حالات من التهميش والحرمان والإقصاء السياسي يعيشها كثير من الناشطين والمنتقدين والمعارضين السياسيين في الأردن، رغم إعلان المملكة عن تأسيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وذلك بإرادة ملكية من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
وجاءت المبادرة باعتبارها رغبة من الملك لفتح الأبواب الموصدة أمام عملية الإصلاح بالأردن، وكسر حالة الجمود في الواقع السياسي الأردني، ولمواجهة العواصف الداخلية والخارجية التي تعصف بالمملكة والتي كان آخرها ما عُرف بـ"قضية الفتنة".
التوجهات السياسية الجديدة وفق رغبة وإرادة ملكيتين في تغيير النهج السياسي العام، لم تلقَ قبولاً وترحيباً كبيراً من قِبل فئات سياسية وشعبية، بل جوبهت بانتقادات واسعة، وتشكيك في مدى جدية هذه المساعي.
واعتبر المنتقدون للمبادرة أن هذه المساعي ترافقها قبضة أمنية حادة ويد طولى على كل معارض أو منتقد أو ناشط سياسي، خاصة من فئة الإسلاميين التي تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي وجذري في بنية المنظومة السياسية.
فقبل ما يزيد على 4 أشهر، تحدَّث العاهل الأردني عن ضرورة الإصلاح، مؤكداً ضرورة تعديل قانونَي الانتخاب والأحزاب، لكن الوضع لم يتغير كثيراً وبقي على حاله، سواء على مستوى المنظومة السياسية والأمنية أو على مستوى الأدوار المنوطة بكل طرف منها، للوصول إلى إصلاح حقيقي وجذري على مستوى الدولة الأردنية.
حرمان من الحقوق
يُعاني العديد من الناشطين في المجال السياسي الأردني من إشكاليات الحرمان الوظيفي والمستقبل المظلم لهم ولذويهم، من قِبل الأجهزة الأمنية وعلى رأسها المخابرات الأردنية، على خلفية مشاركتهم في الأنشطة السياسية والاجتماعية على مستوى الأحزاب والنقابات والجمعيات، الأمر الذي يجعلهم يفقدون أدنى مستوى من حقوقهم المدنية والاجتماعية.
ووصل حد الحرمان والمعاناة إلى معاقبة أبناء الناشطين وأقاربهم من الدرجة الأولى، على خلفية النشاطات السياسية والاجتماعية، من قِبل الأجهزة الأمنية الأردنية، وعلى رأسها المخابرات التي تسعى إلى ممارسة الضغوطات وفرض العقوبات على هؤلاء الناشطين.
وتتمثل معاقبة الناشطين وأبنائهم وأقاربهم في حرمانهم من الحصول على وظيفة في سلك القطاعات المدنية والأمنية والعسكرية، إذ لا يتم منحهم شهادات حسن سير وسلوك حتى وإن تمكنوا من الحصول على وظيفة، لدرجة أنه يتم إخطار الجهات والمؤسسات من خارج المنظومة الرسمية بفصل من يعملون معها، على خلفية نشاطهم السياسي.
محمود الزيناتي، ناشط سياسي أردني من أصول فلسطينية من سكان مدينة إربد، كان ينشط في دعم القضية الفلسطينية سابقاً وتحديداً في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في عمّان وإربد، إذ من المعروف أنّ الزيناتي كان بصفوف حركة فتح في فترة نهاية السبعينيات والثمانينيات قبل أن ينفصل عنها في منتصف الثمانينيات، ليقود حراكاً سياسياً بمفرده ضد حالة التطبيع السياسي الذي أقامته الأردن مع إسرائيل وتمخض عن عقد اتفاقية وادي عربة.
تم توقيف الزيناتي واعتقاله من قِبل المخابرات الأردنية، على خلفية نشاطاته المناوئة لسياسة الدولة الأردنية وتوقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل، حيث تأثر بالحالة الإسلامية الصاعدة التي كانت تقودها في تلك الفترة جماعة الإخوان ضد اتفاقية السلام، التي اعتبروها شكلاً من أشكال التطبيع السياسي المرفوض.
ولم يكتفِ الزيناتي عند هذا الحد؛ بل عمد إلى المشاركة في الأنشطة الاجتماعية بالمخيمات الفلسطينية في الأردن وعلى رأسها مخيم البقعة ومخيم إربد، حيث كان يقوم بتوزيع المنشورات والبيانات مع مجموعة كان يقودها، ليصنف في تلك الفترة ضمن الناشطين السياسيين المعارضين لسياسات وتوجهات الدولة الأردنية، كما قام الزيناتي بقيادة فرقة أشبال الكشافة في إربد، ويعقد لقاءات وملتقيات اجتماعية للأشبال وفئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و23 عاماً.
اتجه الزيناتي لدى تفجّر الربيع العربي عام 2011، إلى المشاركة في المؤتمرات والندوات المختصة بدعم وتحليل الربيع العربي، وشارك في عدة أوراق عمل بالقاهرة وإسطنبول بدعوة من العديد من الجهات التي تحفّظ الزيناتي على ذكرها، كان منها ما يتعلق بواقع الأزمة السورية.
