رغم أن البرلمان في لبنان أقر إجراء موعد الانتخابات البرلمانية، فإنه في بلد مثل لبنان، ليس من السهل الجزم بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
فالبلاد شهدت في السنوات الماضية تأجيلاً مستمراً من قبل البرلمان في مرحلة ما بعد الأحداث بسوريا والمنطقة بحجة عدم توافر الأرضية السياسية والأمنية لإجرائها، ثم أعقبتها انتخابات عام 2018، التي شهدت- بحسب مراقبين- مخالفات واتهامات متبادلة بالتزوير في بعض النتائج.
الطعون على تقديم موعد الانتخابات
قانونياً وحتى اللحظة، فموعد الانتخابات البرلمانية لايزال في موعده يوم 27 مارس/آذار 2022، بعدما تم تقريب الموعد من قبل المجلس النيابي، لكن تم تقديم طعون لدى أعلى سلطة مختصة (المجلس الدستوري) تتعلق بأسباب وُصفت بمخالفة الدستور والقوانين.
هذا الأمر جعل مصير موعد الانتخابات مجهولاً، في وقت لايزال المجلس الدستوري يبحث فيه موضوع الطعن على مواد قانون الانتخابات، الذي تقدمت به كتلة التيار الوطني الحر التي يترأسها جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، وذلك بعد مرور أكثر من أسبوع على تقديمه.
لكنّ ثمة تكتماً شديداً حول المداولات الدائرة في أروقة المجلس الدستوري، وجلّ ما يصدر عن المجلس أن لديه مهلة حتى 19 ديسمبر/كانون الأول 2021 لإصدار قراره النهائي.
في هذه الأثناء، يتحضر وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي- وفقاً لمصادر حكومية- لإرسال دعوة الهيئات الناخبة (دعوة الناخبين) إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال عون، وذلك بمعزل عن تلويح الأخير بعدم توقيعها، فالوزير يريد رفع المسؤولية عن كاهل وزارته، ويضعها في عهدة الرئيس عون.
فوفق الأصول الانتخابية في لبنان، فإن آخر مهلة لدعوة الهيئات الناخبة هي 27 ديسمبر/كانون الأول، حسب التعديلات السارية المفعول في القانون المعدل، الذي يتيح لوزارة الداخلية إجراء الانتخابات في 27 مارس/آذار، بما أن المجلس الدستوري لم يعمل على وقف العمل بالقانون شكلياً، إلى حين بت الطعن نهائياً.
عون يمسك بورقة الانتخابات
أوضح مصدر سياسي مطلع لـ"عربي بوست"، أن الملفات الخلافية في لبنان حالياً لا تنحصر بأزمتي القاضي طارق البيطار واستقالة الوزير جورج قرداحي، إنما المعركة الأكبر ستكون على تحديد موعد الانتخابات النيابية.
فرئيس الجمهورية ميشال عون كان واضحاً جداً، عندما قال إنه يريد إجراء الانتخابات في مايو/أيار، وهو الموعد المحدد مسبقاً قبل أن يقوم البرلمان بتقديمه إلى مارس/آذار، كما يرفض التمديد للمجلس النيابي، أي تأجيل الانتخابات لما بعد مايو/أيار.
وبحسب المصدر، فهذه رسالة واضحة موجهة إلى حزب الله، بأن عون يسعى لإجبار حزب الله على تفاهمات حول خارطة طريق واضحة بخصوص الانتخابات.
ويرى متابعون أن هذه ستكون ورقة القوة الجديدة التي سيستخدمها عون، لأنه عندما قرر حزب الله تعطيل الحكومة على خلفية إصراره على عزل قاضي التحقيق بجريمة المرفأ طارق البيطار، سحب حزب الله بذلك كل أوراق الضغط من يد رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ.
فورقة الحكومة وكيفية تشكيلها ومسار عملها كانت هي ورقة القوة بيد عون وصهره باسيل، لذلك عندما عطل حزب الله عمل الحكومة، ضاعت هذه الورقة من عون.
حالياً بقيت لدى عون ورقة واحدة، وهي التهديد بعدم توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لإجراء الانتخابات النيابية، لذا ووفقاً للمصدر، فإنّ عون سيطرح إما تسوية تلبي له شروطه وإما الاستمرار في مسار التعطيل، والبقاء بالقصر الجمهوري في حال عدم إجراء الانتخابات، وعدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ويرى المصدر أن عون يتحجج بأن سبب رفضه توقيع أيّ مرسوم يدعو الهيئات الناخبة إلى الاقتراع في 27 مارس/آذار المقبل.
