هرَّبت روسيا مئات الأطنان من الذهب السوداني بطريقة غير مشروعة على مدار السنوات القليلة الماضية، وذلك ضمن جهود أوسع لتحصين موسكو من تداعيات العقوبات الغربية إثر غزو موسكو لجارتها أوكرانيا، طبقاً لما أوردته صحيفة The Telegraph البريطانية، يوم الخميس 3 مارس/آذار 2022.
حيث زاد الكرملين مخزون الذهب في البنك المركزي الروسي بمقدار أربعة أضعاف منذ عام 2010، الأمر الذي أنشأ ما قد يطلق عليه "صندوق حرب" لتأمين اقتصاد روسيا من خلال مزيج من الواردات الأجنبية واحتياطيات هائلة من الذهب المحلي باعتبارها ثالث أكبر منتج لهذا المعدن الثمين في العالم.
فيما بات مخزون الذهب لدى روسيا أكبر من الدولار الأمريكي لأول مرة في يونيو/حزيران 2020، إذ شكَّلت نسبة سبائك الذهب نحو 23% من إجمالي احتياطيات البنك المركزي الروسي، التي ارتفعت إلى 630 مليار دولار اعتباراً من الشهر الماضي.
لا توجد صادرات سودانية
بينما تشير الإحصاءات الرسمية إلى عدم وجود أي صادرات للذهب تقريباً من السودان إلى روسيا، وقال مسؤول تنفيذي في واحدة من أكبر شركات الذهب السودانية إنَّ الكرملين أكبر جهة أجنبية منخرطة في قطاع التعدين الضخم بالبلاد.
المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أوضح أنَّ "روسيا تدير كثيراً من عمليات التنقيب عن الذهب في السودان، وهُرَّب اكثير من هذا الذهب إلى موسكو في طائرات صغيرة من المطارات العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد".
في حين يعتقد المسؤول ذاته أنَّ نحو 30 طناً من الذهب تنتقل سنوياً من السودان إلى روسيا على الرغم من استحالة تحديد الحجم الحقيقي لهذه العمليات، مؤكداً أنَّ روسيا يُسمح لها بفعل ذلك، بسبب صِلاتها بنائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي).
زيارة مثيرة للجدل
كان حميدتي قد اختتم في 2 مارس/آذار الجاري، زيارة لروسيا بدأت في 23 فبراير/شباط الماضي، قبل يوم واحد فقط من بدء موسكو عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا، ورافقه فيها وزراء المالية جبريل إبراهيم، والزراعة أبوبكر البشرى، والطاقة محمد عبد الله محمود، والمعادن محمد بشير أبو نمو.
وعقب وصوله إلى مطار الخرطوم، قال حميدتي، إنه بحث مع المسؤولين في روسيا "التعاون في مجال الأمن القومي وقضايا سياسية وتبادل الخبرات والتعاون المشترك ومكافحة الإرهاب، والتدريب"، وفق قوله.
تلك الزيارة أثارت لاحقاً عاصفة من التساؤلات حول أهدافها وتوقيتها، ومخاوف غربية من إمكانية أن ينتج عنها تمدد موسكو في إفريقيا وعلى سواحل البحر الأحمر تحديداً، خاصةً أنها تطمح لإقامة قاعدة عسكرية شرقي السودان.
في هذا الإطار، يقول خبراء إنَّ "مجموعة فاغنر" الروسية، وهي شركة عسكرية خاصة يديرها رجل الأعمال الروسي المُقرّب لبوتين ووثيق الصلة بالكرملين، يفغيني بريغوزين، تتولى تدريب قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، وهي مجموعة شبه عسكرية تعمل إلى جانب الجيش النظامي في السودان. عملت المجموعتان المسلّحتان معاً لتأمين مناجم ذهب مهمة لصالح شركات تعدين روسية تعمل في السودان، حيث تفتقر المناطق النائية إلى الأمن.
