يبدو أن أزمة حقيقية تُلقي بصداها على ماسبيرو، يمكن أن تجر معها تداعيات سياسية، فهي ليست كغيرها من المظاهرات الفئوية، ذلك أنها تعبّر عن قطاع بعيد كل البعد عن السياسة.
كان "عربي بوست" قد نشر تقريراً سابقاً يقف فيه على أسباب الأزمة داخل أروقة ماسبيرو وكواليس الصراع الدائر بين الموظفين والإدارة لأسباب قالوا إنها سياسية بامتياز.
علِم "عربي بوست" أن هناك تقارير أمنية رصدت حالة الغليان داخل المبنى وتفاقُم الوضع بما ينذر بانفجار، وأوصت الجهات المسؤولة بتدارك الموقف لتهدئة الأوضاع.
يقول مصدر أمني لـ"عربي بوست"، إن "هناك انزعاجاً أمنياً من تجمهر عاملي ماسبيرو، لأنه إعادة إنتاج للمظاهرات الفئوية التي تخلصت الحكومة المصرية من صداعها قبل سنوات بإصدار قوانين منع التظاهر، لكن ما يحدث الآن قد يدفع آخرين إلى سلوك هذا الطريق؛ للضغط على المسؤولين، ووقتها لن يقتصر الأمر على ثلاثين ألف شخص يعملون بمبنى التلفزيون".
ويوضح المصدر أن التظاهرات كانت داخل المبنى، وقمعها معناه كر وفر وفوضى في التلفزيون الرسمي للدولة وتشويه لصورة النظام، فضلاً عن أنه رسالة سلبية للشعب كله وموظفي الدولة بأن السلطة ليس لديها عزيز حتى وإن كانت مطالبهم مشروعة، وفي الوقت ذاته فإن الصمت وغض البصر عن تواصل التظاهرات يفسحان المجال لهيئات أخرى لها مطالب وسيكون من حقها ذلك.
لكن كان هناك اتفاق ضمني على تهدئة الأوضاع بأي طريقة، إذ تفاقمت التظاهرات في وقت تزامن مع ذكرى ثورة يناير وخوفاً من استمرار التظاهرات وامتداد العدوى لمؤسسات أخرى بالدولة تعاني من المشاكل ذاتها.
وهذا يفسر تواصل جهة سيادية مع خالد السبكي رئيس اللجنة النقابية للعاملين في القطاع الاقتصادي بالهيئة الوطنية للإعلام؛ في محاولة لحل الأزمة، ونقلت إليه وجهة النظر الرسمية بأن الاحتجاجات يجري استغلالها سياسياً من قِبل قنوات تابعة للإخوان، وطلب مندوب تلك الجهة تفاصيل مطالب وشكاوى العاملين محرَّرة في طلب رسمى، وهو ما حدث بالفعل، لكن ذلك لم يسفر عن حل للأزمة.
وقبل خمسة أيام من ذكرى ثورة يناير، أكد وزير المالية محمد معيط، أنه جرى توفير 220 مليون جنيه (14 مليون دولار تقريباً) دعماً لماسبيرو، إلى جانب تحويل مبلغ 75 مليون جنيه إضافية (نحو 5 ملايين دولار) لحل مشكلات العاملين فيه، وهي مبالغ لم تحلّ سوى جزء بسيط من الأزمة الراهنة التي هي في حاجة إلى أضعاف هذه الأرقام، حسب بعض العاملين في التلفزيون.
وتعهدت الهيئة الوطنية للإعلام، في بيان، بصرف علاوات عامي 2017 و2018، وشهر من 2019، للعاملين في مواعيد صرف مرتبات يناير، وكذلك صرف مكافأة نهاية الخدمة كاملة لموظفي "ماسبيرو" والمقدرة بـ150 شهراً، وذلك للمحالين من أول يناير/كانون الثاني 2019، وكذلك صرف مستحقات نهاية الخدمة للمتبقين من شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول عام 2018 ممن لم تصرف مستحقاتهم.
ما بعد ذكرى يناير.. خصم وإقالة ونقل تعسفي وإيقاف عن العمل
محاولة امتصاص غضب أبناء ماسبيرو كانت لبرهة من الوقت؛ لكي تمر ذكرى ثورة يناير بهدوء، وبعدها كشَّر المسؤولون عن أنيابهم، ورصد "عربي بوست" أن الهيئة الوطنية للإعلام قامت بإخضاع عدد من المشاركين في الاحتجاجات للتحقيق.