ويتمسك عون باعتماد ما يسمى "الميغاسنتر" (هي مراكز يُتوقّعُ أن تستحدِثها الدولة للانتخابات، لتسهيل اقتراع الناخبين في مكان سكنهم، إذا ما تمّ اعتماد ما يسمى الهويّة البيومتريّة للاقتراع في مكان سكنه).
كما يصر على تخصيص 6 نواب في الخارج بدلاً من أن ينتخب المغتربون النواب الـ128، بسبب خوفه من أن يؤثر مسار انتخابات الخارج على حضور تيار صهره في ظل تسجيل ربع مليون لبناني بالخارج للانتخابات، ما قد يقلب الموازين السياسية.
وبذلك بات من الواضح أنّه ستكون لدى لبنان أزمة إجراءات فيما يخصّ الاستحقاق الانتخابي، إذا لم يحسم المجلس الدستوري الخلاف لمصلحة عون وباسيل.
حزب الله والخوف من الانتخابات
يوضح المصدر السياسي المطلع أن حزب الله لا يفضل إجراء الانتخابات النيابية لمجموعة من الأسباب، أبرزها خوفه من أن تؤدي الانتخابات إلى خسارة الأغلبية البرلمانية التي حصل عليها الحزب في 2018، اعتماداً على حليف مسيحي وهو التيار الوطني الحر من جهة، والاتفاق مع السنة من بوابة تيار المستقبل من جهة أخرى. وهذه الأغلبية منحت الحزب فرصة للمغامرة في حروب المنطقة معتمداً على غطاء الحلفاء.
ويعتقد المصدر أن هذه الخسارة قد تؤدي في النهاية إلى حرمان إيران من ورقة قوة في التفاوض مع واشنطن والدول الكبرى، إذ سيصبح الحزب مضطراً إلى التنازل في الملف اللبناني.
كما أن حلفاء الحزب باتوا إما محاصرين وإما معاقبين أمريكياً وأوروبياً، لذلك يفضل الحزب إجراء انتخابات رئاسية قبيل النيابية؛ لضمان الإتيان برئيس جمهورية حليف يختاره البرلمان الحالي الذي يعتبر بيد الحزب.
خيارات السلطة للتعطيل
يعتبر المحلل السياسي توني عيسى أن قوى السلطة تُمْسِك بقوة بقرار إجراء الانتخابات أو تعطيلها، وفقاً لما تقتضيه مصلحتها.
وأضاف أن ذريعة التعطيل المثالية اليوم، هي الانهيار الإداري والمالي والنقدي والاجتماعي، فالسلطة يمكن أن تتذرع بافتقادها أدنى القدرات اللوجستية بدءاً بالقرطاسية (الأحبار والأوراق)، وانتهاء بانقطاع التيار الكهربائي، والإنترنت.
ويعتقد عيسى أن قوى السلطة قد توعز إلى مناصريها في نقابات المعلمين، الذين تعتمد الانتخابات على وجودهم على رأس الصناديق الانتخابية، ليتخذوا قراراً بالإضراب؛ احتجاجاً على سوء أوضاعهم، فيقاطعون أعمال المراقبة في أقلام الاقتراع.
في هذه الحالة، لن تكون هناك ضرورة لخلق توتر في الوضع الأمني لخلق ذريعة قاهرة، كما حدث مراراً، لأن الأزمات الاجتماعية ستكون كافية، بحسب عيسى.
ووفق عيسى فإنه سيكون صعباً على كثير من الناخبين أن يحضروا إلى مراكز الاقتراع، لاسيما تلك البعيدة عن مناطق إقامتهم، بسبب عدم قدرتهم أو عدم اضطرارهم إلى دفع التكلفة الباهظة لأسعار النقل، من أجل وضع ورقةٍ في الصندوق.
وهذه الذريعة في محلها المناسب منطقياً، لكن قوى السلطة ستستغلها وتقول: ليس منطقياً أن يتاح للأغنياء فقط أن يقترعوا، فيما الفقراء الذين هم الغالبية، ممنوعون من ممارسة حقهم والمشاركة في اختيار ممثليهم. وبالتالي، لتؤجَّل الانتخابات حتى تصحيح هذا الوضع.
