قطعت الأحزاب الفائزة بالمراتب الثلاث الأولى في انتخابات 8 سبتمبر/أيلول بالمغرب، أشواطاً كبيرة في صناعة تحالفٍ حكومي، يقتصر عليها، ويقصي الأحزاب الأخرى التي كانت تُمني النفس بالمشاركة في حكومة عزيز أخنوش.
وتتجلى الأحزاب التي من المفترض أن تُشكل الحكومة، في حزب التجمع الوطني للأحرار، قائد الائتلاف الذي حل في المرتبة الأولى، وحزب الأصالة والمعاصرة، أكبر حزب معارض والذي حصل على المرتبة الثانية، وحزب الاستقلال الذي جاء في المرتبة الثالثة.
وأمام استسلام باقي الأحزاب للاستبعاد من الحكومة، برز موقف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي جدد المجلس الوطني (برلمان الحزب) طلبه دخول الحكومة، معلناً استعداده لتلقي عرض الرئيس المكلف.
تحالف ثلاثي
في 30 أغسطس/آب، انفرد "عربي بوست" بالحديث عن وجود تحالف ثلاثي "غير معلن" بين أحزاب "التجمع الوطني للأحرار"، و"الأصالة والمعاصرة"، و"الاستقلال"، لقطع الطريق على عودة حزب العدالة والتنمية لتسيير المدن بعد الانتخابات، والتوافق فيما بينها على تقاسم التسيير.
وبعد 18 يوماً، أصدرت أحزاب التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، الجمعة 17 سبتمبر/أيلول الجاري بلاغًا مشتركًا، أمرت منتخبيها في المدن والأقاليم والجهات بالاتفاق على بناء أغلبيات بالتعاون فيما بينها.
وكشفت مصادر "عربي بوست" أن هذا الاتفاق أكبر من مجرد أمر بالتنسيق بين هذه الأحزاب الثلاثة في الجهات والأقاليم والمدن، بل إعلان عن ميلاد أغلبية حكومية.
وسجلت المصادر، أن هذا الاتفاق يشكل "انقلابًا" على كل التسريبات السابقة، التي كانت تقول بإن حزب الأصالة والمعاصرة (87 مقعدًا) ذاهب إلى المعارضة.
وزادت المصادر ذاتها أنه إلى حدود الأربعاء 14 سبتمبر/أيلول 2021، كان حزب الأصالة والمعاصرة خارج الحكومة، وكان يعد نفسه لقيادة المعارضة البرلمانية، لكن التطورات التي يعرفها المغرب بعد الانتخابات، حتّمت التدخل من "فوق" لترتيب المشهد.
وشددت المصادر ذاتها على أن "الهواتف" تحركت يومي الخميس والجمعة، لتنتهي ليلة الجمعة، بلقاء جمع الأمناء العامين للأحزاب الثلاثة الأولى في مجلس النواب، ويتعلق الأمر بعزيز أخنوش (الأحرار)، ونزار بركة (الاستقلال)، في بيت عبد اللطيف وهبي (الأصالة والمعاصرة).
المصادر أوضحت أن اللقاء الطويل حسم مسألتين بين الأحزاب الثلاثة، الأولى تشكيل الأغلبية الحكومية، والثانية إلزام هيئاتها الحزبية داخل المدن والأقاليم والجهات بالتنسيق الثلاثي بينها لصناعة أغلبيات في الجماعات والبلديات.
هذا الاتفاق الثلاثي خرج جزء منه إلى العلن، ليل الجمعة 17 سبتمبر/أيلول، في بلاغ الأحزاب الثلاثة التي أعلنت فيها إلزام مسؤوليها في المدن والأقاليم بالتحالف والتنسيق لتشكيل مكاتب المدن والجماعات.
تحالف "الإشارات"
أما الشق الثاني من الاتفاق، والذي أفادت به مصادر "عربي بوست"، فخرج عبر تسريبات للصحافة، وفحواه أن هناك اتفاقًا بين الأحزاب الثلاثة على الخطوط العريضة لتشكيل الحكومة المقبلة.
وزادت قيادات حزبية، أن الجزء الثاني من الاتفاق تم عرضه في اجتماع برلمانَي حزبي الأصالة والمعاصرة والاستقلال، اللذين اجتمعا كل على حدة.
وكان حزب الاستقلال قد عقد مجلسًا وطنيًا استثنائيًا حسم فيه أمر المشاركة في الحكومة، على أساس احترام الوزن السياسي للحزب، وفوض إلى قيادة الحزب تدبير المشاورات مع رئيس الحكومة.
وهذا الأمر نفسه انطبق على حزب الأصالة والمعاصرة، الذي قرر الجمعة 17 سبتمبر/أيلول، دعوة مجلسه الوطني إلى الانعقاد يوم السبت 18 سبتمبر/أيلول، والذي أعلن قبول عرض رئيس الحكومة، وفوض إلى قيادة الحزب مباشرة المفاوضات مع رئيس الحكومة المكلف.
ونبهت المصادر إلى أن حزب الأصالة والمعاصرة لم يكن جزءًا من حكومة أخنوش، ودللت على ذلك بالاتصالات "من فوق"، وكذلك برمجة "الأصالة والمعاصرة" دورة استثنائية لمجلسه الوطني "على عجل"، وهي بالمناسبة أول دورة لبرلمان هذا الحزب منذ انتخاب قيادته في 2019.
