تشرشل في ليبيا

تم النشر: 2021/08/25 الساعة 15:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/25 الساعة 15:24 بتوقيت غرينتش
رويترز

وينستون تشرشل (1874-1965) السياسي البريطاني البارز والاسم المحفور في قلوب الكثيرين، قاد الفترة الأكثر ظلمةً في تاريخ المملكة المتحدة، وأخرجها منتصرة في حرب عالمية ثانية، بلغت فيها قلوب البريطانيين الحناجر، وخرجوا فعلياً من عنق الزجاجة، ليس بأقل خسائر ممكنة فقط، بل بوضع جيد جعلهم طرفاً على طاولة يالطا.

تولى تشرشل رئاسة وزراء بريطانيا عام 1940 حينما تراجع كثيرون عن التصدر في ذروة الأزمة، فكان الوطن المنهك من الحرب العالمية الأولى ما إن أصلح رئته للتنفس إلا وظهر أدولف هتلر النازي، ليُعيّن مستشاراً لألمانيا ويبدأ حملته لتطويع أوروبا، والتي بدأت بتشيكوسلوفاكيا والنمسا سلمياً، واحتلال شبه كامل لفرنسا خلال 45 يوماً فقط.

لم يغِب تشرشل عن المشهد الحربي العالمي، فبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرةً عُيّن أميراً للبحرية البريطانية، وعضواً في وزارة الحرب، وبعد احتلال هتلر لفرنسا واقترابه من حدود المملكة عُين رئيساً للوزراء، واشْتُهر بمقولته الشهيرة "لن نستسلم"، في حين أبدى كثيرون من سياسيي بريطانيا نيةً للاستسلام، واصفين تشرشل بالمتهور والمجنون والحالم بينما آمن ونستون بقدرة بلاده وإمكانات شعبه الذي لم يكن يحتاج إلا إلى قائد.

انتصار تشرشل لم يكن فقط عن طريق الحرب والقتال التقليدي وإحساسه بضرورة رفع المظلومية عن البريطانيين والأوروبيين من إرهاب النازية، بل إنه أصاب هدفه وحقق نصره حينما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب وانضمت للحلفاء، فبدأت ترتسم نهاية الحرب الهتلرية إلى الأبد.

تشرشل رغم وضع بريطانيا السيئ كان الأبرز من بين ديغول وروزفلت وستالين، بفضل الوضوح والصراحة والتواصل المستمر مع المواطنين الذي كان سمته الحقيقية، كما كانت المكاشفة والمصارحة وتحديد الرؤى والنوايا مسباراً يرسم خط تشرشل حتى وصل إلى الهدف، وجعل بريطانيا تلتف حوله في أصعب فتراتها على الإطلاق.

رجل الحرب ليس رجل السلام في بريطانيا

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم كل ما جناه تشرشل من شعبية، خسر الانتخابات! ومن الأسباب وراء ذلك ما انتشر في الأوساط البريطانية آنذاك، من رغبة للإصلاح ما بعد الحرب، وهو ما جعل البريطانيين يرون أن ذلك الرجل الذي قاد الحرب لا يمكنه قيادة عملية السلام في البلاد، هذا المفهوم الذي سيظهر لهم أنه خاطئ بعد أعوام.

خسر تشرشل المنقذ والمنتصر الانتخابات أمام السياسي الثري كليمنت أتلي، ولكن الإصلاح لم يأتِ على يد أتلي، وظل شبح تشرشل يتربص بكل تحركاته جاعلاً منه قزماً أمام زعيم المعارضة ونستون تشرشل، الذي قاد المملكة في أحلك ساعاتها التاريخية ظُلمة، فما بالك بوضع الاستقرار وسطوة المنتصر.

مرت سنوات أتلي الخمس تعد أيامها لعودة القائد الأكثر نجاحاً والأكثر جدلاً، الذي بدأ بمنصب وزير الدفاع في الحكومة، إلى أن وصل إلى رئاسة الوزراء 1952، حيث أصبح ونستون أكثر نضجاً، وقام بالعديد من الإصلاحات في عديد من المجالات، خاصةً ما يتعلق بحقوق العمال والشباب، فجاءت الأولوية لحكومة تشرشل بسلسلة حلول للأزمات، خصوصاً ما يتعلق بالسياسة الخارجية، التي ساهمت بشكلٍ ما في انكماش هيبة وقوة الجيش البريطاني، وتقلص مستعمراته باستمرار، حيث كان ونستون عادةً ما يقوم بممارسات مباشرة تحفظ لبريطانيا مكانتها كقوة دولية.

