تمر الذكرى الـ34 للفاجعة المأساوية التي راح ضحيتها أكثر من 5500 إنسان دفعوا ضريبة الحرب العراقية-الإيرانية، حيث استيقظ سكان منطقة حلبجة في يوم 16 مارس/آذار عام 1988، على أصوات الصواريخ وغازات الأسلحة الكيماوية التي أصابت بين 7000 و10000 شخص بجروح بالغة، بينها تشوهات خلقية مع انتشار خطير لأمراض السرطان.
جاء الهجوم في إطار حملة الأنفال بإقليم كردستان، وكمحاولة للجيش العراقي لصدّ عملية "ظفر 7" الإيرانية في الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت 8 أعوام بين (1980-1988)، حيث وقع الهجوم بعد 48 ساعة من سيطرة الجيش الإيراني على المدينة. وخلصت التحقيقات التي أجرتها وكالات الأمم المتحدة، إلى استخدام القوات العراقية غاز الخردل لإنهاء المعركة.
وبعد سنوات من ضياع أصول القضية واتهام إيران، وسقوط النظام السابق عام 2003، اعتبرت المحكمة الجنائية العراقية العليا رسمياً مجزرة حلبجة جريمة إنسانية، ووصفتها بـ"إبادة جماعية" بحق الشعب الكردي في العراق بعهد حكم حزب البعث ونظام الرئيس السابق صدام حسين. كما أدان البرلمان الكندي الهجوم واعتبره جريمة ضد الإنسانية. وعلى أثر ذلك أُدين علي حسن المجيد، المعروف باسم "علي كيماوي"، قائد حملة الأنفال، بتهمة إصدار الأوامر بالهجوم، وأُعدم بقرار المحكمة الاتحادية في وقت لاحق من عام 2010.
ما هي علاقة إيران بالمجرزة؟
اتخذت وزارة الخارجية الأمريكية في أعقاب الحادثة المأساوية مباشرة موقفاً رسمياً بأن إيران كانت المسؤولة جزئياً عن الهجوم، حيث أفادت دراسة أولية لوكالة استخبارات الدفاع (DIA) في ذلك الوقت، بأن إيران مسؤولة عن الهجوم، وهو تقييم استخدمته وكالة المخابرات المركزية (CIA) لاحقاً في أوائل التسعينيات.
وذكر فيه أن اللون الأزرق حول أفواه الضحايا وفي أطرافهم يشير إلى استخدام "غاز السيانيد" في الهجوم على حلبجة، وأن إيران فقط هي التي عُرف عنها استخدام مثل هذه الغازات خلال الحرب العراقية-الإيرانية التي دامت 8 سنوات (1980-1988).
وبهذا الصدد تحدث المحلل السياسي سامان مزوري، في تصريح خاص لمراسل موقع "عربي بوست"، قائلاً: "قضية حلبجة كان فيها لاعبون أساسيون يعملون داخل الأراضي الكردية، وإيران كانت تتعاون مع بعض الأحزاب المعارضة لنظام البعث آنذاك، في سبيل تحرير حلبجة من قبضة صدام حسين والفوز بالمعركة من شمال العراق، فكانت تمرر الأسلحة للمعارضة من أكراد إيران وتوجه الجيش الإيراني بارتداء ملابس مدنية وأقنعة، ثم استخدمت غاز السيانيد السام لضرب القوات العراقية في المنطقة، وهذا ما أدى إلى موت الآلاف من المدنيين المحاصرين بين قرى جبهات القتال".
وتابع مزوري: "حاولت إيران استخدام المدنيين كدروع بشرية في معركتها مع الجيش العراقي، واستخدمت صواريخ وإشعاعات، كانت سبباً في إصابة الآلاف بأمراض السرطان، وهذا ما ظهر بعد سنوات من انتهاء الحرب، حيث أجبرت القوات العراقية على الرد بالمثل، فاستخدم الجيش العراقي غاز الخردل؛ كي يقاوم عسكرياً، وهذا دليل مباشر على تورط الجيشين الإيراني والعراقي في المجزرة، والضحية هو المواطن الكردي الذي لم يسلم من ويلات الصراعات الإقليمية".
أثر خلافات الأحزاب الكردية على الفاجعة
في تصريح خاص لـ"عربي بوست"، تحدث الخبير الأمني جواد التميمي، قائلاً: "خلال الحرب العراقية-الإيرانية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 1980 وانتهت في آب (أغسطس) 1988، حيث دخلت الأحزاب الكردية الكبرى (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني) كأطراف في الحرب في سبيل تخليص الأراضي الكردية من قبضة نظام البعث الذي كان يمارس الإقصاء والتهميش والاضطهاد بحق المدنيين، ما أدى إلى تحول منطقة حلبجة إلى ساحة معركة مفتوحة بين النظامين العراقي والإيراني".
