يقال عن صيف لبنان حارق لاهب، لكنّه بالنسبة إلى اللبنانيين شهر المجازر والجرائم المنظمة. ما بين 23 أغسطس/آب 2013 مجزرة تفجير النظام السوري لمسجدي التقوى والسلام في طرابلس شمال لبنان وصولاً لمجزرة العصر في 4 أغسطس/آب 2020 بتفجير مرفأ بيروت واستمراراً حتى 15 أغسطس/آب 2021 ومحرقة التليل في عكار، حزن على صفّ طويل من الشهداء والضحايا المحروقين، فيما بات ينتظر اللبنانيون أغسطس/آب القادم ليكونوا شهداء على إجرام منظومة القهر اللبناني بأمّها وأبيها.
وهذه السلطة الملطّخة بدماء الأبرياء على امتداد الوطن صارت سبباً للاكتئاب، وعنواناً للفشل، جوّعت البلد وأهله وأسقطت عنهم ورقة التوت الاجتماعية بنهب أموالهم من المصارف، فيما تستمر العصابة الحاكمة بالخروج على اللبنانيين للمحاضرة بالشرف والعفة والكرامة، فيما هي لا ترى في هذا الجحيم سوى حقيبة وزارية لصهر العهد أو لمرشح رئاسي حالم.
وفيما كانت البلاد تحصي ضحايا وشهداء مجزرة التليل، وأهاليهم يلملمون أشلاءهم الممزقة أو المتفحمة، كان الخطاب السياسي المتبادل في أسوأ تجلياته، منخرطاً في معركة تصفية حسابات وتقاذف المسؤوليات بين كتل التهريب على اختلاف طوائفها ومذاهبها على حساب مدخرات الشعب المسحوق، وهذا الخطاب أعاد للبنانيين شعارات الحرب الأهلية فيما تناسى أصحابه أنّ الناس كلّهم صاروا شهداء أحياء في عهد الخراب والإهمال.
دولياً وعلى وقع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بعد تسوية مع حركة طالبان، التي جابهتها الولايات المتحدة على مدار 20 عاماً، تشهد المنطقة تحولات استراتيجية. واشنطن اجتاحت أفغانستان بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 حرباً على "الإرهاب الإسلامي" كما زعمت، ثم ها هي أمريكا تجبر على ترك أفغانستان لطالبان "الإسلامية".
وهذا الصراع المرتبط بشرق آسيا، وله ذيوله الأكيدة في الشرق الأوسط، وتحديداً العراق، يستحيل إغفال تأثيره على مسار الاتفاق النووي الإيراني. وللانسحاب الأمريكي هذا أثر كبير على حلفاء واشنطن في المنطقة، فقد يشعرون باليتم والإحباط، ويعاد إنتاج الاستقطاب السني- الشيعي.
وتحرص الإدارة الأمريكية على إظهار مسألة الانسحاب من أفغانستان على أنها خطوة مرحلية ستحقّق المكاسب مستقبلاً؛ لأنّها ستوقع خصوم واشنطن هناك، أي الروس والصينيين والإيرانيين، في مآزق مختلفة، وستؤدي إلى نشوء تباينات فيما بينهم، على أسس عرقية أو دينية، أو لمصالح سياسية أو اقتصادية، لكن الانسحاب من أفغانستان يترجم رأياً واسعاً داخل الإدارة الأمريكية، يتبنّى نظرية "الحدِّ من دفع الأثمان" من خلال التورط في مستنقعات دموية عبر العالم، وهو موجود في الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حدّ سواء.
ولبنان المتأثر بكل مسارات المنطقة سياسياً واقتصادياً، صار في ضوء الحديث عن اقتراب موعد تشكيل الحكومة وإعلان الاتفاق بين عون وميقاتي ونشر الأجواء الإيجابية من الطرفين، حيث كان واضحاً تلازم المواقف بين حزب الله والسفيرة الأمريكية دوروثي شيا، وعليه سارعت السفيرة الأمريكية في تكثيف نشاطها باتجاه عون وميقاتي، لحثهما على ضرورة تشكيل الحكومة، والتعالي على الحسابات الظرفية والمصالح الحزبية الضيقة. واستبقت شيا لقاء عون وميقاتي، بتمرير موقف ضاغط حول ضرورة تشكيل الحكومة بشكل سريع.
وعليه لا يمكن فصل ما يجري في لبنان عمّا يجري في المنطقة، في ظل التعقيد المتعلق بمسار مفاوضات الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. ولا يمكن النظر إلى حلّ الأزمة اللبنانية من خارج السلة الدولية الكبرى.
