نالت الأسيرة المحررة من السجون الإسرائيلية أنهار الديك حريتها بالإفراج المشروط من سجون الاحتلال مساء الخميس 2 سبتمبر/أيلول، بينما كانت تعيش ظروف مخاض ولادة جنينها الذي رافقها أكثر من ستة أشهر في زنزانة صغيرة، ليكون أصغر أسير في العالم.
كان قد مضى على تكوين نطفته داخل رحم أمه 3 أشهر حين جرى اعتقال والدته بتهمة "محاولة تنفيذ عملية طعن" برأتها منها المحكمة الإسرائيلية لاحقاً، وكان شاهداً على تجربة أمه الصعبة التي عاشتها في ظل ظروف معيشية وطبية قاسية.
"كنت أقضي يومي بطلوع الروح، بنام على بورش حديدي من طابقين، وعندي فرشة واحدة مؤلمة للغاية سببت لي آلاماً في الحوض والمفاصل"، تقول الأسيرة المحررة أنهار لـ"عربي بوست"، والتي باتت أيقونة فلسطينية بعد انتشار رسالتها من الأسر إلى العالم التي استغاثت فيها من أن تضع جنينها وهي وراء القضبان، كتبت في متنها: "شو أعمل إذا ولدت بعيد عنكم وتكلبشت وأنا أولد وانتوا عارفين شو الولادة القيصرية برا كيف بالسجن وأنا مكلبشة لحالي".
تجربة الحمل وحدها داخل السجون تصفها أنهار بـ"قطعة العذاب"، لا مُسكن لأوجاعها فيها إلا دواء واحد تصرفه إدارة السجون لها هو "الأكامول"، دون مراعاة وضعها الخاص، أو توفير سُبل الراحة لها.
تضيف: "كانت تجربة صعبة لا توصف، الوجع الذي يعانيه الأسير والأسيرة في ظروف عادية بدون ما يكون عندهم وضع خاص بكون قاسي جداً، فما بالك لما أكون حامل، وما في أي مراعاة بتوفير الأشياء المخصصة للمرأة الحامل"، وتتابع: "ما كنت أقدر أنام من الوجع بسبب الفرشة التي أنام عليها والتي سببت لي أوجاعاً كثيرة أعاني منها الآن بعد الإفراج".
كوابيس تجتمع كل ليلة على رأس أنهار البالغة من العمر "26 عاماً"، لكن الكابوس الأسوأ، كان أن تجري ولادتها "القيصرية" في السجن، فالسيناريو المتوقع للولادة على وصفها: "أن يأخذوني إلى المشفى وأجري العملية القيصرية وأبقى فيه عدة أيام مقيدة اليدين، ثم أعود بأوجاعي وطفلي إلى زنزانة ضيقة لقضاء فترة (الحجر الصحي) بسبب إجراءات كورونا ومعي إحدى الأسيرات التي تقوم بدور المرافقة لي، ثم يكبر طفلي في السجون الإسرائيلية، وأبدأ معركة عنوانها توفير الدواء وحليب الأطفال ومستلزمات الميلاد".
مرحلة الوحم.. مرت قاسية وصعبة
تفاصيل كثيرة غابت عن أنهار وزوجها اللذين كانا ينتظران مولودهما على أحر من الجمر، فهو ولي عهد أبيه، وعمود والدته المنتظر، من بين التفاصيل، ما ترويه الأسيرة الحامل عن معاناتها في مرحلة "الوحم" حيث كانت تشتهي الكثير من الأكلات فلا تجدها أمامها، فيحاولن الأسيرات توفير بدائل لما تشتهي للتخفيف من معاناتها النفسية.
سيناريوهات قاسية لم تغادر عقل أنهار، من أصعبها أيضاً أن تلد دون مرافقة والدتها أو زوجها الذي يقوم بدور الأم والأب معاً لابنتهما جوليا التي كانت تبلغ من العمر سنة وشهرين عند اعتقال والدتها، ولجوليا قصص كثيرة، فصوتها الآتي عبر أثير الإذاعة الفلسطينية مخترقاً القيد وجدران الزنزانة بكلماتها غير المكتملة، كان يُشعل في قلب أنهار ناراً لا تنطفئ.
