"أنا مش كافر" عبارة يعرفها كل من سمعها ليردد تباعاً تتمتها في ذهنه: "بس الجوع كافر، المرض كافر، الفقر كافر والذلّ كافر".
هذا هو حال اللبنانيين كل يوم، الذين تعبوا من كل شيء، تعبوا من طبقة سياسية لا ترى في جحيمهم سوى حقيبة وزارية لصهر العهد أو لمترشح رئاسي حالم، تعبوا من مناكفات السياسيين غير المجدية، تعبوا من الاعتراض، تعبوا من التأييد، وحالهم لا يعدو أن يكون غير الصراخ المتَّشح بالوجع على جنبات الرصيف- رصيف كسرة خبز مفقودة وحبة أسبرين غير موجودة وقطرة مازوت شحيحة- للتعبير الكوريغرافي عن الجراح والألم. أطماع تنهش من الخارج وعمالة وتخاذل ينخران الداخل، وشعب مؤسَّس على بنية "التوافقات" يدفع فاتورة النهاية. وأي نهاية؟
بعد سنة على تشرنوبيل بيروت في 4 من أغسطس/آب، الانفجار الذي وصل دويّه إلى "لارنكا" في جزيرة قبرص، وهو كما ورد على لسان الخبراء (واحد من أعنف الانفجارات غير النوويّة عالمياً)، تبقى أسباب موت اللبنانيين كثيرة، ولكن جذرها اليانع هو انتهاء مدّة صلاحية المنظومة اللبنانية، المنظومة التي تسمح بركن 2750 طناً من الأمونيوم ولمدة ست سنوات في قلب عصب لبنان التجاري، فالعشرات الذين فارقوا الحياة والآلاف الذين أصيبوا وعشرات الآلاف الذين ناموا تحت أسقف منازلهم المنهارة ليسوا ضحية صدفة ما أو ضحية (كارثة طبيّعية)!
وبعد سنة ونصف السنة على الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، وشوارع بعلبك وبيروت وطرابلس.. لسان الحال هناك يقول: من لم يمت بانفجار المرفأ مات بغيره، تعددت الأسباب والموت في النهاية هو سيد الموقف. كأنهم كانوا يعلمون بانضمام انفجار عكار إلى مرفأ بيروت ويتساءلون من على القائمة غداً؟
بتنا اليوم بين مطرقة من يريد استجرار الكهرباء من الأردن عبر سوريا، وسندان من ينتظر ناقلة النفط الإيرانية، والحداد طبعاً هو منظومة القهر اللبنانية بأمّها وأبيها التي تنخر عظام الدولة فساداً ورعونة وأنانية.
إنهم يتقاتلون في السياسة وندفع الثمن، يتقاسمون المغانم فنغدو فريسة مصالحهم، يقترعون على ثيابنا ونعرّى من أبسط قواعد العيش ومستلزماته، يحاصروننا لنهلك في بؤسنا وفقرنا ونبقى أسرى تأمين حاجاتنا اليومية، وأن نتأقلم إلى حدود الموت والانغماس في إيقاع الحياة اليومية، أو كما يسميه المهدي عامل "الفكر اليومي".
ثمة أسئلة اليوم في لبنان يفرضها الواقع المتقد، ومن الصعب الإجابة عليها، كما قد يكون أمراً مخيلاً لنا، أسئلة من قبيل:
هل الأزمة فعلية أو مفتعلة؟
وإذا كانت مفتعلة، فمن يفتعلها إذن؟ ولماذا؟
وما الهدف من هذا كله، ومن يسعى "للفوضى" وعدم الاستقرار؟
هل هناك فعلياً شُح حاد للمواد المعيشية الأساسية؟ أم أن الاحتكار وانعدام الضمير والتهريب هي أسباب ندرة هذه المواد؟
من يُدير رحى الشأن السياسي اللبناني؟ هل هو متسق ومنسجم مع واقع لبنان (الذي لا ينتظر) ومتفاعل معه وجاد في صراعاته حول الحصص والأسماء وحقوق الطوائف ولديه بحبوحة النقاشات وترف الاجتماعات لشهور طويلة من تشكيل "حكومة" لا يستغرق إنجازها أقل من أسبوع؟!
إن ما يحصل على جغرافية الأرز منذ أكثر من سنة، وإلى حدود كتابة هذه الأسطر، بل ومنذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري" وسط بيروت في 14 فبراير/نيسان 2005، وما أعقبته من أحداث متتالية في المنطقة كلها (إقليمياً ودولياً)، ليس وليد "قوى أمر الواقع" وليس وليد "اللحظة والسنة". إن ما يحصل اليوم هو استكمال لمخططات الأمس، استكمال لما حصل ويحصل على جغرافيا الشرق الملتهبة منذ سنوات وفق مسطرة متسلسلة الخطط؛ (الخطة أ) و (الخطة ب)، وقد تكون هناك (خطة ج) وغيرها.
وهنا أستحضر من باب "التذكير" فقط:
كيف يفهم المواطن اللبناني، وهو الذي التصقت على شفتيه، جراء التكرار اللحظي، عبارة الشرر [إننا نموت يومياً]، تصريح مايك بومبيو (وزير الخارجية الأمريكي السابق) في مارس/آذار 2019 داعياً اللبنانيين بشكل صريح إلى مواجهة حزب الله أو تحمّل تبعات المجاعة؟!
إن النظام الحالي (نظام المحاصصة الطائفية) الذي أقرَّه اتفاق الطائف سنة 1989 لإنهاء الحرب الأهلية التي دامت 14 سنة، هو جزء من الأزمة، وليس جزءاً من الحل.
وبات من الضروري إحداث تغيير في بنية النظام السياسي اللبناني وتبني دستور جديد ديمقراطي تعددي يكفل الحق المشروع لكل اللبنانين بعيداً عن الانتماء السياسي والمذهبي/العقائدي، فمرحلة الانزلاق هذه حاسمة تحتاج من كل اللبنانيين الوقوف جنباً إلى جنب، بعيداً عن إيقاع سيمفونية التوافقات والاصطفافات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.