وحركة دوروثي شيا الأخيرة معطوف عليها زيارة رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية وليم بيرنز إلى لبنان الأسبوع الفائت، كخطوة مفاجئة غير معلنة قادماً من إسرائيل، والتقى فيها قائد الجيش جوزيف عون والمدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، فيما تحمل هذه الزيارة أبعاداً لمسارات أمريكية، وهي التأكيد على الاستقرار في الجنوب اللبناني والتوقف عن إطلاق الصواريخ، في ظل الحديث عن استعداد إسرائيلي للانسحاب من مزارع شبعا وتفعيل ملف ترسيم الحدود، كما نوقشت أهمية ضبط الحدود ومنع التهريب، والتي تؤدي لتفاقم الأزمة الاجتماعية والمالية وتنعكس بالمحصلة على قدرة الأجهزة الأمنية التي أطلقت صرختها منذ أشهر.
وهذه الرسائل التي حملها ويليام بيرنز تمت مناقشتها بين قادة الأجهزة الأمنية في اجتماع مشترك؛ حيث اتفق على وضع خطة مشتركة بين الجيش والمخابرات وباقي الأجهزة الأمنية، الهدف منها وقف تخزين المحروقات، وعليه فإن الجيش كان قد بدأ فعلاً بمداهماته على مختلف المناطق لضبط المحروقات المخزّنة. وحدث ذلك بعد قرار سياسي بإجبار الشركات والمحطات على توزيع المخزون المتبقّي لديها على سعر صرف 3900. فبدأ الجيش بإجراءاته في كل المناطق، وكانت بداية العمليات في مناطق سنّية ومسيحية، وانتقلت فيما بعد إلى مناطق شيعية؛ حيث ضُبِطت أيضاً كميّات كبيرة من المحروقات المخزّنة، ووُجِّهت اتّهامات إلى مقرّبين من مسؤولين في حزب الله بتخزين هذه المحروقات.
بالتزامن، كان حزب الله يعلن، على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، عن وصول الوقود الإيراني إلى لبنان في تحدٍّ واضح وصريح للإدارة الدولية، وهذا المبحث أصلاً ناقشته السفيرة شيا مع عون وميقاتي، بتأكيدها الصريح والمعلن على عدم السماح بدخول النفط الإيراني إلى لبنان، بالإضافة إلى التأكيد على مؤشرات واشنطن لشكل الحكومة بالمعايير الأمريكية الواضحة، وآليات العمل فيها، والقول لرئيس الجمهورية بصوت مرتفع إن الوقت غير مناسب لإقالة حاكم مصرف لبنان، ولا بدّ من وقف السجال بالموضوع ومحاولة فرض هذا الشرط على أي رئيس حكومة مكلف.
وعون المفجوع بعهده وصهره يمارس كل ضغوطه على الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ويضع سقوفه التعجيزية، على الرغم من كل محاولات ماكينته الإعلامية لتعميم الأجواء الإيجابية، إلا أن الحقيقة المُرّة أن مطالب عون تزداد يومياً، وهذا ما شرحه منير الربيع منذ أيام بقوله إن عون قد يفضل عدم تشكيل حكومة لمجموعة أسباب، أهمها تحميل مسؤولية التعطيل للخصوم، وتحديداً نبيه بري ومعه رؤساء الحكومات السابقون، وكذلك تفجر العهد، واستمرار الانهيارات وتفاقم الأزمات. وهو لا بد أن يبرر عدم تشكيل الحكومة بتعطيل القوى السياسية المتآمرة عليه. ويعلم عون أن الحكومة لن تكون قادرة على تحقيق إنجازات، ولحظة إنقاذ البلد دولياً تلاشت، وبالتالي لا يمكن المخاطرة بالتشكيل مع نجيب ميقاتي.
وعليه، يمكن القول إن نجيب ميقاتي بين نارين: الأولى أنه حريص على توليد حكومته وتحقيق إنجازات سريعة لوقف الانهيار ومعالجة الأزمات المستفحلة، والتحضير للانتخابات المنتظرة محلياً وخارجياً، وهذه النار يشعلها ميشال عون بالتشبث بشروطه بكونها فرصته الأخيرة. فيما النار الثانية بدأ نجيب ميقاتي يتحسّسها في بيئته السنية؛ لأن الأجواء الإيجابية المتعلّقة بتشكيل حكومته التي يجري تعميمها من عون وميقاتي، دفعت بالرئيس سعد الحريري بإيفاد صديق مشترك، والقول إنه في حال شكّل حكومة بغير المعايير التي وضعها رؤساء الحكومات السابقون، وخضع لإملاءات وشروط ميشال عون، فإن كتلته ستحرمه من الغطاء السني ولن تعطي حكومته الثقة، وحينها لن تتأخر كتلة المستقبل بالاستقالة من البرلمان وفتح معركة ميثاقية في وجه الرئيسين عون والحريري.
وإلى تلك اللحظة، أعان الله لبنان واللبنانيين على لحظة انفجار اجتماعي ليس أقل اشتعالاً عن حرائق المرفأ والمسجدين والتليل في عكار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.