"كنت أسمعها تحكيلي ماما أنا جوليا، فينفطر قلبي شوقاً"، تقول أنهار التي تضع هذه التفاصيل في قائمة "المواقف الصعبة"، أما الليالي الصعبة فهي أيضاً مرتبطة بجوليا، "أصعب ليلة مرت عليّ لما حلمت في بنتي بتبكي بشدة وبتصرخ وبتقول ماما ماما، صحيت مفزوعة من نومي وصرت أصرخ، وتكاد السماء السابعة تكون قد سمعت صراخي"، تتنهد أنهار وتكمل: "رح أضل أذكّر جوليا بهذا الموقف وأقول لها لقد صرخت يا ماما يوم حلمت فيك حتى وصل صوتي السماء السابعة".
رسالة من القبر
وكانت رسالة أنهار التي كتبتها بخط يدها إلى العالم يوم 15 أغسطس/آب الماضي، سبباً في انطلاق حملة تضامنية واسعة معها، حيث انتشر وسم "أنقذوا أنهار الديك" على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبّر من خلاله المغردون عن تضامنهم معها وطالبوا بتدخل كل الجهات المعنية لإطلاق سراحها.
تُعلق أنهار على هذه الحملة بالقول: "كنت لما أشوف التضامن معي والناس توقف معي أصير أقوى، وكنت أستمد القوة والعزيمة والإصرار من المتضامنين مع قصتي، والحمد لله أن هذا التضامن بعد فضل الله قادني إلى الحرية".
ولم تتوقع الأسيرة المحررة قرار الاحتلال بالإفراج عنها، لكنها كانت مصّرة على المضي في رحلة التحدي والمواجهة مع الاحتلال، أياً كان قرار محكمة الاحتلال، اعتقالاً أم إفراجاً، واصفة قرار الإفراج عنها بـ"الفرحة التي لا توصف ولا تقدر بثمن".
أمنيات أسيرة
"سماء بلا شبك السجن.. كانت أمنية لي داخل السجن"، والقول لأنهار التي تروي أمنيات المعتقلين داخل السجون، حيث كانت رؤيتها للسماء دون شبك السجن "أجمل اللحظات" التي جعلتها تسجد شكراً في كل بقعة بمنزل عائلتها.
تصف أنهار تلك اللحظة: "لما شفت السما بلا شبك كانت لحظة بتجنن، لما طلعت وشفت أهلي حسيت قديش هاي النعمة اللي ما بنقدرها خارج السجن وما بنكون حاسين فيها، لكن لما بتغيب عنا وبترجع بتكون من أعظم النعم في حياتنا"، وتتابع: "كنت لما أشوف إنسان في التلفزيون بيمشي بلا قيود أقول نياله، متى أتحرر وأمشي متله بلا قيود".
قدر أهون من قدر
قصة الأسيرة المحررة أنهار هي واحدة من عشرات القصص المؤلمة داخل السجون، وكل قصة تهوّن على الأخرى، فهذه إسراء الجعابيص التي تعاني من حروق كبيرة في معظم أنحاء جسدها ولا يمنحها الاحتلال سوى "الأكامول" وبعض المسكنات، كانت تهوّن على أنهار مصيبتها.
"اللي بشوف مصيبة غيره بتهون على مصيبته، رغم كل الآلام اللي كنت بعاني منها، كنت لما أشوف الأسيرة إسراء الجعابيص، أقول أنا بألف خير"، وقد حمّلتها إسراء رسالة للعالم بإنقاذها من الموت، سيما أنها بحاجة إلى إجراء الكثير من العمليات الجراحية بسبب الجروح التي طالت جسدها بعد حرقه عمداً من قبل جنود الاحتلال الذين أطلقوا النار على سيارتها.
قصة ثانية كانت تُهوّن على أنهار مصيبتها، الأسيرة نسرين أبو كميل من قطاع غزة المعتقلة منذ 6 سنوات، ويحرمها الاحتلال من رؤية أطفالها السبعة، وتعاني من أوجاع وآلام كثيرة دون تقديم العلاج اللازم لها، حتى يدها التي كُسرت في الأسر لم تجد لها علاجاً ولا مسكناً ولا جبراً يساعدها على التعافي.
وتستعد أنهار لاستقبال مولودها "علاء" بعد إفراج الاحتلال عنها بكفالة مالية مدفوعة قيمتها 40 ألف شيكل، مع شرط الإقامة الجبرية بمنزل عائلتها في بلدة كفر نعمة غرب مدينة رام الله بالضفة الغربية.
ويعتقل الاحتلال الإسرائيلي ما يزيد عن 4850 فلسطينياً، بينهم 225 طفلاً، و43 أسيرة، و540 معتقلاً إدارياً، و16 صحفياً، و600 مريض، وفق هيئة شؤون الأسرى والمحررين.