"زلزال سياسي" يمكن اعتبار القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة السابق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري بتعليق مشاركته في الحياة السياسية اللبنانية ومغادرته البلاد بشكل مؤقت، وهذا القرار أحدث إرباك في الساحة اللبنانية عموماً والشارع السُّني بشكل خاص بكون الحريري كان وعلى مدار 17 عاماً زعيماً أوحد للسُّنة في البرلمان والحكومة عقب اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005.
في أغلب الأحوال يقول مطلعون في لبنان إن قرار الحريري فتح الباب أمام سيناريوهات كبيرة ستحملها تداعيات هذا الخروج، ولو أنّ المرحلة الجديدة ستحتاج إلى وقت قبل أن تتبلور بصورتها النهائية، بعد التأكد من أنّ تعليق رئيس تيار المستقبل العمل بالحياة السياسية لن يكون عامل تفجير الميثاقية الطائفية، وبمعنى أدق أي نسف الانتخابات النيابية لرسم مشهدية مختلفة عن تلك السائدة راهناً.
احتمالات لبنانية بأيادٍ إقليمية
وحول انعكاساتها على الساحة الوطنية اللبنانية، تقول المحللة السياسية كلير شكر إن ثمة احتمالين هما قيد التداول بين المعنيين من القوى السياسية التقليدية في البلاد؛ الاحتمال الأول: قد يقود إلى وقوع حجارة الدومينو الواحد تلو الآخر من خلال توالي إعلانات العزوف عن المشاركة في الاستحقاق النيابي، لا سيما من جانب القيادات الأساسية، تحت عنوان عدم ميثاقية الاستحقاق بحجة عدم مشاركة الفريق السنيّ الكبير، خصوصاً أنّ من يرجّحون هذا السيناريو يعتقدون أنّ الهدف المرجو من إخراج الحريري عن المسرح السياسي، هو سحب الفريق السنيّ الذي رفض خوض مواجهة مع "حزب الله" من الواجهة.
لا بل هو متهم بالتماهي معه في بعض المحطات. ولذا كان لا بدّ من نزع هذه الورقة من يد الحزب في لحظات المخاض الإقليمي، بدليل تزامن إعلان الحريري العزوف مع دفتر شروط "المبادرة الكويتية". وقد تنتهي فصول هذا الاحتمال بالعمل على تأجيل الانتخابات النيابية ريثما تتضح الصورة في مفاوضات فيينا ليُبنى على الشيء مقتضاه.
فيما الاحتمال الثاني، وفقاً لشكر، هو أن يكتب كتاب التاريخ اللبناني صفحات جديدة قوامها خروج الحريري من الحياة السياسية، لتملأ "الطبيعة الفراغ" من خلال شخصيات سُنية حريرية الانتماء أو قريبة منها.
ولعل هذا ما حذر منه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي سارع إلى الإشارة إلى أنّ القرار الذي اتُّخذ من قِبل الرئيس الحريري يعني إطلاق يد حزب الله والإيرانيين في لبنان كرسالة للأطراف الإقليمية التي تسببت بإخراج الرجل من الساحة السياسية.
هل بات السُّنة كالأيتام؟
لا يُخفي سُنة البلاد خوفهم من مصيرهم المجهول بعد الحريري، يعترف العديد منهم أن الحريري أرهقهم بسياساته المتخبطة والتي كانت تصل في بعض الأوقات لحد التنازل للقوى المناوئة للسُّنة في لبنان والمنطقة وتحديداً ذلك التنازل عبر الإتيان بمرشح حزب الله (ميشال عون) رئيساً للجمهورية والسماح لحليف الحزب أي جبران باسيل بمحاولة ضرب صلاحيات رئيس الحكومة وفرض أعراف جديدة على الدستور.
لكن كل هذه الممارسات غير المبررة وفقاً لمصدر مقرب من نادي رؤساء الحكومات السابقين ليس الحل به الذهاب لعزل الحريري وإخضاعه وإجباره على الاعتزال، يقول هذا المصدر لـ"عربي بوست" إن "الجماعة السُّنَّية" والتي تعتبر أحد مؤسسي دولة لبنان الكبير تعيش اليوم مرحلة خطيرة، وخاصة أن غياب الوجه المعتدل عن المشهد السياسي سيؤدي في نهاية المطاف لتفريق السُّنة واحداث شرخ كبير قد يسهل على حزب الله الإمساك أكثر بالقرار السُّني وابتزاز الدول الإقليمية بمصير هذا المكون وتحديداً السعودية وتركيا.
يشير هذا المصدر إلى أن المنطقة الغارقة بإعادة تكوينها تشهد إعادة نشوء تنظيمات متطرفة ولا يمكن إغفال إعادة إحياء ما سماه "الجوكر الداعشي"، وهذا السؤال يُطرح في لبنان أيضاً حيث تمكن عشرات الشباب من العبور من طرابلس الى العراق مروراً بالأراضي السورية المموكة أمنياً.
