قالت صحيفة The New York Times الأمريكية، إنها جمعت أدلة تلقي ضوءاً جديداً على أحد الألغاز الدائمة للحرب في سوريا، وهي المقابر الجماعية، مشيرةً إلى أن تلك المقابر قد تحمل أدلة على ارتكاب جرائم حرب.
تساءلت الصحيفة: "ماذا حدث لجثث الآلاف من الذين ماتوا أو قُتِلوا في مراكز الاحتجاز الحكومية؟"، وأشارت إلى أنها أجرت على مدار عدة أشهر، مقابلات مع 4 سوريين عملوا في مقابر جماعية سريّة أو بالقرب منها، وكشفوا عن معلومات صادمة حولها.
تقول الصحيفة إنه في أحد النهارات، استخدم العمال الآلات الثقيلة لحفرِ الحُفر والخنادق، وبعد حلول الظلام جاءت الجثث- التي وصلت إلى المئات في المرة الواحدة- في أسرَّة الشاحنات العسكرية، أو في شاحنات التبريد المُخصَّصة لنقل الطعام.
بينما كان ضباط المخابرات التابعون لنظام الأسد يراقبون، أُلقِيَ الموتى على الأرض ودُفِنوا بالقرب من العاصمة دمشق، وفقاً لرجالٍ عملوا في مقبرتين جماعيَّتين، وأشارت الصحيفة إلى أنه في بعض الأحيان، كان العمال يطمرون كثيراً من الرمال والتراب؛ لمنع الكلاب من حفر القبور وصولاً إلى الجثث.
إلى جانب المقابلات التي أجرتها الصحيفة مع الرجال الأربعة السوريين تم الاستعانة بصور الأقمار الصناعية، وقالت الصحيفة: "كشفت هذه القرائن معاً عن موقعين، كلُّ واحد يحمل آلاف الجثث"، بحسب الرجال الذين عملوا هناك.
أضافت الصحيفة أنه يمكن أن تتضمَّن المقابر أدلةً قويةً على جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الأسد، وفقاً لمجموعات حقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب المنهجي وقتل المعتقلين.
كانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد قالت إن العديد من الجثث التي تعود لأشخاص قُتِلوا وهم رهن الاحتجاز، أُرسلت إلى المستشفيات الحكومية، حيث سُجِّلَت وفاتهم، وتحدّث الرجال الأربعة الذين قابلتهم الصحيفة عما حدث بعد ذلك.
شاهد السوريون الأربعة الذين تحدثوا للصحيفة أجزاء من جهود النظام للتخلص من الجثث، اثنان من الرجال هما من اللاجئين الآن في ألمانيا، وواحدٌ في لبنان والآخر في سوريا، وتحدَّث ثلاثة شريطة عدم الكشف عن هويتهم؛ خوفاً من انتقام النظام.
شاهد كلٌّ منهم أيضاً جزءاً فقط من عمليات الدفن التي نفَّذتها الحكومة، والتي تقول جماعات حقوق الإنسان إنها تكرَّرَت على الأرجح في مواقع المقابر الجماعية الأخرى بجميع أنحاء البلاد.
تقول الصحيفة إن روايتهم كانت متسقةً إلى حدٍّ كبير مع بعضها البعض، ومع تقارير جماعات حقوق الإنسان التي وثقت انتشار الوفيات في الاعتقالات ونقل الجثث إلى المستشفيات.
(د) وهو أحد الرجال الذين تمت مقابلتهم بخصوص ما رآه في محاكمةٍ تاريخية بألمانيا حول جرائم حرب في سوريا، والتي انتهت في يناير/كانون الثاني 2022 بالسجن المؤبد لضابط المخابرات السوري السابق أنور رسلان، الذي أُدينَ بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
قال الرجل (د) إنه عمل قبل الحرب لصالح نظام الأسد في الإشراف على مدافن المدنيين، وأشار إلى أنه في منتصف 2011، جنَّده ضباط المخابرات للتخلص من الجثث القادمة من مراكز الاحتجاز عبر المستشفيات، وقام بهذا العمل لمدة ست سنوات في مقبرتين جماعيتين.
