دخلت قضية إخلاء حي الشيخ جراح في مدينة القدس منعطفاً جديداً، بعد انتهاء المهلة التي حدَّدتها المحكمة العليا الإسرائيلية للقبول بمقترح التسوية، الذي يقضي بإقرار أهالي الشيخ جراح بملكية أراضي الحي لجمعية "نحلات شمعون" الاستيطانية، مقابل منحهم حق الاستئجار والبقاء في الحي لمدة 15 عاماً، على أن تقدم هذه العائلات أوراق الملكية "الطابو"، التي تُثبت ملكيتهم للمنطقة التي يسكنون بها خلال فترة الاستئجار.
المهلة التي حدَّدتها المحكمة انتهت صباح الثلاثاء، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وسط ترقب الأوساط المقدسية للخطوات التي قد تقدم عليها المحكمة، والتي قد تصل إلى حد إصدار قرار بإخلاء الحي؛ بحجة عدم التعاون مع المحكمة، وانتهاء المهلة التي حدَّدتها، بعد انتهاء مهلة الاستئناف الذي تقدم به أهالي الحي، في 5 مايو/أيار 2021.
قبول ثم تراجع في الساعات الأخيرة
في خضمّ هذا الصراع، كشفت مصادر أن أربع عائلات مقدسية وهي الكرد، وقاسم، والجاعوني، وإسكافي، قد سلّمت قرارها لمحامي القضية سامي أرشيد، بإقرارهم بالقبول بمقترح التسوية الذي قدمته المحكمة، ولكن سرعان ما تراجعت هذه العائلات عن قرارها في اللحظات الأخيرة، بعد ضغط شعبي وسياسي مارسته الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، لما له من تداعيات خطيرة على واقع مدينة القدس.
وجاء في بيان العائلات بعض الرسائل التي كشفت عن كواليس المخطط الإسرائيلي بشأن مقترح التسوية، بالإشارة إلى أن الاحتلال حاول أن يحصل على قرار بإخلاء الحي بالخداع، بعد أن عجز عن أخذه بالحرب، وأن قضية حي الشيخ جراح لا يمكن اختزالها في صراع على ملكية شخصية بين الأهالي ودولة الاحتلال، بل هي قضية وطنية وإسلامية تستلزم تكاتفاً جماعياً للتصدي لرد الفعل الإسرائيلي في المرحلة القادمة.
تهديدات وابتزاز إسرائيلي
كشف مصدر في اللجنة الوطنية العليا لحي الشيخ جراح لـ"عربي بوست"، أن "عمليات تهديد بالقتل والاختطاف تعرضت لها عائلات حي الشيخ جراح من قبل سلطات الاحتلال، حيث أرسلت تهديدات مباشرة بالاعتداء الجسدي والاختطاف لذوي العائلات وأقربائهم، في حال رفضوا المصادقة على مقترح التسوية الذي قدمته المحكمة، وعلى إثر ذلك تفاجأوا بأن بعض العائلات وافقت على القبول بمقترح التسوية، ولكن قبيل ساعة من انتهاء المهلة لتسليم القرار للمحكمة كان لا بد من وقفة جادة بالضغط على المحامي وإقناعه بالعدول عن تسليم المحكمة لقرار الأهالي القبول بمقترح التسوية".
وأضاف "لم تتوقف الاجتماعات بين اللجنة الوطنية العليا للفصائل وأهالي الشيخ جراح منذ ليلة أمس، وقد استمعنا إلى مطالبهم التي تمحورت حول ضرورة أن يكون هناك تأمين لذوي العائلات من أي عملية تهديد أو ابتزاز قد تمارسها سلطات الاحتلال بحقهم، لذلك لا نستبعد أن تمارس إسرائيل ضغطاً إضافياً على العائلات في الأيام القادمة، كتعبير عن غضبهم من قرار العائلات رفض القبول بمقترح التسوية".
قال حاتم عبد القادر، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، من مدينة القدس، لـ"عربي بوست" إن "أكثر من 10 لقاءات جرت بين قيادة الفصائل الفلسطينية وأهالي حي الشيخ خلال الـ24 ساعة الأخيرة، تابعنا باهتمام ما أثير حول الموافقة على مقترح التسوية، وقدمنا ما يلزم من ضمانات بالوقوف بجانب سكان الحي، ونحن ننظر بخطورة إلى رد الفعل الإسرائيلي، الذي لن يتوقف عن سلوكه بممارسة الضغط على سكان الحي لإجبارهم على مغادرته".
جذور القضية
تعود جذور قضية حي الشيخ جراح إلى العام 1956، حينما أعلنت وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية بالتعاون مع الأونروا برنامجاً لإسكان عدد من لاجئي النكبة، وذلك بمنحهم قطعة أرض فوق أرض "كرم الجاعوني"، في الجزء الشرقي من البلدة القديمة لمدينة القدس، بلغت مساحتها 20 دونماً، جرى تقسيمها إلى 38 قطعة أرض، مساحة كل منها ما بين 300_500 متر مربع، وهو ما يطلق عليه بحي الشيح جراح.