ويسرد الزيناتي قصته متحدثاً لـ"عربي بوست" عن حالة التضييق والحرمان التي تعرض لها والتي تمثلت في منعه من السفر لأكثر من ست سنوات، فقد تمّ منعه من السفر منذ عام 2015، وتم التحفظ على جوازه من دائرة المخابرات، ومصادرة هاتفه الذي يحمل عليه كل جهات الاتصال.
ووصف المتحدث الأمر بالخرق الواضح لمبادئ الحريات العامة في الأردن وانتهاك لخصوصيته، مشدداً على أنه لم يرتكب أي خرق قانوني بحق دولته، كما أن نشاطاته لا تشكل تهديداً للأمن، بل تدخَّل في إطار العمل والنشاط السياسي الذي لا يميل أو ينحاز إلى جهة على حساب أخرى.
ويشير الزيناتي إلى أن السلطات الأردنية لم تكتفِ بمنعه من السفر والتحفظ على جوازه، بل قامت بمعاقبة ابنيه محمد وعزالدين بحرمانهما من السفر أيضاً والتقدّم لأي عمل في دول الخليج بعد تخرجهما في كلية الهندسة الكهربائية والمدنية بمعدلات مرتفعة، إلا أن سياسة العقاب الجماعي، بحسب ما يؤكده الزيناتي، لم تطله بمفرده؛ بل تعدته إلى ابنيه ليتم حرمانهما من أبسط حقوقهما المشروعة، المتمثلة في حصولهما على عمل بالداخل الأردني أو في الخارج، ورفض السلطات منحهما شهادة حسن سير وسلوك.
كما تدخلت السلطات، بحسب تأكيدات الزيناتي، في سفر أبنائه للخارج، وذلك بمنع ابنه محمد من الحصول على تأشيرة من السفارة الأمريكية ومنعه من السفر لغرض إكمال الدراسة في الهندسة، وهذا بحسب تعبير الزيناتي يشكل تجاوزاً للقانون وتعدياً على حريات الأشخاص، خاصة أن أبناءه لم يُشاركوا في أي نشاطات سياسية أو اجتماعية لا في المدرسة ولا في الجامعة.
ويقول المتحدث إنه كان يمنع أبناءه من المشاركة في أي نشاطات بالجامعة؛ مخافة أن يلقوا مصير والدهم، إلا أن ذلك لم يشفع لهم، إذ طالتهم سياسة الحرمان والتهميش في أدنى الحقوق التي ينبغي أن يحصلوا عليها.
ناشط أردني آخر ويدعى محمد شديفات من مدينة المفرق شمال الأردن، كان قد شارك في الحراكات الشعبية الشبابية وعلى رأسها اعتصامات ومظاهرات الدوار الرابع بالقرب من مبنى رئاسة الوزراء، والتي كانت تطالب بتغييرات جذرية في المنظومة السياسية بالأردن.
يتحدث شديفات عن تجربته المتواضعة في العمل السياسي والتي لا ينتمي فيها إلى حزب أو تيار أو تنظيم سياسي، إلا بدافع غيرته وحبه لوطنه، فلم يسبق أن عمِل في إطاره المنظم، لكنّ عمله الإعلامي ولَّد لديه حساً سياسياً دفعه إلى الانخراط مع الهبّات والموجات الشعبية المتقطعة التي كان الحراك الشبابي الأردني ينظمها من حين لآخر.
لكن الأمر لم يدم طويلاً لمحمد، فقد تمّ استدعاؤه أكثر من مرة إلى دائرة المخابرات التي أبلغته بدورها أن يكفّ عن نشاطاته ومشاركته في الاعتصامات السياسية بالدوار الرابع، لكنه رفض الاستجابة لطلبهم؛ مما دفعهم إلى معاقبته بالمطالبة بفصله من جهة العمل التي كان يعمل بها صحفياً ميدانياً براتب متواضع لا يتجاوز 300 دينار، الأمر الذي أجبره على العمل بائعاً في أحد محلات الخضراوات والفواكه بمدينة المفرق الواقعة شمال البلاد.
التضييق على الأسرة
الذي يظهر أن مبدأ التدخل من قِبل السلطات الأردنية يذهب إلى أبعد من ذلك، فقد حرم العديد من الأشخاص من الحصول على مِنح ومكرمات ملكية، بسبب نشاطات آبائهم وأقاربهم السياسية؛ وذلك لمعاقبة وابتزاز هؤلاء الناشطين عبر أقاربهم وذويهم وهو نوع من الضغوطات الشديدة عليهم، إلا أن هذا الأمر يبقى في إطار التصفية السياسية، فليس له أي مبرر أو حجة قانونية على الإطلاق، خاصة أنه يعاقب أشخاصاً ليست لهم علاقة أو ارتباط بتصرفات الآخرين.
حامد العياصرة من مدينة جرش، شاب يبلغ من العمر 24 عاماً أنهى دراسة الطب البشري بدولة أوكرانيا، ولدى انتهائه من الدراسة عاد إلى أرض الوطن، وحصل على منحة ملكية تغطي سَنة الامتياز في المدينة الطبية بالعاصمة الأردنية عمّان، إلا أنّه فوجئ بأن المنحة سُحبت منه ورُفض التصديق على إجراءات الحصول عليها بعد أن تدخلت المخابرات الأردنية.
ولدى سؤاله عن السبب رفضوا أن يعطوه مبرراً مقنعاً، لكنّه بعد سؤال معارفه الذين يعمل أحدهم ضابطاً في الأمن العام، أخبره بأن السبب هو انتماء أحد أقاربه لجماعة الإخوان المسلمين والذي يعد قيادياً مهماً في الجماعة.
وتساءل المتحدث: "لماذا تتم معاقبتي على تصرفات وسلوكيات وانتماء الآخرين؟! كل إنسان مسؤول عن تصرفاته وأفعاله، ولا يملك أي طرفٍ سؤاله عن تصرفات الآخرين حتى لو كانوا أقرب المقربين له"، مؤكداً أن هذا الإجراء مستغرب ومستهجن بالوقت نفسه، وأنه ليست له علاقة بانتماء قريبه الذي ينتمي للجماعة منذ أكثر من عشرين عاماً.
طالت من كانوا في سلك الدولة
ضحايا التعبير عن الرأي في الأردن باتوا يعانون من واقع التهميش والإقصاء من الحياة السياسية والمدنية، على الرغم من أن الدستور الأردني قد كفل حرية الرأي والتعبير، وذلك في المادة الـ15 منه التي تضمن حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام ضمن حدود القانون.
وفي المادة الـ7، يعتبر الدستور الأردني أن كل اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليها القانون.
لكن هذه المواد في الدستور تتحطم على واقع الحياة السياسية، فلا مكان لها إلا في إطار المؤتمرات والندوات والمحافل الاجتماعية والثقافية.
وهذا ما تُرجم فعلياً مع حسام العبداللات، الذي عمِل مستشاراً وخبيراً مالياً لوزير التنمية الاجتماعية، كما عمِل في رئاسة الوزراء مستشاراً بإحدى دوائرها، حيث كان مسؤولاً حكومياً رفيع المستوى في مكتب رئيس الوزراء الأردني، وعُرف عنه انتقاده للفساد والمحسوبية في أوساط السياسيين الأردنيين، الأمر الذي سبب له مشكلات كبيرة.
اتهمته محكمة التمييز بعد قرار لمحكمة أمن الدولة الأردنية أدانت فيه العبداللات، واتهمته بتقويض نظام الحكم والتحريض على مناهضته على خلفية اتهامه قادة الجيش والمخابرات وأعضاء مجلس النواب والحكومة بالفساد والابتزاز، من خلال برنامج حمل اسم "كشف المستور"، الذي كان يقدمه على قناة "أردن المستقبل"، والذي سعى بحسب ما اعتبرته المحكمة، إلى ترويج أفكار المتهم بالتحريض على نظام الحكم.
ضريبة العبدلات كانت كبيرة، فقد تعرَّض لعدة اعتداءات وأحكام صادرة بحقه، كان أبرزها تعرضه للضرب من قِبل أنصار رئيس الوزراء الأسبق عبدالرؤوف الروابدة، بعد إصراره على الاعتصام أمام منزل الروابدة الكائن في منطقة "أبو نصير".
اضطر العبدلات بعد نحو 24 عاماً من العمل في الدوائر الرسمية الأردنية إلى مغادرة الأراضي الأردنية لاجئاً إلى بريطانيا، لكنه لم يَسلم من الغضب السياسي، لتتعرض عائلته هي الأخرى لسلسلة من المضايقات، أبرزها حرمان ابنته من استخراج بطاقة الأحوال المدنية لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، تحت حجة أنه لابد من ح صولها على موافقة أمنية قبل استخراجها؛ الأمر الذي أدى إلى تأخرها عن أداء امتحان التوجيهي "الثانوية العامة"، كما عمدت المخابرات إلى احتجاز ابنه إبراهيم بعد عودته من السفر من تركيا في مطار الملكة علياء، إضافة إلى احتجاز جواز سفر زوجته لدى عودتها من تركيا.
وأياً كان الأمر فإن سلسلة التهميش والعقوبات وحالات الحرمان السياسي التي تستهدف بشكل متزايد، النشطاء السياسيين ومناهضي الفساد بتهم تنتهك حقهم في حرية التعبير، لاتزال مستمرة وتزداد وتيرتها، إذ تتراوح التهم الموجهة إلى الناشطين بين "التطاول على الذات الملكية" والتهمة الغامضة بـ"تقويض نظام الحكم السياسي في الأردن"، مروراً بالقدح والذم على الإنترنت، كأن الحال يقول إن الرموز السياسية فوق القانون وتمتلك العصمة والحصانة من المساءلة والنقد تحت أي ظرف من الظروف.