إن دخول طالبان للعاصمة كابول يعتبر الدخول الثاني لها للعاصمة، وذلك عقب انتصارها على القبائل والفصائل والمجاهدين العرب الذين انتصروا بدورهم على قوات الاتحاد السوفييتي، الذين نفذوا الاقتحام الأشهر للعاصمة وأعدموا فيه الرئيس الموالي للسوفييت "بابراك كارمال" على قارعة الطريق وسط دماء كثيرة مراقة في الشوارع، وهو ما كان مختلفاً تماماً عن الدخول الثاني لطالبان، إذ كان مشهد دخول العاصمة عقب الخروج الأمريكي يختلف، فلم نشهد إراقة دماء بل دخولاً سلساً بدون طلقات رصاص وسط ترحيب من قطاعات من الشعب الأفغاني، وتسليم قوات الجيش الأفغاني لنفسها طواعية لقوات طالبان.
كل هذا يتواضع أمام مشهد دخول قادة طالبان للقصر الرئاسي وبالتحديد قاعة الاجتماعات، حيث تراص جنود طالبان بأسلحتهم الخفيفة خلف قائدهم الذي بدأ يخاطب العالم من خلال قناة واحدة فضائية، وهي قناة الجزيرة، في إشارة لا تخطئها العين، وهي أن قطر الراعية لمحادثات السلام بين أمريكا وحركة طالبان، وأن المجتمعين في الدوحة يريدون أن يروا مشهداً يجعل من الانسحاب الأمريكي ودخول طالبان للعاصمة مقدمة لسلوك طالبان في التعامل مع العالم فيما بعد.
وهذا ما أفرزته باحترافية عالية جودةُ الصورة، حيث ظهر القائد الجالس ليوحي بأن حركته هي الفصيل الوحيد القادر على حكم أفغانستان، وقد كانت بداية الحديث يسبقها تلاوة آيات من القرآن الكريم تؤكد على نصر المؤمنين وهو ما يؤكد على ما تريده طالبان من تكوين إمارة إسلامية في البلاد.
طالبان جديدة؟
بدا واضحاً أننا أمام تنظيم مختلف هذه المرة، فلم يعد جنود طالبان هم الشعث الغبر الذين يوحون بأنهم قادمون من أضابير التاريخ، فهم مهندمون في لباسهم المحلي، والأكثر من ذلك التأكيد على الهوية القبلية من خلال الزي المميز لكل فصيل، وهكذا نستطيع أن نفهم المشهد بعيداً عن الصخب بأنه عملية تسليم وتسلم بلد جرت وقائعها تلفزيونياً وعلى الهواء مباشرة أمام العالم أجمع.
ما الذي حدث لحركة طالبان حتى تتغير وتكون أقل شراسة وحِدة؟ بل وتقبل بتسلم العاصمة دون قتال، وتحرص على عدم إطلاق الرصاص، بل وتتفاوض حول ذلك مع المحتل الأمريكي الذي ألحق بها الهزيمة الكبرى منذ أكثر من عشرين عاماً!
ما الذي حدث لـ"جند الله" كما وصفهم الكاتب المصري الكبير "فهمي هويدي"؟ هل يكون ذلك مقدمة لترتيبات إقليمية ودولية؟!
الخريطة الإقليمية
أفغانستان كانت دولة حبيسة، ناهيك عن حروب داخلية مستمرة منذ أكثر من أربعين عاماً، ولكن مع صعود طالبان مرة أخرى وسط التغيرات العالمية الجديدة، سيصبح موقع أفغانستان عاملاً مرجحاً أو حاسماً في التوازن العالمي والإقليمي، حيث يقلق هذا الصعود دول الجوار، وخاصة الكبار مثل الصين وروسيا، حيث تنظر الصين بعين القلق لما يجري حيث ترى في صعود طالبان مصدر قلق خوفاً من تأثير ذلك على مسلمي الإيغور الذين يحلمون بالاستقلال عن الصين من جهة، والتعامل المستقبلي مع أمريكا من جهة أخرى، ويعد صعود طالبان مصدر إلهام للإيغور يدعمه اتفاق مبهم بين طالبان وأمريكا لا يعرف عنه أي شيء حتى الآن، ولكن الصين تشعر ببعض الاطمئنان أيضاً لوجود حليفتها باكستان في المشهد الأفغاني وتتمتع بنفوذ واضح لدى طالبان، مما قد يجعل من فتح قنوات بين الصين وطالبان أمراً ميسوراً وسلساً.
