لو قُدر للفيلسوف الألماني هيغل أن يتواجد بيننا اليوم، لوجد في حكومة ميقاتي المثل الأبرز لشرح فلسفته في التناقض؛ ميقاتي الذي وصل سنة 2011 عبر قوة حزب الله، من خلال نزول عناصره ليتمشوا بقمصانهم السوداء لمدة 40 دقيقة كانت كفيلة بإسقاط حكومة الرئيس الحريري وتغيير المشهد السياسي والانتخابي في لبنان، 40 دقيقة كانت كفيلة بأن يتحول بعدها نجيب ميقاتي من شخصية سنية سياسية، إلى شخصية منزوعة الشرعية الدينية مفروض بقوة السلاح.
خسر في الشارع السني والشارع الطرابلسي يومها كل العلاقة مع شارعه، وكانت الصورة الأبرز التي ما زالت عالقة في أذهان الشارع حتى اليوم، طريقة استقبال الرئيس الحريري يومها لزيارة ميقاتي البروتوكولية، حيث كانت ملامح الرئيس الحريري تعبر عن أغلبية وجوه اللبنانيين، لم يكن أحد يتصور لمن عاش تلك التجربة، أن يتخيل الرئيس ميقاتي رئيس حكومة القمصان السود، مرشحاً من دار الفتوى وبمباركة من الرئيس الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام، ورحابة صدر من حزب الله.
هذا التناقض الكبير في الصورتين إن دل على شيء فهو يدل على حنكة الرئيس ميقاتي وشخصيته السياسية المجبولة في فكر ميكافيلي. وبقي اليوم السؤال الأبرز، ما الذي أُعطي للرئيس ميقاتي ولم يُعطَ للرئيس الحريري؟
بدايةً وعلى عكس موقف الرئيس ميقاتي من الرئيس حسان دياب والذي أخذ موقفاً شخصياً، فإن الرجل (ميقاتي) استطاع في السياسة العامة فصلَ مواقفه الشخصية والطائفية عن السياسة، واستطاع أن يوازن علاقته المتناقضة، لا بل نجح في استغلالها لتصب في مصلحته، فشل في الانتخابات النيابية الأخيرة في الخروج بحصة سنية وازنة واكتفى بنفسه عن المقعد السني، فيما تألفت كتلته من مسيحيين وعلوي، وعلى الرغم من ذلك عمل كقطب زعامة سنية، وأعاد الدفء لعلاقته بدار الفتوى بعد ترميم علاقته بالرئيس الحريري أولاً، وساهم بشكل رئيسي بتأسيس نادي رؤساء الحكومات، الأمر الذي أهداه نتيجتين لم يحلم بهما يوماً بعد حكومة القمصان السود، أولاهما تقربه من الشارع السني فأصبح من خلال تصريحاته يمثل أحد أركان حماية الحقوق السنية، وثاني النتائج أنه على عكس الحكومة السابقة 2011 لديه اليوم شرعية دينية وسياسية تؤمن له مظلة الطائفة السنية.
من جهته، قرر رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون ومنذ يوم استقالة الرئيس سعد الحريري من تكليفه، أنه لن يعطي الرئيس ميقاتي ما لم يعطِه للرئيس الحريري، وهو الأمر الذي سقط مع تشكيل الحكومة، حيث إن رئيس الجمهورية تراجع عن مطلبه بالداخلية، وقدم تسهيلات في وزارة الاقتصاد، وغيرها من الوزارات التي لم يقدمها للرئيس سعد الحريري، ولعبت العلاقة الدافئة التي تجمع الرئيس ميقاتي بصهر رئيس الجمهورية جبران باسيل دوراً رئيسياً في تسهيل ولادة الحكومة، لا بل ذهب إلى أكثر من المتوقع، وهو إعطاء الثقة للحكومة، والتي كان من المعلوم أنه لن يعطيها للرئيس الحريري في حال تشكيله حكومة.
يعتبر رئيس الجمهورية اليوم نفسه، المنتصر الأكبر في تشكيل الحكومة الفرنسية-الإيرانية، فقد حصل على أهم نقطتين رئيسيتين راهن من الأساس على الحصول عليهما، وهي ثلث معطل وهو الذي سيظهر جلياً مع بروز نتائج التصويت في مجلس الوزراء، والذي بالمناسبة ينتظره الكثير من القرارات الحساسة، التي يمكن للصوت الواحد أن يحسمها، والنقطة الجوهرية الأهم هي الحصول على حكومة يمكن أن يثق بها عند انتهاء ولايته ونقل صلاحيته لها، وذلك في حال لم يذهب إلى تشكيل حكومة بعد الانتخابات النيابية القادمة.
قد يكون الرئيس الحريري- وبعيداً عن الشعبوية- أكثر الفائزين اليوم، فالمرحلة الحساسة التي تمر بها البلاد تحمل بداخلها قنبلة اجتماعية-اقتصادية قد تنفجر في لحظة ما، مشعلة ثورة شعبية تطيح برؤوس كثيرة وأولها الحكومة.
ثاني الأسباب أن التجربة التي قام بها العهد على مدار خمس سنوات لن تتغير من حيث الأداء، وهو تحميل الآخرين فشلهم للحكم، ثالث الأسباب أن البلاد على أبواب انتخابات نيابية، والتواجد في الحكم مع قرارات اقتصادية واجتماعية قاسية هو في غنى عنها، من حيث علاقته مع قاعدته وجمهوره أولاً.
وبالتالي فإن تشكُّل الحكومة في لبنان لا يعني دائماً أن الأمور تسير في المسار الصحيح، وإلا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، التقاطع الدولي الإقليمي الذي حدث على صعيد الفرنسيين والإيرانيين، والذي أثمر ولادة الحكومة، مهدد اليوم من مجموعة من الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى موت الحكومة سريرياً، فتصارع الحليفين الغربيين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا قد ينعكس بشكل قاسٍ على الوضع الداخلي في لبنان وعلى عمل الحكومة تحديداً. والحكومة لن تتحمل أي عقوبات أو تضييق على هذا الصعيد.
الأمر الآخر هو الرضا السعودي عن الحكومة، فالرئيس الحريري الذي يدرك أهمية السعوديين على الوضع الإقليمي والعربي وتأثيرهم الاقتصادي والسياسي على لبنان، جعل أمر الحصول على مباركتها من أسباب التشكيل أو الاعتذار وهو الأمر الذي اعتبره الرئيس ميقاتي يبدأ بتأليف حكومة أولاً ثم محاولة الاستحصال على بركة السعوديين بعد ذلك، وهو الأمر الذي بدأه بعد زيارة باريس ومحاولة تأمين غطاء فرنسي لفتح أبواب الرياض، عسى أن تكون جولته الخليجية من السعودية أولاً، وإلا في حال لم تحصل على الرضا، بذلك تكون الحكومة قد نالت أولى الضربات السياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.