تحدّث الرجل عن أول مقبرة جماعية عمل فريقه فيها، من منتصف 2011 حتى أوائل 2013، وكانت في بلدة نجها جنوب دمشق، وقال إنه في البداية أشرف على عدد قليل من العمال الذين دفنوا أعداداً صغيرة من الجثث، ولكن مع تصاعد حِدَّة الصراع ازدادت الأعداد.
حصل هذا الرجل على حافلةٍ بيضاء اللون مزينة بصور الأسد من طراز "نيسان"، وهو يرتدي زياً عسكرياً ويحمل تصريحاً يسمح له بعبور نقاط التفتيش، وقبل الفجر، كان يقود أكثر من عشرة عمال إلى المقابر الجماعية.
بشكلٍ منفصل، نقلت شاحنات التبريد الكبيرة المخصَّصة لنقل الطعام الجثث من المستشفيات إلى القبور، على حدِّ قوله، وعندما وصلوا، كان فريقه يرمي الجثث على الأرض، وقال إن العديد من الجثث كانت بها كدمات وآفات وأظافر مفقودة، وبعضها كان يتحلَّل، مِمَّا يشير إلى مرور بعض الوقت على وفاتهم.
أضاف الرجل أنه لم يدفن الجثث بنفسه، لكنه أشرف على العمال وتلقَّى أوراقاً من المستشفيات توضح عدد الجثث التي جاءت من كل مركز احتجاز، وقال إنه سجل هذه الأرقام في دفترٍ بمكتبه، لكنه ترك تلك الأوراق عندما فرَّ من سوريا في العام 2017.
عائلات تبحث عن أبنائها
قابلت الصحيفة أيضاً دياب سرية، وهو شريك مؤسس لجمعية المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا سيئ السمعة بسوريا، والذي عمل على تحديد مواقع المقابر الجماعية، قال: "إذا لم تُحَلّ قضية المفقودين والمختفين، فلن يكون هناك سلام في سوريا".
سرية أضاف أنهم يتلقون كل يومٍ مكالمات من أشخاص يريدون معرفة مكان أبنائهم. ويقول كثير منهم: "أريد فقط أن أرى قبراً؛ حتى أتمكن من وضع زهرة عليه".
كانت جماعات حقوق الإنسان والمنشقون عن نظام الأسد، قد وثقوا على مدار 11 عاماً منذ اندلاع الاحتجاجات في سوريا، عمليات القتل الواسع النطاق للمدنيين على أيدي قوات الأمن، أثناء سعيها للقضاء على أي معارضة للأسد.
بحسب تصريح لوزارة الخزانة الأمريكية العام الماضي، فإن 14 ألفاً على الأقل من المعتقلين تعرضوا للتعذيب حتى الموت، لكن العدد الفعلي يكاد يكون بالتأكيد أعلى من ذلك بكثير. وقد اختفى أكثر من 130 ألفاً آخرين في مراكز الاحتجاز الحكومية، ويُفتَرَض أن العديد منهم ماتوا.
ينفي نظام الأسد قتله المعتقلين تحت التعذيب، على الرغم من المجموعة الضخمة من الصور التي سربها المصور السابق المنشق "قيصر"، وعددها 55 ألف صورة لـ11 ألف جثة عليها آثار تعذيب.
تقول الصحيفة الأمريكية إنه لن يكون من الممكن عدُّ الجثث في المقابر الجماعية والتعرف عليها إلا من خلال نبشها، لكن من غير المرجح أن يحدث هذا طالما بقي الأسد في السلطة.
لكن من أجل لفت الانتباه إلى تلك الفظائع، قامت فرقة الطوارئ السورية بإحضار أحد الرجال الذين قابلتهم صحيفة New York Times إلى واشنطن هذا الأسبوع؛ للتحدُّث مع أعضاء الكونغرس وآخرين عن المقابر الجماعية.