وأضاف التميمي: "مجزرة حلبجة تعتبر إحدى أفظع المجازر دمويةً في تاريخ الشعب الكردي والمنطقة، وأحد أبرز أسبابها الخلافات الأهلية بين الأحزاب الكردية الحاكمة في تلك الفترة، والتي أدت إلى ضياع حقوق المدنيين من الأبرياء وقتل أكثر من 5000 شخص بينهم المئات من النساء والأطفال، حيث صار المدنيون ضحايا حرب دامية بين النظامين العراقي والإيراني، وعليه من الضروري أن يعترف المجتمع الدولي بأن تلك الحادثة كانت بمثابة إبادة جماعية بحق الشعب الكردي، فهذه المأساة يتذكرها الشعب الكردي كل عام ولا يمكن نسيانها".
"يوم عصيب لم نشهد مثله"
تواصل مراسل "عربي بوست" مع روناك أم أمانج، وهي سيدة تبلغ من العمر 60 عاماً، فقدت زوجها وطفليها في مجزرة حلبجة، وسردت الحادثة بالقول: "كان تاريخ 16 مارس/آذار من عام 1988، يوماً عصيباً دموياً لم نشهده طيلة حياتنا، فالجيش العراقي كان يقصف قريتنا بالكيماوي، والجيش الإيراني يرد بالصواريخ، ما أدى إلى قتل زوجي وطفليّ أمانج (وكان عمره 5 أعوام) ونازدار (وعمرها عامان)، وقد أصبتُ بعد 5 سنوات بمرض سرطان الثدي نتيجة الإشعاعات الكيماوية في الحرب".
كما تابعت السيدة أُم أمانج: "منذ ذلك الحين وما زلنا نتذكر السنوات التي مرت ونزور المقابر، ولم نحصل على تعويض من الحكومة، ولم أستطع أن أتزوج مرة ثانية، بسبب إصابتي بمرض السرطان، فضاعت حقوقنا وبتنا منسيِّين بلا معيل".
من جهة أخرى تحدث سيامند هريم، ويعمل فلاحاً في منطقة حلبجة القديمة، وقال لمراسل "عربي بوست" في حديثه: "فقدت والدي ووالدتي بعمر 6 سنوات، وأصبحت يتيم الأبوين، فاضطررت إلى العيش في دار الأيتام لأكثر من 10 أعوام، بعد أن دمرت الحرب بيتنا الصغير في ريف حلبحة، وبعد خروجي من دار الأيتام عملت فلاحاً، لأني لا أملك شهادة مدرسية، وعانيت طيلة فترة حياتي بأعمال شاقة، فخسرت طفولتي وشبابي".
وأضاف هريم: "لن أنسى اللحظات الأخيرة وعائلتي تموت أمام عيني، ولا أستطيع فعل أي شيء، وما زالت تلك المشاهد تُذكرني بالحرب، التي لم نُردها، ولكن دفعنا مرارتها، ثم جاء السياسيون ليتاجروا بقضايانا، وبتنا فقط أرقاماً في خطاباتهم الإعلامية، فلا أحد يكترث لنا، ولا شيء يعوضنا خسارتنا".
قرار المحكمة الجنائية في العراق
بحسب المحامية الكردية هانا زيباري التي كانت تدافع عن ضحايا مجزرة حلبجة، وتحدثت لـ"عربي بوست"، فإن "جهات وأطرافاً عدة كانت خلف ارتكاب مجزرة حلبجة، إلا أن هناك شخصيات وقفت وراءها بشكل مباشر وكانت المسبب الرئيسي لتلك الجريمة البشعة، وبعد تقديمنا للأوراق والوثائق والصور كدلائل، أوصلناها للمحكمة الجنائية العليا في العراق، قررت المحكمة بعد التحقيق أن مرتكب الجريمة هو النظام البعثي العراقي الذي كان يقوده الرئيس العراقي صدام حسين آنذاك".
وأشارت زيباري إلى أن "حادثة حلبجة التي تسمى بـ(الأنفال) كانت وراءها قرارات مجنونة ومستبدة بأوامر من رئيس الجمهورية السابق صدام حسين، الذي أعطى الأوامر إلى ابن عمه أمين سر مكتب الشمال لحزب البعث في ذلك الوقت، علي حسن المجيد، بقصف مدينة حلبجة بالكيماوي، ما أدى إلى ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الشعب الكردي، وعلى أثر ذلك أصدرت المحكمة الجنائية قرارها بشنق (علي حسن المجيد) في كانون الثاني (يناير) 2010".
انتهت الحرب العراقية-الإيرانية التي امتدت 8 سنوات بين عامي 1980-1988، وبقت صور المآسي شاخصةً في ذاكرة الكرد من سكان منطقة حلبجة، وأبرزها تلك الصورة للمواطن الكردي "عمر خاور" وهو يحضن طفله الرضيع بعد أن قصفت الصواريخ بيتهما وأودت بحياتهما. ومنذ ذلك الحين بقيت الفاجعة مثيرة للجدل، بسبب اختلاط أوراقها بين نظام البعث السابق، وتدخلات الجيش الإيراني، وخلافات الأحزاب الكردية، ما أدى إلى ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الآلاف من المدنيين في شمال العراق.