استيقظ العالم، صباح الجمعة 4 مارس/آذار 2022، على إعلان السلطات الأوكرانية اندلاع حريق في مبنى تدريب خارج محطة زابوريجيا النووية، بعد أن قصفته القوات الروسية، واعتبرته تهديداً بخطر نووي في أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا، وقد أثار الخبر القلق أكثر حينما حذر وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا من أن استمرار قصف المحطة أو انفجارها قد يتسبب بكارثة نووية أسوأ بـ 10 مرات من كارثة تشيرنوبل.
لو نحينا جانباً أن القصف الروسي جاء بهدف السيطرة على المحطة النووية وليس لتفجيرها، أو أن التصريحات الأوكرانية قد تضخم من الآثار السلبية لتدفع دول العالم للتدخل لحماية المحطة وأوكرانيا، لكن إلى أي مدى كان سوء كارثة تشرنوبل؟ وما الآثار السلبية المباشرة وطويلة الأمد التي تركها انفجار المفاعل النووي السوفييتي قبل 36 عاماً؟ وذلك لنتخيل حجم الكارثة التي قد تحصل حال وقعت كارثة مماثلة، هذا مع العلم أن تشيرنوبل حدثت نتيجة خطأ في ضبط إعدادات المفاعل وليس قصفاً وتفجيراً، كما جرت السيطرة عليه من انفجار أسوأ حال وصل الانفجار لوحدات أخرى بالمفاعل.
ما سبب كارثة تشيرنوبل؟
في 26 أبريل/نيسان 1986، خرج المفاعل (RBMK) رقم أربعة في محطة الطاقة النووية في تشيرنوبل عن السيطرة خلال اختبار على طاقة منخفضة، ما أدى إلى انفجار وحريق دمر مبنى المفاعل وأطلق كميات كبيرة من الإشعاع في الغلاف الجوي، وفق شرح سريع من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
السبب الرئيسي للانفجار كان فنياً؛ إذ كان يتم تحضير المفاعل لاختبار لتحديد المدة التي ستدور فيها التوربينات وتزود الطاقة لمضخات التدوير الرئيسية، بعد قطع إمدادات الطاقة الكهربائية الرئيسية، قبل أن يغلق المفاعل تلقائياً وينتهي الاختبار، لكن بسبب المادة المصمم منها قضبان التحكم وجدران المفاعل، تسببت التجربة في زيادة هائلة في الطاقة التي تم إدخالها إلى المفاعل، وأدى تفاعل الوقود شديد السخونة مع مياه التبريد إلى تفتيت الوقود إلى جانب إنتاج البخار السريع وزيادة الضغط، ما أدى إلى انفجار المفاعل.
ورغم الكارثة الكبيرة فقد جرت السيطرة على المفاعل النووي من انفجار أكبر يطال وحدات أخرى، وجرت السيطرة أيضاً على تسريب محتمل للمواد الإشعاعية إلى نهر بريبيات، أحد روافد نهر دنيبر، حيث يمثل مصدراً رئيسياً لمياه الشرب لملايين السكان.
تأثير انفجار تشيرنوبل الفوري
تسبَّب الحادث في أكبر انبعاث إشعاعي تم تسجيله على الإطلاق؛ إذ أطلقت كميات كبيرة من المواد المشعة في الهواء لمدة 10 أيام تقريباً، وتضرر من الإشعاع عدد كبير من السكان في بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا، كما أوصلت الرياح نسبة من المواد المشعة إلى فوق الدول الاسكندنافية وأوروبا.
راح ضحيةَ الحادث عددٌ من رجال الإطفاء الذين شاركوا في إخماد الحرائق الأولية على سطح مبنى التوربينات، ورغم نجاحهم في إخماد الحرائق في غضون ساعات، لكن سجلت 28 وفاة لرجال الإطفاء وعمال المحطة.