ويعتقد أن تغييب الحريري وكل قوى الاعتدال السُّني قد يفتح شهية التنظيمات التكفيرية لملء الفراغ، بالمقابل يشير المصدر إلى أن حتى القوى الإسلامية السنية ذات الطابع الوسطي كالجماعة الإسلامية لديها ارتباطات أممية وليست مؤمنة بنهائية لبنان الدولة الوطنية بكونها جزءاً من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وعليه يعتقد المصدر أن السُّنة هم في مرحلة "اليتم" المرحلي طالما لم تؤمِّن الدول الراعية بديلاً جدياً عن الحريري.
هل من بدلاء للحريري؟
لا يختصر الحريري التمثيل السُّني برمته وتحديداً في الانتخابات الأخيرة والتي جرت في العام 2018 حيث حصل الحريري على 69% من المقاعد السنية في البرلمان في مقابل فوز نواب محسوبون على حزب الله وهم 6 ستة نواب يضاف إليهم الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس تمام سلام والنائب فؤاد مخزومي، لكن الحريري بقي يتربع على عرش الزعامة السنية للعديد من الأسباب، أبرزها الإرث السياسي والعلاقات التي كان يتمتع بها خارجياً أضف إلى أنه استطاع عقد "ربط نزاع" مع حزب الله في ملفات سلاحه ومشاركته في حروب الإقليم.
وعليه يعتقد الدكتور وائل نجم الصحفي والمحلل السياسي أن الساحة السنية ستشهد وخلال المرحلة الحالية فراغاً سياسياً نتيجة غياب الحريري عن الساحة السياسية، ويعتقد نجم أن معظم القوى والشخصيات السياسية السنية هي شخصيات مناطقية محصورة في قرى وبلدات ومدن ولا يمكنها تمثيل كل المكون السني في البلاد، لكن نجم يقول إن هناك تياراً آخر يتمتع بحضور نسبي على مختلف الساحة الوطنية، وهو التيار الإسلامي، وخاصة فصيل الجماعة الإسلامية، لكن وفقاً للرجل، فإن هذه التيارات لا تقدم نفسها بديلاً بالساحة السنية، وإن كانت تطمح إلى أداء دور سياسي، حفاظاً على مكتسبات المسلمين السنة وعلى دورهم في لبنان.
وبحسب نجم، فإن غياب الرئيس سعد الحريري قد يعطي فرصة للزعامات المناطقية والتيارات الإسلامية أن تكون بديلاً للناخب السني، لأن مقاطعة الانتخابات خطيرة، ويجب ألا يكرر سنّة لبنان تجربة المسيحيين حين قاطعوا الانتخابات في 1992 ونتائجها الكارثية على المشهد السياسي.
مقاربات قاسية
يعتقد المحلل والباحث السياسي حسين أيوب أن جملة خلاصات يمكن ملاحظتها بعد قرار الحريري، هي:
أولاً: ثمة صفحة سعودية جديدة قرر أن يقرأها سعد الحريري هذه المرة بلغة مختلفة عن تلك التي جرّبها طوال أربع سنوات ونيف، أي منذ اعتقاله في فندق الريتز كارلتون مع أمراء سعوديين وحتى الآن، ولم ينجح خلالها بصياغة علاقة جديدة مع قيادة السعودية.
ثانياً: إذا راجعنا بنود المبادرة الكويتية (المدعومة خليجياً وعربياً ودولياً)، ولا سيما بندها الخامس الداعي إلى تنفيذ القرار 1559 القاضي بسحب سلاح حزب الله، يُمكن للمبتدئ في السياسة أن يُدرك أن بوابة التطبيع مع السعودية هي تبني تنفيذ هذا القرار، مع كل ما يحمل في طياته من مخاطر، بدءاً من "المصير الشخصي" وصولاً إلى المصير الوطني العام، أي وضع لبنان على سكة الاحتراب الأهلي، وهذا الأمر يحتاج إلى مقاربة قاسية ليست هذه مناسبتها مع سمير جعجع تحديداً وليس مع شخصية سعد الحريري.
ثالثاً: يمكن القول تبعاً لحقائق الواقع السياسي اللبناني الصعبة أن الانتخابات النيابية المقبلة باتت بحكم المؤجلة، أما بحكم الوقائع الدولية والإقليمية، فالانتخابات -حتى الآن- قائمة بمن حضر. سواء قاطع الحريري أو نجيب ميقاتي أو وليد جنبلاط أو أي كان، والفيتو السياسي الحريري إذا أضيف إليه فيتو دار الفتوى ونادي رؤساء الحكومات في الأسابيع المقبلة، فنحن عملياً أمام مشهد شبيه بما حصل في العام 1992، وبالتالي سيؤدي انسحاب الحريري وميقاتي وآخرين إلى وضع التمثيل السُّنّي في أحضان التطرف.