حيث كشف عضو باللجنة النقابية عن استدعاء عشرات العاملين في العديد من القطاعات، منها الإنتاج، والأخبار، والأمانة العامة، والقطاع الاقتصادي، وتم توجيه تهم إليهم؛ منها وقف العمل، وتكدير السلم الاجتماعي، والتظاهر ورفع اللافتات، وتبع ذلك جزاءات وخصومات ونقل تعسفي لآخرين من قطاع الأمن إلى مقر آخر تابع للهيئة بمحافظة الجيزة، بسبب تضامنهم مع المتظاهرين.
وعن كيفية حصر المشاركين في الاحتجاجات حالياً، يشير العضو إلى أنه تم توجيه تعليمات لمديري العموم بإحكام الرقابة على وجود العاملين بمكاتبهم ممن وقَّعوا في دفاتر الحضور، وعدم وجودهم يعني نزولهم للتظاهر وتحويلهم للتحقيق.
واتخذت الهيئة الوطنية للإعلام قراراً بمنع دخول البعض لمبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون وعلى رأسهم الإعلامية هالة فهمي، وتم إيقافها عن العمل في 17 فبراير/شباط 2022 لمدة 3 أشهر، بسبب هجومها الشديد على قيادات الهيئة ورؤساء القطاعات.
كشف فرد أمن بالمبنى لـ"عربي بوست" بعدما طلب عدم ذكر اسمه؛ خوفاً من فصله، أن د.هالة فهمي مذيعة بالقناة الثانية، استطاعت الدخول للمبنى متخفيةً بارتداء "إيشارب وكمامة"؛ لكيلا يمنعها رجال الأمن، وعندما جاءت تعليمات بإخراجها من المبنى بأي وسيلة، اعتذر المدير العام بأمن التلفزيون عن الاستمرار في منصبه وذهب إليها قائلاً: "ما أقدرش أعمل كده".
أما بالنسبة لصفاء الكوربيجي التي ذكرت على الملأ استحواذ المخابرات على المبنى وقال البعض إنها مندسة ولا تنتمي إلى ماسبيرو وتبث فيديوهاتها من تركيا، فقد توصل "عربي بوست" إلى أنها تعمل سكرتير تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون الصادرة عن الهيئة، وبعد تداول الفيديو أصدر رئيس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون بالإنابة ورئيس التحرير خالد حنفي، يوم 6 مارس/آذار 2022، قراراً بإنهاء خدمة الصحفية تحت مبررات واهية، منها الانقطاع عن العمل بدون إذن أو عذر مقبول اعتباراً من يوم 1 يناير/كانون الثاني 2022 حتى 6 مارس/آذار، رغم إنذارها على محل إقامتها الثابت بملف خدمتها أكثر من مرة.
وكشف عضو بنقابة الصحفيين أن الكوربيجى تقدمت بتظلم إلى ضياء رشوان، نقيب الصحفيين، ضد القرار "التعسفي"، موضحةً أنه "لم يتم إنذارها بعد انقطاعها عن العمل أكثر من 7 أيام طبقاً لنص المادة 100 من القانون 48 لسنة 1978 الخاضع له الصحفيون بالمجلة، كما لم يتم إنذارها أيضاً بعد اكتمال مدة 15 يوماً غير متصلة طبقاً للقانون، إضافة إلى إصابتها بمرض كوفيد 19 في شهر يناير/كانون الثاني 2022، إلى جانب وجود مواد قانونية تجيز للعامل الذي لديه ظروف خاصة، القيام بإنجاز العمل عن بعد، وأنها ترسل التكليفات الخاصة بها على الإيميل الرسمي للمجلة منذ أكثر من 5 سنوات؛ لكونها صحفية من ذوي الهمم".
يقول العضو إن الصحفية باتت من المغضوب عليهم بعد دخولها عش الدبابير بقولها إن "المخابرات تستحوذ على كل حاجة بالبلد".
ما ذكرته الصحفية ليس بجديد، فالمخابرات العامة تستحوذ على عدد من المؤسسات الكبرى، أبرزها مجموعة "إيجل كابيتال للاستثمارات المالية" التي تمتلك "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية" المهيمنة حالياً على أغلب وسائل الإعلام المصرية، وضمت معظم الشركات العاملة في مجالات الصحافة والإعلام والإعلان وإنتاج المحتوى والتقنيات ذات الصلة.