من جهته، قال سيم تاك، الشريك المؤسس لمجموعة "Force Analysis"، وهي مجموعة استشارية متخصصة في حالات النزاع العسكري مقرها بلجيكا: "أحد الأشياء التي رأيناها عندما بدأت روسيا نشر عملائها من مجموعة فاغنر في السودان، هو أنَّهم كانوا يركزون بشدة على حماية عمليات التنقيب عن الذهب".
أهم مصدر للذهب بالنسبة لروسيا
سيم تاك استطرد قائلاً: "على الرغم من أنَّ السودان ربما يكون أهم مصدر للذهب الإفريقي بالنسبة لروسيا، فهو ليس البلدَ الوحيد المستهدف من الكرملين"، لافتاً إلى أنَّ "التقليل من أثر العقوبات بالاعتماد على الذهب يخبر عن نهج روسيا في إفريقيا، لأنَّنا نشهد أشياء مشابهة جداً في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى، حيث يسعى الروس خلف تلك الدول الزاخرة بالموارد الطبيعية لتعزيز الاحتياطيات الروسية".
كانت شركات روسية أخرى مثل "M-Invest"، التي لها فرع محلي اسمه "Meroe Gold"، قد بدأت عملياتها في السودان بعد أن التقى الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، مع فلاديمير بوتين في عام 2017 وعرض عليه امتيازات في قطاع التعدين وسمح له ببناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر.
في حين تُعد شركة "Kush" للتنقيب والإنتاج واحدة من شركات التعدين الأخرى المرتبطة بروسيا وتعمل في السودان منذ عام 2013. يقول تاك إنَّه على الرغم من أنَّ هذه الشركات كيانات قائمة ومعروفة رسمياً، فإنَّ كمية الذهب التي تصدّرها إلى روسيا "غير معروفة تماماً".
على الرغم من إدراج شركة "M-Invest" أنشطتها الأساسية على أنَّها "استخراج المواد الخام والرمال المعدنية"، وجد تحقيق لشبكة "CNN" الأمريكية أنَّ الشركة قادت حملة تضليل ضد احتجاجات 2019 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير بعد فترة حكم دامت 30 عاماً.
ستار لنشاط "فاغنر"
يشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد صرحت في عام 2020 بأنَّ شركة "M-Invest" مملوكة لرجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين، وعملت كستار لنشاط مجموعة فاغنر، التي تشن حالياً "حملة مناهضة للثورة" على شبكة الإنترنت في مواجهة موجة ثانية من الاحتجاجات التي زعزعت استقرار السودان بعد تدخل الجيش، في أكتوبر/تشرين الأول، للإطاحة بالحكومة المدنية في البلاد.
بينما تجنّبت روسيا إلى حد كبير، التعامل مع القادة المدنيين بالسودان (في إشارة إلى قوى إعلان الحرية والتغيير) طوال فترة تجربة السودان القصيرة مع الديمقراطية، وعملت بدلاً من ذلك مع حميدتي، الذي احتفظ بالسلطة في تحالف انتقالي غير مستقر بين الجيش والسلطة التنفيذية.
بحسب صحيفة The Telegraph البريطانية، يعكس انخراط شركة تعدين في حرب سيبرانية إستراتيجية بوتين الأوسع نطاقاً في إفريقيا، حيث تطمس الكيانات التابعة لروسيا الخطوط الفاصلة بين العمليات الأمنية الخاصة وجهود استخراج الموارد الثمينة.
على أثر ذلك، قال الدبلوماسي الأمريكي السابق، ألبيرتو ميغيل فيرنانديز: "بدأت أتساءل عما إذا كان الانقلاب السوداني جزءاً من خطة أكبر مرتبطة بحرب أوكرانيا. أجزاء من اللغز أم نظرية مؤامرة أخرى؟ كيف استعد بوتين للعقوبات بأطنان من الذهب هُرِّبت من السودان؟".