القوى الدولية والانتخابات
خارجياً، ينقل مصدر دبلوماسي غربي رفيع لـ"عربي بوست"، أن اجتماعات جرت منذ أيام في إحدى العواصم الأوروبية لمسؤولين دبلوماسيين على اطلاع بحيثيات الملف اللبناني.
نوقشت في هذه الاجتماعات محاولات قوى سياسية لبنانية تأجيل الانتخابات البرلمانية؛ خوفاً من تكبد هزيمة تُفقدها حضورها السياسي، في ظل الحديث عن رغبة شريحة كبيرة من اللبنانيين في التغيير السياسي.
ويؤكد المصدر أن المسؤولين الأوروبيين اتفقوا على الذهاب باتجاه تشكيل مجموعة ضغط تهدف إلى إجراء الانتخابات البرلمانية إما في مارس/آذار وإما في مايو/أيار من العام المقبل، والتهديد بأن أي محاولة للتأجيل ستؤدي لسلسلة من العقوبات.
أبرز هذه العقوبات وقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يعتمد على التفاوض مع جهات شرعية منتخبة وغير ممدد لها، ما قد يتسبب بوقف مسار أي تفاوض مع الصناديق الدولية المانحة وبالمحصلة وقف الدعم عن المؤسسات اللبنانية الرسمية والأهلية.
ووفقاً للمصدر فإن المسؤولين سينقلون بشكل قريب (خلال أيام) رسالة، مفادها ضرورة الانتباه من توسّع لوائح العقوبات الأمريكيّة، ومسار التحقيقات الجنائيّة في المحاكم الأوروبيّة المتعلّقة بممارسات لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وعليه، ستكون لأيّ عرقلة متعمدة تكلفة باهظة على الأطراف المتسبّبة بها، وتحديداً إذا وصلت المسألة إلى حدّ عرقلة استحقاقات انتخابية يراهن عليها المجتمع الدولي لإحداث تغيير في جوهر التكوين السياسي اللبناني، وفي حال جرى تأجيلها لمصلحة حزب الله أو التيار الوطني الحر، فإن ذلك يعني أن لبنان سيدخل بنفق معتم في مواجهة المجتمع الدولي والعربي.
انتخابات وسط أزمات
يعتبر المحلل السياسي منير الربيع أن الأزمة اللبنانية أعمق بكثير، ولا يمكن حلّها بانتخابات نيابية، تليها انتخابات رئاسية، فلبنان لم يصل إلى ما وصل إليه ليكون حلّ مشكلاته سهلاً، مثلما يتوقع البعض.
ولكن في الوقت نفسه ليس هناك من تصور واضح لما ستكون عليه الصورة اللبنانية المستقبلية، أو كيف سيكون المَخرج من كل هذه الأزمات المتوالية. لذلك يستمر البحث في سيناريوهات كثيرة، سواء حصلت الانتخابات البرلمانية ومن ثم الرئاسية أم لم تحصلا.
فقد أثبتت التجارب بلبنان أن أي تغيير في بنية النظام أو التركيبة السياسية، لا تحصل على البارد، بل بالفوضى والدماء، لذا لا يمكن إغفال تأجيل الانتخابات، برغم أن تأجيلها مقدمة لمزيد من الدمار والفوضى والاقتتال الداخلي، سياسياً وشعبياً.
ووفق الربيع فإنه في حال تأجيل الانتخابات، لن يغادر رئيس الجمهورية ميشال عون، القصر الجمهوري كما أبلغ العديد من المسؤولين المحليين والإقليميين.
لذا يؤكد الربيع أنه وتجنباً لمثل هذا الاحتمال، تبحث جهات دولية عن مخرج سياسي ملائم عبر توفير ظروف إنتاج تسوية سياسية شاملة، تترافق مع الانتخابات، ولهذا قد تحتاج الانتخابات إلى بعض التأجيل، للاتفاق على إجراءات كاملة: انتخاب رئيس للجمهورية، وآلية تشكيل الحكومة، وشخصية رئيسها، إضافة إلى تعيينات شاملة في المواقع القضائية والعسكرية والمالية والإدارية الأساسية في الدولة.
وفي حال عدم نجاح هذا السيناريو، توضع البلاد أمام احتمال آخر: إجراء الانتخابات في موعدها، وتكون الأكثرية فيها ضائعة في انتظار تسوية إقليمية تشمل الملف اللبناني، وسط إصرار دولي على إدخال عناصر جديدة على الطبقة السياسية تحت شعار التغيير.