وأبدت منظمة مراسلون بلا حدود، قلقها من سيطرة أجهزة المخابرات على عدد من المؤسسات الإعلامية المصرية، وذلك في تقرير بعنوان "مصر: حينما تبسط المخابرات سيطرتها على الإعلام".
ويؤكد العضو أن احتجاجات موظفي ماسبيرو لم تعد تشكل هاجساً يؤرّق الأجهزة الحكومية، كما كانت سابقاً، فهناك إعلام رسمي موازٍ يؤدي المهمة بصورة أفضل وله أذرعه من قنوات وصحف مملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.
يتوقع العضو رفض التظلم المقدم من الصحفية، لأن ذلك سيفتح المجال أمام آخرين للتجرؤ على جهاز سيادي آمنين العقاب، على الجانب المقابل فإن عودتها للعمل تعني أن هناك جهة سيادية أخرى تساندها وتقوم باستخدامها لصالحها وتدافع عنها، وهذا سيرسخ فكرة يحاول المسؤولون انكارها وهي صراع الأجنحة بين الأجهزة السيادية والذي ظهر جلياً في حالة وزير الإعلام المستقيل أسامة هيكل.
جمهورية جديدة بلا ماسبيرو!
حملنا تلك الملفات لمسؤول سابق بالهيئة؛ لتوضيح ما يحدث وسبب تجاهل الحكومة والإعلام لتلك التظاهرات، التي لا يبدو أنها ستتوقف في القريب العاجل.
يتوقع المسؤول الذي عمل لسنوات بالمبنى، أن تكون الجمهورية الجديدة بلا ماسبيرو وملحقاته وأنها مسألة وقت، فالإعلام الرسمي القديم كان تعبيراً عن حقب تاريخية سابقة لا تنسجم تصوراتها السياسية مع التوجهات المستقبلية، خاصةً أنهم أصبحوا دون تأثير ملموس في الرأي العام.
وفيما يتعلق بسيطرة المخابرات على ماسبيرو، يؤكد المسؤول ذلك موضحاً أن ما استفز العاملين هو أن السيطرة تعدت المحتوى الإخباري إلى السيطرة على أرشيف نادر لا يوجد له مثيل بالمحطات الإعلامية الأخرى أو قطاع الإنتاج أو شركات الصوتيات والمرئيات، والأهم من ذلك تحجيم دور الإعلام القومي أو الوطني لصالح الإعلام الخاص الذي تديره المؤسسة العسكرية منذ سنوات.
ويوضح المصدر أن هناك مؤشرات تعزز ما يتردد حول غلق المبنى العريق، أولها: قرار الحكومة الاستحواذ على المرآب الخاص بالعاملين لهدمه وضم أرضه لمسطح مشروع مثلث ماسبيرو العملاق الذي يبنى حول مبنى الإذاعة والتلفزيون.
أما المؤشر الثاني فهو موافقة لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس النواب المصري في يونيو/حزيران الماضي، على اقتراح بشأن إيقاف البث الفضائي للقنوات الإقليمية بداية من القناة الثالثة وحتى القناة الثامنة والاكتفاء بالبث الأرضي، وقيل وقتها إن الهدف من ذلك هو توفير ما يقرب من مليون و400 الف دولار سنوياً يمكن استخدامها في التطوير، بينما الحقيقة أنها قرارات تدريجية لتمهيد الرأي العام في حال تم اتخاذ قرار نهائي بالتصفية.
نمى إلى علم المصدر أنه يتم تجهيز مقر بديل لماسبيرو في العاصمة الإدارية الجديدة، وتم إبلاغ بعض من وقع عليهم الاختيار للانتقال إلى هناك؛ لتدبير أمورهم، مع التنبيه عليهم بعدم الإفصاح عن ذلك إلا بعد صدور قرار رسمي.
ويشير إلى أن غياب تغطية تظاهرات ماسبيرو وعدم التدخل الأمني لوأدها هو رسالة للمتظاهرين بأن الدولة تمضي نحو تقليص إنفاقها على وسائل الإعلام؛ للتخلص من العبء المالي الذي يسببه وجود أكثر 30 ألف موظف، ولن تتراجع تحت أي ضغوط.