها في إعادة إعمار سوريا ومساهمتها في تحسين الأوضاع الاقتصادية في لبنان.
ويرى قاسم أنّ الإمارات تسعى إلى أن تلعب دوراً سياسياً في لبنان، وأن تشكل حالة بديلة عن السعودية ويكون لها دور أكبر، لكن في المقابل هل ستكون قادرة على أن تشكل حالة بديلة عن السعودية، هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة عبر إرجاع سوريا إلى الجامعة العربية وحضورها الاجتماعات القادمة.