عزوف مرشحين محتملين
بالمقابل، فإن الدكتور خلدون الشريف، الذي عمل لسنوات كبير مستشاري رئيس الحكومة اللبنانية، يعتبر أن رؤساء الحكومة السابقين يعملون على استقطاب عزوف مرشحين محتملين، وصولاً إلى التمهيد لأطراف سياسية وازنة بالكلام عن فقدان الثقة في انتخابات مقبلة تؤثر على المشهد اللبناني برمته، أصوات تبدأ مسيحية ومن ثم تتدحرج الكرة لتبلغ الدروز والموارنة وصولاً إلى الموقف الحاسم لرئيس مجلس النواب نبيه برّي ليرفض رفضاً قاطعاً غياب المكون السنّي عن الترشح.. وهكذا تتأجل الانتخابات، لكن ليس دون ثمن.
والثمن -وفقاً للشريف- يبدأ بإقناع المجتمع الدولي بعدم جدوى إجراء الانتخابات وسط عزوف عناصر أساسية من المكون السنّي عن الترشح. هذا الاقتناع ينفتح على باب أوحد وهو تبني الثنائي الشيعي لنهائية ترسيم الحدود البحرية، ما يؤمّن استقراراً لعقد أو أكثر مع إسرائيل، علماً أنّ هذه الخطوة تعكس المطالب الغربية من لبنان، وعلى رأسها الأمريكية، بهدف إراحة إسرائيل أمنيًا ونفطيًا من جهة، وإعادة ضخ المال في شرايين لبنان المفلس من جهة ثانية.
أضف إلى اقتناع المسيحيين بضرورة التأجيل ريثما يتم الاتفاق على اسم رئيس مقبل للجمهورية قبل إجراء الانتخابات النيابية، أملًا بتمديد ربما أو بالتخلص من عقوبات أو الإفلات من "فيتو" دولي، وأخيرًا أملًا بالتوافق على رئيس للجمهورية غير منحاز لفريق، وكل طرف مسيحي ينتظر فرصة تتناقض مع فرصة الآخر، لكن أعين الموارنة دائمًا على رئاسة الجمهورية.
ويعتقد الشريف أن الثمن الأشد وقعاً، اقتناع الشيعة بالتأجيل حتى تتركز حقوقهم بالنصوص الدستورية أي خيار المثالثة بين المكونات الأقوى. بقبول العدو والصديق، حيث بات حزب الله القوة الأولى والكبرى التي تمتلك حق النقض والتعطيل والتسهيل في لبنان، فإذا قَبَلَ حزب الله بالتسوية، سيفرض قبض أثمانها في السياسة في ترسيخ لقوله في العام 2008: "لن يأخذوا منا بالسياسة ما لم يأخذوه بالحرب".
أرقام لا يمكن تجاوزها
في استطلاع للرأي من ضمن دراسة أُجريت الأسبوع الماضي من خلال "مركز الاستشراف الإقليمي للمعلومات" حول الساحة السنّية وتوجّهاتها إثر قرار الحريري، جاءت النتائج لافتة في كثير من الأحيان.
وهذه الدراسة طالت 5 ساحات سنّية، وهي بيروت وصيدا وطرابلس وقضاء زحلة والبقاع الغربي. وأظهرت الأرقام تزعم تيار المستقبل للساحة السنّية رغم النكسات التي تلقّاها، وفق نسبة تقارب 40%. ففي العاصمة بيروت والتي شكّلت مركز الثقل لتيار الحريري وفريقه حاز على نسبة 39% من السنّة، ومن ثم الحالة التغييرية أو ما يُعرف بالمجتمع المدني 13,2%، وبعده جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش) 13% ثم النائب فؤاد مخزومي 10,7% والرئيس تمام سلام 6,6% وبعده الرئيس نجيب ميقاتي 4,5 % ثم الثنائي الشيعي 2,8 % والجماعة الإسلامية 2,4%.
وحول سؤال الزعامة السياسية في حال عدم متابعة سعد الحريري، تمسّك 36,5% بسعد الحريري وحده دون غيره، وتلاه فؤاد السنيورة 18,3%، أما نِسَب مدينة طرابلس كأكبر مدينة سُنية في البلاد أتت مختلفة بعض الشيء مع تصدّر الرئيس ميقاتي نسبة المؤيّدين 21%، تيار المستقبل 17,5% ثم قوى الثورة والتغيير بين الذين نالوا نسبة مرتفعة 17% وثم فيصل كرامي 6% الإسلاميين 2,5%.
وأما عن اختيار دول الإقليم التي يميل لها سُنة لبنان فحلّت السعودية في الطليعة مع 49,5%، ثم تركيا مع النسبة الأعلى عن بقية الساحات 25,6% فالإمارات 11% وقطر 5% فمصر 3,5%.