لا يمكن فصل المسارات الميدانية العسكرية الجارية في الجغرافيا الأوكرانية عن دول المنطقة وتحديداً لبنان الذي يعيش انقسامات سياسية بين موالين لدول غربية وأخرى شرقية، من بينها روسيا وإيران، والأخيرتان تعتبران الحليفتين الأكثر تأثيراً في القرار السياسي اللبناني وتحديداً حزب الله.
لكن الحزب هذه المرة لم يتمكن من فرض موقفه السياسي على الحكومة اللبنانية؛ بل إن الموقف الذي اتخذته بيروت كان مؤيداً لكييف على حساب موسكو، الأمر الذي أدى إلى أزمة محلية وأخرى مع موسكو التي عبَّرت عن رفضها لهذا الموقف المنحاز.
تشير المصادر الدبلوماسية إلى أن بوادر أزمة مرتقبة بين لبنان وروسيا على خلفية موقف لبنان من التطورات في أوكرانيا، إذ رفض مبعوث بوتين لشؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، استقبال مستشارة رئيس الجمهورية اللبنانية للشؤون الروسية، أمل أبو زيد، ما يوحي بتوتر قد يؤثر على لبنان، خاصةً أن الروس موجودون في سوريا على الحدود البحرية والبرية مع لبنان.
موقف وزير الخارجية
وحول سياقات الموقف اللبناني المتلازم مع مواقف واشنطن ودول الناتو، يشير وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب، لـ"عربي بوست"، إلى أن الشعب اللبناني وتحديداً أهالي الجنوب، يعرفون معنى الاحتلال والغزو، وبالتالي كان من الطبيعي أن يكون سقف لبنان مرتفعاً ومنطلقاً من موقفه المبدئي باستنكار الاجتياح الروسي لأوكرانيا واحتلالها ومحاولة فرض أمر واقع على البلاد.
ويشير رأس الدبلوماسية اللبنانية إلى أنه من الطبيعي أن ينسجم هذا الموقف مع قناعات لبنان، حكومة وشعباً، بأنه لا يجوز أن تدخل أي دولة إلى دولة أخرى لتحقيق أهدافها.
ووفقاً للوزير اللبناني فـ"الانقسام السياسي الداخلي موجود حول ملفات عديدة وكبيرة، واللغط الحاصل داخلياً حول بيان وزارة الخارجية كنا نتوقعه، لأننا نتفهم خلفيات البعض وعلاقاتهم"، مشيراً إلى علاقة حزب الله بروسيا، "والاختلاف طبيعي في بلد ديمقراطي كلبنان، وبالتالي من حق حزب الله وحلفائه الاعتراض على مضمون البيان الصادر، لكن الحكومة والخارجية والرئاسة يقع على عاتقها أن تقرر تبنّي الموقف الذي نجده متناسباً مع مبادئنا الثابتة والمصالح الوطنية للبلادط.
وحول تعرض لبنان لضغط من الإدارة الأمريكية ودول الناتو لاستصدار مثل هذا البيان عالي النبرة تجاه موسكو، يشير الوزير بوحبيب إلى أن هذا البيان لم يصدر بضغوط من أحد، لكن القوى الدولية من الطبيعي أن تلجأ في مثل هذه المواقف، لكن الوزير اللبناني يختم بقوله إن "هذا الموقف لا يعني العداء مع أصدقائنا الروس، ونحن تواصلنا معهم وأكدنا حرصنا على المصالح المشتركة التي تجمعنا معهم وهم يتفهمون موقفنا".
باسيل يناور عبر عون
يقول مصدر سياسي إن ميشال عون قد تواصل مع الأمريكيين قبيل إصدار بيان لبنان لموقفه؛ في محاولة تسابق مع ميقاتي، وذلك بهدف بيع هذا الموقف للجانب الأمريكي ومراكمته سياسياً لصالح باسيل الذي عاود التواصل مع واشنطن عبر بوابة ترسيم الحدود، وتحديداً أجرى لقاءين مع مبعوث بايدن لأمن الطاقة آموس هوكشتاين، ما يعتبر فتح ثغرة في جدار علاقته مع واشنطن واستكملت بموقف وزير الخارجية ومن ثم تصويت لبنان في الأمم المتحدة.