بقي الحي تحت سيطرة الحكومة الأردنية وفقاً لنظام الوصاية حتى حرب العام 1967، حينها خضعت مدينة القدس للسيطرة الإسرائيلية، وبدأ الصراع القضائي بين أهالي الحي وجمعيات الاستيطان، إذ قدم ما يعرف بالوقف الإشكنازي اليهودي، والوقف السفاردي مستندات إلى دائرة مسجل الأراضي الإسرائيلية يدعي فيها أن ورقة رسمية مكتوبة باللغة العثمانية تفيد بأنهم ملاك لحي الشيح جراح قاموا بشرائها في العام 1876 مقابل 16 ألف فرنك.
طوال هذه الفترة من الصراع حول ملكية أراضي الشيخ جراح، مارست إسرائيل أشكالا مختلفة من الممارسات العنصرية ضد سكان الحي بهدف طرد سكانه والاستيلاء على عقاراته، منها فرض الضرائب على العقارات القائمة والمشاريع التجارية، وقطع المياه والكهرباء عن أهالي الحي، والسماح للمستوطنين بممارسة طقوسهم الدينية لاستفزاز سكان الحي بما يجبرهم على الرحيل من الحي.
أيمن زيدان نائب أمين مؤسسة القدس الدولية من بيروت قال لـ"عربي بوست" إن "الحالة الوطنية التي شكلها التضامن الشعبي والفصائلي مع أهالي حي الشيخ جراح لإجبار بعض العائلات التي ضعفت ورضخت أمام التهديدات الإسرائيلية تعكس موقفا متقدما لما أفرزته معركة سيف القدس الأخيرة التي أسست لحالة وطنية نسعى بكل قوتنا إلى استثمارها في حماية مدينة القدس والحفاظ على الوضع القائم بشأنها".
وأضاف "تابعنا بقلق دخول مسار تسريب العقارات في القدس نمطا وشكلا مختلفا لما اعتدنا عليه في السابق، وابدينا تحفظا ورفضا للطريقة التي يدير بها محامي القضية باستجابته للخيارات الإسرائيلية وإبلاغ سكان الحي بذلك، لأن مبدأ التفاوض بالنسبة لقضية حساسة كهذه تفتح الطريق أمام توغل إسرائيلي جديد في أحياء أخرى كالعيزرية وسلوان".
دخل الصراع حول الشيخ جراح في هذا العام سياقا مختلفا عن الأعوام الماضية، فكان لقرار المحكمة العليا الإسرائيلية في 5 من مايو/ أيار الماضي بإخلاء الحي بمثابة شرارة لاندلاع مواجهة عسكرية بين الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل استمرت لأحد عشر يوما، نجحت فيها المقاومة بفرض معادلة اشتباك جديدة بتهديد إسرائيل بالمواجهة الشاملة في حال أقدمت على خطوات من شأنها المساس بمدينة القدس أو أحيائها.
أدركت إسرائيل حجم التكلفة الكبيرة لأي مساس في واقع مدينة القدس، فسارعت المحكمة إلى إصدار قرار بتأجيل البث في قرار ملكية الحي لـ6 أشهر انتهت اليوم الثلاثاء 2 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وبذلك يبقى ظرف تفجر الأوضاع احتمالا قائما في حال أقدمت إسرائيل على خطوات تصعيدية في الأيام القادمة.
محمد حمادة المتحدث باسم حركة حماس لمدينة القدس قال لـ"عربي بوست" إن الحركة لن تقبل التنازل عن أي انجازات حققتها في معركة سيف القدس الأخيرة، نحن تابعنا باهتمام مسار القضية، وقدمت الحركة دعمها الكامل وثقتها بصمود سكان الحي، وأي محاولة إسرائيلية لتغيير واقع المدينة سيقابل برد عسكري لن يقل خطورته عما شهدنها في معركة سيف القدس الأخيرة.
وكان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية قد أكد في لقاء أجراه مع أهالي حي الشيخ جراح الأسبوع الماضي بأن يضعوا كامل ثقتهم بمشروع المقاومة، وأن حماس لن تتخلى عن أهالي الحي مهما بلغت التهديدات الإسرائيلية.
يتركز الاهتمام الإسرائيلي في السيطرة على حي الشيخ جراح كونه النقطة الأقرب للمسجد الأقصى من الجهة الشرقية، كما أن السيطرة على الحي يمهد لقطع الطريق بين البلدة القديمة جنوبا والأحياء العربية شمالا، على إثر ذلك في حال فشلت إسرائيل في السيطرة على الحي يفشل مشروعها ببناء الحوض المقدس الذي يسعى لتغيير معالم المدينة بشكل كبير والذي يقوم على أساس إحداث تغيير ديموغرافي بسيطرة اليهود على الثقل السكاني في البلدة القديمة.