إذ كانت جرعات الإشعاع التي تلقاها رجال الإطفال وعمال المحطة كبيرة لإصابتهم بمتلازمة الإشعاع الحادة (ARS)، فإذا تعرض الشخص لأكثر من 700 ملليغرام (mGy) منها في غضون دقائق، يصاب بمشاكل في الجهاز الهضمي والغثيان والقيء إلى الصداع والحروق والحمى حتى الموت، لكن التعرض لكميات أكبر تزيد عن 4 آلاف ملليغرام كافية لقتل نصف المعرضين بها، وفي حال زادت النسبة عن 8 آلاف ملليغرام ستقتل جميع من يتعرض لها، وقد كانت النسبة التي تعرض لها رجال الإطفاء أكثر من 20 ألف ملليغرام. وقد شارك حوالي 200 ألف شخص في عمليات الإخلاء والتنظيف الإشعاعي بعد ذلك، لكنهم تعرضوا لنسب إشعاع أقل.
أيضاً جرى إخلاء البلدات المحيطة بمنطقة المفاعل، وبحلول 14 مايو/أيار، كان قد أجلي 116 ألفاً من السكان يعيشون في دائرة قطرها 30 كيلومتراً، واستمرت عمليات إجلاء السكان في المنطقة المحيطة. لكن بعد سنوات من الحادث جرى إعادة توطين 220 ألف شخص في مناطق أقل تأثراً بالإشعاع، وفق الرابطة النووية العالمية (WNA).
الآثار الصحية طويلة المدى لحادث تشيرنوبل
أبلغت العديد من المنظمات عن آثار حادثة تشيرنوبل، لكن لم تعتمد أيها رسمياً بسبب الافتقار إلى معلومات موثوقة عن الصحة العامة، كما اختلفت الأرقام الرسمية الصادرة عن حكومة الاتحاد السوفييتي عن المنظمات الصحية.
لكن في العام 1989، أثارت منظمة الصحة العالمية (WHO) لأول مرة مخاوف عن تأثيرات بيولوجية وصحية مختلفة نتيجة التعرض للإشعاع، وبدأت في الأعوام اللاحقة إجراء مهمات ميدانية لمختبرات وأطباء أرسلتها أكثر من 25 دولة و7 منظمات، وأظهرت اضطرابات صحية كبيرة لدى المجموعات التي تعرضت للإشعاع.
وفي العام 2003، أنشأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية منتدى تشيرنوبل، بالتعاون مع سبع منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة وكذلك السلطات المختصة في بيلاروسيا والاتحاد الروسي وأوكرانيا، وانتهى التقرير الذي أعده المنتدى إلى الحديث عن زيادة في الإصابة بالسرطان مثل سرطان الغدة الدرقية والأورام الخبيثة، لكنهم أكدوا عدم وجود دليل على ربط ذلك بشكل مباشر إلى التعرض للإشعاع خصوصاً بعد 14 عاماً على وقوع الحادث.
إذ شخصت لجنة الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذري (UNSCEAR) حوالي 20 ألف إصابة بسرطان الغدة الدرقية وقعت في الفترة بين 1991 وحتى العام 2015، لأشخاص كانوا يبلغون 18 عاماً أو أقل وقت وقوع الحادث، واستطاع التقرير ربط ربع الإصابات أي 5 آلاف شخص بالتعرض لنسب عالية من الإشعاع.
أيضاً أشار التقرير إلى وجود بعض الأدلة على زيادة سرطان الدم بين العمال الذين عملوا في عمليات تنظيف المنطقة، وأن ابيضاض الدم الناجم عن الإشعاع ظل في فترة كمون تتراوح من 5 إلى 7 سنوات؛ لذلك رجح العلماء أن أي زيادة في حالات سرطان الدم قد تكون مرتبطة بالإشعاع، وهي أحد الآثار السلبية طويلة المدى.
لكن بجانب هذه الآثار المخيفة، انتشرت كثير من المفاهيم الطبية الخاطئة في تلك الفترة؛ إذ نصح بعض الأطباء في أوروبا النساء الحوامل بإجهاض الأجنة خشية التعرض للإشعاع وإنجاب أطفال مشوهين، ورصدت عمليات إجهاض بأكثر من مليون حالة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا.