الأيام القليلة الماضية شهدت عدداً من التطورات المهمة التي تخص العلاقات بين المغرب والجزائر، ففي خطاب العرش خصَّص الملك محمد السادس حيزاً كبيراً للحديث عن أهمية وضرورة تطوير العلاقات المغربية الجزائرية، وإنهاء حالة الجمود والحرب الباردة، وأطلق نداء لفتح الحدود، وتدشين حوار بين الطرفين على قاعدة التكتل في المنطقة لتحقيق تنمية مندمجة ومتكاملة.
المغرب سبق أن دعا لفتح الحدود بين البلدين سنة 2008، ودعا لإحداث آلية للحوار الثنائي سنة 2018، ولم يتردد في الإقناع بأن مصلحة البلدين العليا تقتضي تطوير العلاقات بينهما، ومواجهة التحديات الأمنية بشكل مشترك، وتقوية الإطار المغاربي والرهان على التكتل الإقليمي من أجل كسب رهان التنمية.
الجزائر كانت تعترض على هذه الدعوة بطرح جملة شروط، منها أن يقدم المغرب اعتذاراً عن اتهامه للجزائر بالضلوع في أحداث أطلس إسني (أحداث إرهابية بفندق بمراكش)، ومنها اتهام المغرب بإغراق الشرق الجزائري بالمخدرات، وبالسعي لزعزعة استقرار البلاد والإضرار بها اقتصادياً.
المثير في خطاب الملك محمد السادس للعرش، أنه -وعلى غير العادة- أتى على جميع حجج الجزائر وناقشها واحدة وحدة، وأثبت أنها حجج غير مقنعة بالمطلق، وأن بعضها -إن كانت تصلح للدفع بها في العهد السابق- فهي لا تصلح في العهد الحالي، فبيَّنَ ملكُ المغرب أن قضية أحداث أطلس إسني كانت في عهد سابق، ولم يكن أحد من حكام الجزائر والمغرب حالياً مسؤولاً عن هذه الفترة، ما يعني سقوط حجة الاعتذار، كما قدم الضمانات الكافية بأن المغرب لن يكون أبداً ولا في أي وقت من الأوقات عامل زعزعة لاستقرار الجزائر، فضلاً على أن يأتي منه شرٌّ يضر بالجزائر من جهة حدوده.
بل إن الملك ذهب أكثر من ذلك، لتهدئة الجانب الجزائري، لاسيما بعد تلويح المغرب عبر ممثله الدائم في الأمم المتحدة بورقة دعم "حق القبائل في تقرير المصير"، فأكد أن المناكفات الإعلامية والدبلوماسية التي وقعت بين البلدين في المحافل الدولية تضر بالبلدين وتسيء إليهما، وهو ما يؤكد أن الممثل الدائم المغربي في الأمم المتحدة حين أثار قضية "حق القبائل في تقرير المصير" إنما فعل ذلك في سياق الجواب عن استفزاز جزائري، لا في سياق إثبات تطور ما في الموقف المغربي الرسمي بهذا الخصوص.
عدد من المراقبين لاحظوا أن ملك المغرب تحاشى الحديث عن قضية النزاع حول الصحراء، وأنه بدلاً من ذلك استعمل عبارة تحمل أكثر من تأويل، وذلك حين تحدث عن الأخوة بين المغرب والجزائر، وأن أي دخيل لا يمكن أن يعكر صفوها.
البعض فهم من خطاب الملك الإشارة إلى جبهة البوليساريو، وأن قضية الصحراء تجد حلها في حوار ثنائي بين المغرب والجزائر، وأن جبهة البوليساريو هي مجرد صنيعة، وليست هي الطرف المباشر في النزاع، فيما فهم البعض الآخر أن المقصود تهدئة جانب الجزائر المتخوفة من التقارب المغربي الإسرائيلي، وأن الملك أراد توجيه رسالة مضمونها أن إنهاء الخلاف بين المغرب والجزائر يعني نهاية التقارب مع هذا الكيان الدخيل.
كان المفترض أن تأخذ هذه الدعوة من جانب حكام الجزائر وقتاً كافياً لدراسة أبعادها وخلفياتها، لاسيما أنها تأتي في سياق محلي وإقليمي ودولي ملتهب، يهدد أمن واستقرار الجزائر أكثر مما يهدد المغرب. فالجزائر تمر بظروف اقتصادية صعبة، لا تخفى تداعياتها الاجتماعية، وهي حتى الساعة لم تنهِ الحراك الشعبي وأسبابه، لاسيما مع جائحة كورونا، وتصاعد موجة متحور دلتا، التي عجزت فيها المصالح الصحية الجزائرية أن تقدم عرضاً صحياً مقنعاً، إذ يسود شك كبير في الأرقام التي تدلي بها هذه المصالح، فضلاً على شيوع حالة سخرية عارمة من تصريحات القيادة السياسية بشأن الوفيات وعلاقتها بفيروس كورونا، وخطابات التطمين بشأن توفر مادة الأوكسجين بالمستشفيات الجزائرية.
المعطيات المرتبطة بنزاع الصحراء نفسها تجعل الجزائر في ركن ضيق، فالمغرب اكتسب اعترافاً أمريكاً بسيادته على الصحراء، وتفوقت دبلوماسيته في إفريقيا، وحظيت المناطق الجنوبية باستقطاب تمثيليات دبلوماسية لعدد من الدول الأوربية والإفريقية والآسيوية والعربية، هذا فضلاً عن نجاح المغرب في إنهاء المناورات الجيوستراتيجية التي كانت تقوم بها البوليساريو على الأرض لتهديد التجارة الدولية من المغرب إلى العمق الإفريقي (تأمين معبر الكركرات).
