يشهد العام الدراسي في لبنان هذا الخريف الفوضى نفسها التي اجتاحت كل شيء آخر بالبلاد في ظل انهياره المالي والاقتصادي، إذ يخوض آلاف المعلمين إضراباً، مُطالِبين بتعديل الرواتب؛ لمواكبة التضخم المفرط والسقوط الحر للعملة، وفقاً لما نشرته وكالة Associated Press الأمريكية.
في ظل النقص الحاد بالوقود، أصبح ليس حتى مؤكداً أن يتمكن الأساتذة من ملء خزان سياراتهم، كما أصبحت تدفئة الفصول الدراسية في أشهر الشتاء الباردة بعيدة كل البعد عن كونها مضمونة.
وتأجلت بداية الدراسة عدة مرات في خضم مفاوضات الحكومة التي تعاني ضائقة مالية، مع نقابة المعلمين على حزمة تعديل رواتب تُقدَّر بنحو 500 مليون دولار. ونتيجة لذلك، وفي حين بدأت بعض المدارس الخاصة صفوفها، مايزال معظم طلاب لبنان البالغ عددهم 1.2 مليون طالب، لا يعلمون متى يعودون إلى المدرسة، وفي الوقت نفسه، يستقيل المعلمون بأعداد كبيرة، بحثاً عن فرص أفضل بالخارج.
لا يخشى كثيرون من ضياع العام الدراسي وحسب، بل أيضاً ضياع جيل في بلدٍ كان يتباهى بالتنافس عالمياً في عدد العلماء والمهندسين الذين يُخرِّجهم.
وقد تعطَّلت المدارس بالفعل خلال العامين السابقين بفعل سلسلة من الأحداث: الاحتجاجات التي بدأت في أواخر 2019 والتي عطَّلت العام الدراسي، والتحول بشكل كبير إلى الصفوف الدراسية عبر الإنترنت في 2020 بسبب الجائحة، وتصاعد الفقر. ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، لم يدخل نحو 400 ألف طفلٍ المدرسة عام 2020.
ونقل الآباء الذين يعانون أبناءهم من المدارس الخاصة، التي يُروَّج لها عادةً باعتبارها تعليماً من الدرجة الأولى، إلى المدارس العامة، وقالت آلاء حميد من منظمة "أنقِذوا الأطفال"، إنَّ 50 ألف طالب نُقِلوا العام الماضي (2020)، وإنَّ العدد مرشح لأن يكون أعلى بكثير هذا العام (2021).
ويضغط هذا على القطاع العام الذي يعاني نقصاً في الموارد، على الأرجح على حساب تسجيل اللاجئين السوريين والفلسطينيين الذين يعتمدون على النظام العام اللبناني. ووفقاً لأرقام الأمم المتحدة، يعيش الآن 55% من سكان لبنان في فقر، مقارنةً بـ28% عام 2018، ما يعني عملياً محو الطبقة المتوسطة التي كانت كبيرة سابقاً. وتراجعت الرواتب بعدما خسرت العملة 90% من قيمتها مقابل الدولار.
رودولف عبود، نقيب المعلمين، قال للوكالة إنَّ ما لا يقل عن 15% من مُعلِّمي المدارس الخاصة في لبنان قد غادروا البلاد، ما أحدث نقصاً كبيراً.
وزاد انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، الذي دمَّر العاصمة، هذه المشكلات، فألحق أضراراً بأكثر من 180 منشأة تعليمية، فيما يحاول الآباء ووسط هذه المصاعب، البحث عن سبل لإبقاء أبنائهم في المدارس.
نعيمة صدقة قالت إنَّها شاهدت الأزمة الاقتصادية تتكشَّف على صفحة فيسبوك التي أنشأتها قبل ثلاث سنوات للمساعدة في تخيُّر أي المدارس تُسجِّل فيها أبناءها بعدما عادت من السعودية مع أسرتها.
إذ نمت عضوية صفحة "Schools in Lebanon" (المدارس في لبنان) بنسبة 50% على مدار الأشهر القليلة الماضية، لتصل إلى 12 ألف عضو. وتغيَّرت الاستفسارات والتعليقات من الآباء الراغبين في معرفة ترشيحات لمدارس خاصة إلى منشورات إعلانات لبيع الكتب المُستعمَلة أو ترتيب سيارة مشتركة لتوصيل الطلبة؛ في ظل نقص حافلات المدارس.
وقالت صدقة إنَّ كثيرين يتواصلون معها في الرسائل الخاصة يطلبون زياً مدرسياً مستعملاً ويشعرون بإحراج كبير من نشر منشور على الصفحة يطلبون فيه ذلك علناً. وأضافت صدقة، التي تعيش بمدينة صيدا الجنوبية، أنَّ الآباء يجب أن يقلقوا بشأن تطور أبنائهم ومهاراتهم، "لكنَّنا هنا قلقين فقط حيال إدخالهم المدرسة".
ولا توجد تقريباً مواصلات عامة، وقد تضاعفت رسوم الحافلة المدرسية ثلاث مرات، ولا يقدم مسؤولو الحكومة أي مساعدة، لذا تعيَّن على صدقة تدبير توصيلات لأبنائها الثلاثة بنفسها.
صدقة، التي كانت معلمة سابقاً في السعودية، قالت إنَّها نادمة على العودة. وأضافت: "الأمر كما لو أنَّني عدتُ إلى الوراء 15 عاماً"، وباتت تقبل الآن براتب ضئيل. أمَّا مايا، وهي أم لطفلين، فلم تجازف وقررت المغادرة في أغسطس/آب، بعدما أصبح نقص الوقود حاداً جداً ولم يُحدَّد موعد لعودة الدراسة.
غادرت هي وزوجها إلى قبرص، حيث سجَّلت طفليها البالغين من العمر 6 و8 سنوات في مدرسة باللغة الإنجليزية واكتظت المدرسة الفرنسية الوحيدة في الجزيرة بالطلبة اللبنانيين الواصلين حديثاً، وقالت إنَّ 50 معلماً على الأقل بمدرسة طفليها الخاصة في لبنان، ونصف الطلبة بصف ابنتها، قد غادروا.
وتساءلت: "مَن سيُدرِّس أبناءنا؟ أي أصدقاء سيتبقون لهم؟ هذا ما أشعر بالقلق حياله".