ربما لم تعد مدينة إسطنبول ملاذاً للفارين من الحروب والصراعات أو الملاحقات السياسية من دول الشرق الأوسط فحسب، بل يبدو أنها تتحول إلى وجهة لدول شمال أوراسيا حسبما تكشفه تطورات الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فإلى جانب الأوكرانيين الفارين من الحرب، هناك مواطنون روس أيضاً يفرون من بلادهم نحو إسطنبول هرباً من أجواء الحرب هناك.
يبرز الصحفيون على رأس هؤلاء الفارين من روسيا، الكثير منهم كان يعمل في مؤسسات ومنصات خاصة "مستقلة" عن الإعلام الروسي في البلاد والذي يحظى بمتابعة ملايين الروس.
تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية يحكي عن ماريا بورزونوفا وسونيا غرويسمان اللتين حضرتا اجتماع إحاطة مع فريقهما في وسيلة الإعلام الروسية المستقلة Dozhd TV في وقت سابق من هذا الشهر، لكن هذا الاجتماع لم يشأ له أن يكون في مكتبهما في أحد أحياء موسكو العصرية، بل في مدينة إسطنبول حيث التقى زملاء العمل السابقون لمناقشة ما يجب فعله بعدما فروا من روسيا إثر إيقاف بث قناتهم فجأة.
"مصير مجهول"
تقول ماريا بورزونوفا، التي كانت مذيعة أخبار ومراسلة في Dozhd TV، من شرفة على السطح تطل على مضيق البوسفور: "ببساطة لا توجد خطة في الوقت الحالي. نحن نحاول جميعاً معرفة ما يجب فعله في حياتنا".
في 1 مارس/آذار، أغلق مزودو خدمات الإنترنت الروس الموقع الإلكتروني والتطبيق لقناة Dozhd TV، وهي القناة التلفزيونية المستقلة الوحيدة في البلاد، والمعروفة أيضاً باسم Rain TV.
كانت هذه الخطوة جزءاً من التضييقات غير المسبوقة على "حرية التعبير" في روسيا في أعقاب هجومها على أوكرانيا. وتعرضت فعلياً شتى وسائل الإعلام المستقلة الناطقة بالروسية للحظر أو الإغلاق، بما في ذلك موقع الأخبار Meduza والمحطة الإذاعية القديمة Ekho Moskvy. وحُجِبَت كذلك منصات فيسبوك وتويتر وإنستغرام، وقُيِّد الوصول إلى منافذ الأخبار الأجنبية بما في ذلك BBC و Deutsche Welle و Radio Free Europe.
وكانت روسيا قد أقرت قانوناً يعاقب على نشر معلومات "كاذبة" حول عملية الكرملين العسكرية في أوكرانيا بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً.
"انتهت اللعبة"
تضيف سونيا، التي كانت مراسلة فيديو في قناة Dozhd TV: "أردنا حقاً الاستمرار في العمل حتى بعد أن قطع بثنا".
لكن بعدما تلقت القناة "تهديدات موثوقة" بأنَّ الشرطة كانت على وشك اقتحام مكتبهم، بدأت ماريا بورزونوفا وسونيا غرويسمان، مع بقية أعضاء الفريق، في بحث محموم عن تذاكر طائرة للهروب إلى الخارج.
وأوضحت سونيا: "بمجرد أن سمعنا عن الحملة المحتملة، علمنا أنه يتعين علينا الخروج. لقد انتهت اللعبة".
ويُعتقَد أنَّ ما لا يقل عن 150 صحفياً روسياً، بما في ذلك معظم فريق Dozhd TV، قد فروا من روسيا.
وحاولت بعض وسائل الإعلام؛ مثل Novaya Gazeta، آخر صحيفة مستقلة كبرى، الاستمرار في العمل من خلال إخبار قرائها بأنهم هم من يمارسون الرقابة الذاتية أثناء تغطية العملية العسكرية. في حين توجهت وسائل إعلام أخرى، مثل Meduza وMoscow Times، بنقل مكاتبها بالكامل خارج البلاد.
لكن بالنسبة إلى Dozhd TV، بدا كلا الخيارين عديم الجدوى.
قالت ماريا بورزونوفا: "كان من الواضح أننا لن نستطيع أداء عملنا بأمانة في ظل القانون الجديد. وبما أننا قناة تلفزيونية، نحتاج إلى استوديوهات ومعدات مناسبة، لا يمكننا العمل من المخابئ أو الانتقال إلى الخارج. لم يكن هناك خيار آخر سوى الإغلاق".
إسطنبول "المحطة الأولى"
برزت إسطنبول بصفتها وجهة بارزة، في ظل عدم وجود خيارات بديلة في الغرب بعد أن أغلقت دول مجالها الجوي أمام شركات الطيران الروسية التي ألغت بدورها الرحلات الدولية.
وبينما أضحت المدينة المحطة الأولى للعاملين السابقين في Dozhd، يخطط العديد من الفريق للسفر من تركيا إلى تبليسي، التي صارت سريعاً ملاذاً آخر مفضلاً للروس.
كان الصحفيون العاملون في روسيا قد واجهوا بالفعل شبكة معقدة من التكتيكات القمعية من الدولة، بما في ذلك قانون صدر العام الماضي يصف العديد من المؤسسات الإعلامية المستقلة بأنها "عملاء أجانب"، أو حتى أسوأ "غير مرغوب فيها". ويفرض هذا القانون عقوبات على المنافذ الإخبارية؛ مما يجعل أنشطتها داخل روسيا غير قانونية تماماً، بما في ذلك الاتصال بمصادر أو شبكات محتملة.
وقالت سونيا: "في الساعات القليلة الأولى التي تلت حجب Dozhd TV، شعرت باندفاع الأدرينالين عبر المكتب. لم يرغب أحد في الاستسلام، لكن في أعماقي، كنت أعلم أنَّ الأمر قد انتهى، ولا يمكنك الفوز على النظام".
"لعبة مطاردة
ومن فترة طويلة، يحاول الصحفيون الروس مواصلة العمل في ما يشبه لعبة مطاردة مستمرة مع السلطات. ومع ذلك، يبدو أنَّ العملية العسكرية الأخيرة قضت على أية صحافة مستقلة.
تقرير آخر لـ"نيويورك تايمز" كان قد تحدث أيضاً عن هجرة آلاف المواطنين الروس إلى إسطنبول، جلهم من المدونين والصحفيين والناشطين وحتى الفنانين الذين يخشون أن يقبض عليهم في ظل القانون الجديد الذي ينص على عقوبة تصل إلى 15 عاماً في السجن لمن يدلي بمعلومات "كاذبة" حول الحرب في أوكرانيا.
وتعبر هذه "النخبة" الروسية عن خشيتها من مواصلة مهامها وعملها داخل بلادهم بشكل سليم دون ملاحقة، معتبرين أن حياة "الطبقة المتوسطة" في روسيا قد انتهت بين عشية وضحاها.