وكان حزب الأصالة والمعاصرة قد عاش أزمة تنظيمية، تسببت في عرقلة انعقاد المجلس الوطني، وعدم انتخاب أعضائه كما تقضي بذلك قوانين الحزب، وهو ما كان سببًا في انتقادات كثيرة للقيادة الحالية، غير أن تشكيل الحكومة جعل جميع المعارضين يتابعون ما يجري داخل الحزب في صمت.
وأفادت المصادر ذاتها بأن قيادات الأحزاب الثلاثة أمام طريق مفتوحة لتشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن، خاصةً أنها تلقت ضوءاً أخضر "من فوق"، تبعه استسلام جميع الأحزاب لهذه "الإشارات"، باستثناء "الاتحاد الاشتراكي".
"أريد الحكومة"
لم ينته يوم الأحد 19 سبتمبر/أيلول إلا والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (يساري)، قد أعلن في بيان لمجلسه الوطني، عن استعداده للدخول في الحكومة المقبلة، مسجلًا أنه ينتظر دعوة رئيس الحكومة المكلف ليلتحق بها.
خبر انعقاد برلمان "الاتحاد الاشتراكي" فاجأ المراقبين، ونتائجه أثارت سخرية كثير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروها استمراراً في تعريض أكبر حزب يساري مغربي لـ"الإذلال" و"الإهانة" من قبل قيادته الحالية.
البلاغ عبّر عن "ترحيب الحزب بالمشاركة في الحكومة في حالة تلقيه عرضًا مقبولًا ومنسجمًا مع طموح تشكيل حكومة متضامنة ومنسجمة وقوية على قاعدة أولوية الاجتماعي ومن أجل دولة عادلة وقوية".
وعبّر المجلس الوطني، كذلك، عن "طموح مشروع في الوجود ضمن الفريق الحكومي المرتقب، فإنه يحترم خيارات رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها".
مصادر قيادية في "الاتحاد الاشتراكي" اعتبرت أن "ما يطالب به الحزب أمر عادي وطبيعي، فهو شريك يطالب فقط شركاءه باحترام التزاماتهم تجاهه".
المصادر التي طلبت عدم الكشف عن هويتها، قالت لـ"عربي بوست" إن "الاتحاد الاشتراكي" أعلن منذ مدة، دخوله في تنسيق سياسي مع حزب التجمع الوطني للأحرار، وأنه لا يريد أكثر من أخذ هذا في الاعتبار عند تشكيل الحكومة.
وزادت أن وجود "الاتحاد الاشتراكي" في الحكومة المقبلة سيكون مفيداً للمغرب، للمجتمع والدولة معًا، فهوية الحزب اليسارية ستدعم التوجهات الاجتماعية للحكومة، كما أن علاقاته الخارجية ستزيد من تعزيز صورة المغرب عبر العالم.
لعبة السيناريوهات
مصادر حزبية كشفت أن هذا الترتيب الجديد (حكومة مكونة من أحزاب التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال) يعني العودة إلى السيناريو الأول، الذي تم وضعه قبل انطلاق "الحملة" الانتخابية.
وسجلت المصادر أن هذا السيناريو يقضي بتشكيل أغلبية من هذه الأحزاب الثلاثة لقطع الطريق أمام "العدالة والتنمية"، ومنعه من تشكيل حكومة في حال نجح في الفوز بالانتخابات.
وزادت المصادر، أنه أمام الهزيمة الكبيرة والمفاجئة للإسلاميين، قررت الجهات القائمة على إعادة ترتيب المشهد التراجع عنه، والعمل على سيناريو ثانٍ.
واعتبرت المصادر أن السيناريو الثاني كان يعني وجود حزب الأصالة والمعاصرة في المعارضة، رفقة الأحزاب اليسارية للقيام بالمعارضة، وذلك وفق تصور قائم على إحياء الثنائية القطبية التي كان يبحث عنها المغرب (يمين يحكم/يسار يعارض أو يسار يحكم/يمين يعارض) قبل الصعود الصاروخي للإسلاميين.
هذا السيناريو ينطلق من كون حزب الأصالة والمعاصرة، حتى وإن كان حزبًا من الأعيان، فإن له قيادة من النخب اليسارية، أو ذات الماضي اليساري، وكان حتى وقت قريب يصنف نفسه حزباً "يسارياً".
وزادت المصادر ذاتها أن هذا السيناريو تم التخلي عنه بعد 3 تحولات كبرى، وهي رفض "الاتحاد الاشتراكي" (يساري) الجلوس في المعارضة، وهجومه على حزب الأصالة والمعاصرة، وأمينه العام.
أما التحول الثاني، فتجلى في الصراعات بين المسؤولين المحليين للأحزاب الثلاثة، مما بات يهدد فكرة "إبعاد" العدالة والتنمية من تسيير المدن والبلديات؛ وهو ما دفع إلى إصدار البلاغ الثلاثي المشترك.
والتحول الثالث تجلى في "آثار" الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجماعية والبرلمانية الأخيرة، والتي رفعت بشكل غير مسبوق، أسهم الأمين العام السابق ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران، وزادت مؤشرات عودته لدفة قيادة "العدالة والتنمية".
وأوضحت المصادر ذاتها أن هذه التحولات الثلاثة شكلت دافعًا كبيرًا للعودة إلى السيناريو الأول، القاضي بالاقتصار على حكومة من 3 أحزاب.
وتسري تكهنات بأن قيادات الأحزاب الثلاثة يضعون اللمسات الأخيرة على توزيع الحقائب الوزارية، كما يسارعون الخطى على تسمية ممثليهم داخل الحكومة.