في مجلس العموم البريطاني كان الكل ضد تشرشل، أقصد كل المنتفعين من كل الأوضاع غير المستقرة، كما أن الصحافة -رغم قيادته للحرب- كانت عادة ما تجلده حينما كان الإعلام في يد الغير، بينما بمقياس الإنجازات فأن تخرج بانتصار في حرب كان الطيران الألماني يدك فيها لندن على مدى أكثر من ثمانية أشهر، يعد إنجازاً فوق العادة، وكما هو متوقع اجتمع المال والسياسيون لإسقاط تشرشل وخرج فعلاً من المنافسة، ليكون في المعارضة ويعيش الحكام الجدد- رغم كونهم في السلطة- تحت قبعة تشرشل الشهيرة، ويمكنك معرفة ذلك إذا سألت كلاً منا: مَن يعرف أتلي ومن يعرف تشرشل.

بريطانيا والحالة الليبية

فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي الليبي في طرابلس، يوم الرابع من أبريل (نيسان)، تصدى رفقة فتحي باشاغا وزير الداخلية بحكومة الوفاق الوطني واللواء أسامة جويلي، لعملية عسكرية للسيطرة على العاصمة والغربي الليبي ككل، في حين تخاذل من تخاذل وهرب من هرب خارج البلاد عبر المطارات والمعابر البرية، استمرت العمليات رغم الألم والحصار وتعقيد الأمور والخذلان الدولي وبعض الأقطار العربية قرابة 14 شهراً، انتهت بتحرير الغربي الليبي من سطوة القوات المعتدية.

وقادت الأمم المتحدة عملية للسلام وتوحيد المؤسسات والحكومات في ليبيا، خسر فيها فتحي باشاغا وجويلي رفقة عقيلة صالح وعبدالمجيد سيف النصر الانتخابات من لجنة الـ75 بملتقى الحوار الوطني، وتشكلت سلطة جديدة بقيادة الدكتور المنفي والمهندس الدبيبة.

على إثر هذا النموذج في اختيار رجال للسلام مختلفين عن رجال الحرب، تستعد ليبيا يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل لانتخابات رئاسية وتشريعية، ولكن هذه المرة من الشعب وليس من لجنة ملتقى الحوار التي تَحصَّلَ فيها العديد من الأشخاص على مناصب حكومية من الحكومة الحالية، وأعتقد أن رواد القائمة التي خسرت في جنيف ستكون لها الحظوة العليا في الانتخابات المقبلة بعد رمادية أداء حكومة الدبيبة والمنفي، وتنازع السلطات بينهم وبين البرلمان، وإلى حد كبير قد يتكرر سيناريو عودة تشرشل لحكم بريطانيا في ليبيا عن طريق انتصار تحالف باشاغا جويلي في الانتخابات المقبلة.

تجربة تشرشل في بريطانيا تكاد تتكرر بكامل تفاصيلها في ليبيا منذ 2018 تحديداً، وحتى الانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل، فخروج قائمة باشاغا وجويلي وسيف النصر وعقيلة صالح من دائرة المنافسة في جنيف فبراير (شباط) الماضي، جعل الخطى نحو تحقيق استقرار داخلي ووفاق إقليمي في ليبيا أمراً من الصعوبة بمكان، ولعل الفرحين بخسارة تلك القائمة التي سُميت في وقتها بقائمة الصقور أصبحوا ينتظرون بفارغ الصبر عودة هؤلاء للمشهد؛ سعياً لتحقيق السلام والاستقرار، نظراً لخبرتهم خلال سنوات خلت ولضلوعهم في المشهد بعمق لا يوصف.

   فهل إن تكرر تسلسل الأحداث في ليبيا مع الشخصيات ذاتها سيكون قرار الشعب الليبي هو ذاته، كما كان قرار البريطانيين مع تشرشل حين لم يختاروه ثم عادوا لاختياره، ويعيد التاريخ نفسه بكل التفاصيل؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالعزيز الغناي
محلل سياسي ومهتم بالشأن العربي والإقليمي
طالب دراسات عليا قسم إدارة مشروعات هندسية، مواليد 1987 مدينة مصراتة في ليبيا، حالياً أعمل كمهندس مدني، كاتب مهتم بالشأن العام، شاركتُ كمستشار لفريق صياغة الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات عن مدينة مصراتة.
تحميل المزيد