أما روسيا فهي التي تعتبر أشد المتخوفين من عودة طالبان للحكم، لأن الجوار الملاصق لأفغانستان مع جمهوريات طاجيكستان وأوزبكستان وتركمنستان، يعد جواراً حرجاً لمنطقة هي "البطن الرخوة" للسياسة الروسية، حيث التنوع العرقي المشترك والدين المشترك والعداء المشترك لروسيا، وهذا يهدد التمدد الروسي سياسياً وعسكرياً، ناهيك عن أن ذلك يقوّي الدور التركي في مقابل الدور الروسي ويجعل من التمدد العسكري لموسكو في منطقة الشرق الأوسط محل شك مستقبلاً، انتظاراً لما ستسفر عنه الأوضاع في أفغانستان.
دول الجوار.. مَن الرابح ومن الخاسر؟
ويختلف موقف دول الجوار الإقليمي مثل باكستان وإيران وتركيا من صعود طالبان، حيث ترى باكستان وتركيا أن صعود طالبان سيقوي مواقفهما الاستراتيجية تجاه أعدائهما، حيث إن صعود طالبان يقوي التحالف الصيني الباكستاني في مواجهة الهند ويجعل من أزمة "كشمير" جرحاً دامياً باستمرار، ويذكر الهند بطبيعة الحركات الجهادية فيها، أما تركيا فترى في صعود طالبان فرصة تاريخية لتقوية نفوذها في منطقة القوقاز، ويحد من تمدد النفوذ الروسي المنافس لها في تلك المنطقة.
أما الخاسر الأكبر في ظني فهي إيران التي أعطاها التورط الأمريكي في أفغانستان وظهور داعش فرصة تاريخية للتمدد الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ولكن صعود طالبان السنية حتماً سيعطل، بل سيعمل على انكماش ذلك الدور إذا حدث صدام لن تمنعه تصريحات قادة طالبان عن التسامح بين مكونات الشعب الأفغاني ومنهم الهزارة الشيعة.
هل ما زالوا جند الله في المعركة الغلط؟
هنا يبدو أن "جند الله" أمامهم أوضاع استراتيجية جديدة يجب أن يكونوا متفهمين لطبيعتها، بل وعليهم أيضاً أن يحددوا أولوياتهم ومع من سيتعاملون، لأنهم ببساطة أصبحوا مجبرين على لعب دور في ترتيبات الأمن بمنطقة متشابكة ستؤثر حتماً على الأوضاع في الشرق الأوسط والعالم كله.
في كتابه الصادر عام 2001 إبان فترة حكم طالبان الأولى ظهر كتاب للكاتب المصري "فهمي هويدي" بعد رحلة قصيرة لأفغانستان على خلفية الوفد الذي ذهب لأفغانستان لثني طالبان عن هدم تمثال بوذا، وصف الكاتب أنصار الحركة بـ"جند الله" المؤمنين المتشددين الحالمين السنيين، ووصفهم بأنهم أزهقوا الباطل ولكنهم لم يحقوا الحق، وأنهم أنهوا حرباً أهلية ولكنهم لم يبنوا شيئاً ذا قيمة يشرف به الإسلام والمسلمون.
وبعد عشرين عاماً عادت طالبان مرة أخرى للحكم، ولكن تحت وقع كلمات أخرى مثل التسامح العرقي والديني وبناء الدولة، فهل حدث تغيير لـ"جند الله" أم هو تعديل تكتيكي للحيلولة دون التدخل الدولي مرة أخرى في الشأن الأفغاني؟ أم تعديل استراتيجي يمهد لمرحلة جديدة للعب دور في ترتيبات الأمن في العالم لصالح إحدى القوى العالمية؟
حتى يثبت "جند الله" من طالبان أنهم تغيروا أو حدث لهم تعديلات جوهرية في التفكير، لن يبقى أمام العالم إلا الانتظار لشهور وربما لسنوات حتى تتضح سيناريوهات ما بعد سقوط كابول في يد طالبان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.