حزب الله يرفض ويرفع السقف.. الترسيم في الأدراج؟
حزب الله الذي أعاد فتح علاقاته مع موسكو منذ مدة، لم يكن ليصمت على تحركات عون وميقاتي وباسيل دون إبداء رأيه بكونه الجزء الأهم من أي عملية سياسية في البلاد، وتشير مصادر حكومية لـ"عربي بوست" إلى أن الحزب وصلت إليه تفاصيل تقسيم الأدوار بين عون وباسيل، فأجرى تواصلاً مع المسؤولين في موسكو عبر مسؤول العلاقات الخارجية عمار الموسوي الذي تواصل مع السفير الروسي في بيروت وشرح له موقف الحزب، إضافة إلى تواصل مباشر جرى في موسكو عبر المكتب الذي افتتحه الحزب بموسكو منذ أقل من سنة.
وأبلغهم أنه لا يوافق على مضمون الموقف اللبناني ولا على أداء وزير الخارجية ورئاسة الجمهورية، ما أدى إلى الاختلاف في وجهات النظر بين الحزب ورئيس الجمهورية.
ويشدد المصدر على أن تحركات الحزب وبري وجنبلاط أدت إلى عقد اجتماع بين عون وميقاتي وبوحبيب، ظهر أمس الأربعاء، وتم فيه التمسك بالموقف اللبناني، مع تعديل بسيط يتعلق بمطالبة الأمم المتحدة بالتدخل للتوصل إلى حل سلمي.
بالمقابل يشير المصدر إلى أن تأكيد عون موقفه جاء رداً على مواقف أطلقها رئيس كتلة حزب الله، محمد رعد، الذي أعاد ملف ترسيم الحدود إلى الصفر بعد قوله إن لبنان سيبقى غازه مدفوناً في البحر إلى أن يتمكن من منع الإسرائيليين من المساس بقطرة ماء واحدة.
موقف فُهم بأنه تأجيل لملف الترسيم وإعادته للأدراج ريثما تتبين خلاصات الحرب الأوكرانية وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وهذا الموقف الذي أطلقه رعد تزامن مع حملة شنها مقربون من حزب الله عبر الإعلام، توحي بوجود اعتراضات كبيرة حول تنازل لبنان عن الخط 29 والقبول بالاقتراح الأمريكي بالعودة للخط 23، ما قد يفتح الباب على صراع جديد بين عون وحزب الله.
النفط والغاز ومرفأ بيروت
وفي هذا الإطار التفاوضي يشير المحلل السياسي منير الربيع إلى أن هذه المواقف استُكملت بفوز شركة cma-cgm الفرنسية بتشغيل وإعادة إصلاح الأرصفة في مرفأ بيروت. بعدها بأيام قليلة أعلن وزير الأشغال إبلاغه من قِبل القضاء إمكانية هدم الإهداءات.
وهو موقف توصل إليه القاضي طارق البيطار بعد فوز الشركة الفرنسية بالمناقصة، بناء على تعاون واضح بين الفرنسيين ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. كل هذه التطورات دفعت الأوروبيين والأمريكيين إلى مطالبة لبنان بإصدار موقف واضح مؤيد للغرب ضد روسيا، وسط مخاوف من استمرار الضغوط لسحب الشركات الروسية العاملة في مجال النفط من لبنان بفعل العقوبات، خصوصاً أن سؤالاً كبيراً يطرح حول مصير شركة توتال التي لديها شراكة مع شركة نوفاتيك وروسنفت.
عندما صدر البيان اللبناني بشأن أوكرانيا، يؤكد الربيع أنه كان بناءً على تدخُّل وطلب مباشر من السفيرة الأمريكية دوروثي شيا، وحتى من قِبل سفراء أوروبيين التقوا وزير الخارجية أيضاً، وتواصلوا مع رئيس الحكومة، وعندما اعترض وزراء الثنائي الشيعي على مضمون البيان تصدى لهم بوحبيب في جلسة الحكومة، بقوله إنه هو من يتحمل المسؤولية، فيما لم يلقوا أي جواب من عون ولا ميقاتي، الذي اعتبر أن الموقف الخارجي دستورياً من صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ووزير الخارجية.
وحول الموقف الروسي من البيان اللبناني، يشير الربيع إلى أن الانزعاج الروسي من أداء رئيس الجمهورية وفريقه ووزير الخارجية بات واضحاً، وأن المسؤولين في موسكو أبلغوا مَن تواصل معهم: "كيف يمكن التعاون مع هؤلاء الذين يزورون موسكو ويتواصلون طلباً للدعم سواء من خلال زيارة وزير الخارجية قبل فترة لموسكو، أو من خلال مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الروسية أمل أبو زيد، وبعدها يتخذون مواقف مناقضة لما يصرّحون به؟!". ووصف المسؤولون الروس هذا التصرف بأنه نوع من التملّق، ويقولون في السرّ ما يناقضونه بالعلن.