المعطيات الإقليمية تعقد الصورة أكثر، فالجزائر التي كانت تجعل من تونس درعاً مهماً لمنظومة أمنها الإقليمي، وتعتبر نجاح التسوية السياسية في ليبيا مفتاحاً مهما لاستقرارها، أصبحت اليوم تواجه تحديات جمة، بعد الأزمة السياسية العاصفة التي تعرفها تونس، بعد تعطيل الرئيس للمؤسسات الديمقراطية، وإشارة البعض بأصابع الاتهام إلى قوى إقليمية عربية بتنسيق مع فرنسا في دعم الانقلاب على المؤسسات، وهي الآن -أي الجزائر- باتت على مرمى من التهديد الذي كان يملك في ثناياه ورقة الجنرال خليفة حفتر، فصار يمتلك أيضاً ورقة أخرى في الجوار الجزائري (قيس سعيد).
الرد الجزائري لم يتأخر كثيراً، ففي لقاء صحفي بثه التلفزيون الجزائري رفض الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون دعوة المغرب، وقال إن المغرب لم يقدم توضيحاً على الطلب الذي قدّمته الجزائر للمغرب، بخصوص مذكرة عمر هلال، ممثل المغرب الدائم بالأمم المتحدة، وإن الجزائر كانت ستمضي أبعد من خطوة سحب السفير، وأي دعوة لفتح الحدود أو لتطوير العلاقات مع الجزائر لن يتم النظر إليها من طرف السلطة الجزائرية بشكل إيجابي ما لم يتم تقديم توضيح رسمي.
الرد الجزائري هذه المرة لم يستعمل الحجج القديمة، واكتفى بحجة واحدة جديدة، هي تقديم توضيح رسمي بخصوص موقف المغرب من دعم "حق القبائل في تقرير المصير".
عدد من النخب السياسية بالجزائر أصيب بالإحباط من خطاب الرئيس تبون، لاسيما أن المغرب استبق هذه القضية ووضعها في سياق السجال وردود الفعل، لا في سياق موقف رسمي، وتحدَّث بلغة أخوية لقيت استحساناً من لدن العديد من النخب السياسية والإعلامية والثقافية بالجزائر.
المغرب في تفاعله مع ردّ الرئيس تبون لم يتصرف بمنطق انفعالي، بل أصدر الملك تعليمات لوزير الداخلية والخارجية للتعبير للسلطات الجزائرية عن رغبة المغرب في مساعدة الجزائر لإخماد الحرائق التي نشبت في منطقة القبائل والمناطق المتاخمة لها بشرق الجزائر، وأنه في انتظار الموافقة الجزائرية، فقد أمر بتعبئة طائرتين من نوع كنادير، المتخصصة في إطفاء الحرائق للقيام بهذه المهمة، غير أن سلطات الجزائر لم تُبدِ أي تعليق لا قبولاً ولا رفضاً، وفضّلت أن تخاطب الأوروبيين وتُبرم عقداً تجارياً مع أوروبا لتأجير بعض الطائرات لهذا الخصوص.
ملك المغرب مرة ثالثة، ورغم عدم التفات السلطات الجزائرية لعرض المساعدة المغربية، أرسل برقية تعزية للرئيس عبدالمجيد تبون في ضحايا الحرائق، معلناً عميق التضامن مع الجزائر في هذه الأحداث الأليمة.
هذه المواقف اللينة من جهة المغرب والرافضة من جهة الجزائر تكشف حالة من العناد من قبل الرئيس الجزائري الذي لا يوجد أي تفسير له، سوى فقدان الجزائر لمروحة البدائل والخيارات، وخوفها من أن تفقد الخيار التقليدي في مواجهتها لكل التحديات، أي خيار الاستثمار في وجود عدو خارجي متربص يهدف لزعزعة أمن الجزائر واستقرارها، فقد تردد أكثر من مرة في خطاب الرئيس تبون هذا الخطر الخارجي، وأشار أكثر من مرة إلى أن هذا العدو والخطر يوجد بالجوار، وكانت اللغة أكثر وضوحاً في خطابات القيادات العسكرية الجزائرية، بل حتى في الحرائق التي عمّت مناطق في الشرق والشمال الجزائري، لا تزال أطروحة الأيادي الخارجية هي السائدة.
النخب في الجزائر تدرك أن المغرب خطا خطوات بعيدة في مجال التنمية السياسية والاقتصادية، وأن ديناميته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتنموية تخطت الوتيرة التي تتحرك بها الجزائر، وثمة تخوف كبير من أن يكون فتح الحدود سبباً في تحرك الوعي المقارن، فالنخب الحاكمة في الجزائر لا يمكن أن تنسى أن فترة الشاذلي بن جديد التي تحسنت فيها العلاقات المغربية الجزائرية، كانت سبباً في ثورة الخبز بالجزائر سنة 1988، وأن صورة المغرب في وعي الجزائريين هي التي دفعت بقوة نحو احتقان اجتماعي وثورة ديمقراطية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.
ثمة تقدير يرى أن نخب الحكم في الجزائر عاجزة اليوم عن الدخول في أي علاقات إيجابية مع المغرب، فالبراديغم السياسي الذي تؤمن به لا يزال يحتفظ بصراع بومدين والحسن الثاني رحمهما الله، وأن إصلاح العلاقات مع المغرب لن يكون المستفيد منه سوى الرباط، وأنه سيتسبب في تثوير الوعي السياسي الجزائري ضد حكم العسكر، لكن في الجانب المقابل فإن عدم إصلاح هذه العلاقات يعني عزلة الجزائر في مواجهة التحديات الإقليمية مع أن جارها في الغرب (المغرب) يتقاسم معها هذه المخاطر، ويهمه أن يشارك مع الجزائر في مواجهتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.