تضمن تقرير الأونروا الأول لعام 1950 رقماً إجمالياً لعدد الفلسطينيين الذين هُجروا بقوة المجازر الصهيونية من قراهم ومدنهم عام 1948؛ وليبقوا في الداخل الفلسطيني الذي أنشئت عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولأسباب سياسية لم تتضمن تقارير الأونروا بعد تقريرها الأول أي إشارة إلى تلك الفئة المهجرة قسراً، وتمّ نقل صلاحية معالجة قضايا المهجرين من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى دولة الاحتلال في عام 1952، وقد كان الهدف الجوهري من تلك الخطوة طمس قضية المهجرين في الداخل.
معاناة مركّبة
اللافت أنه بعد سيطرة العصابات الصهيونية على أملاك اللاجئين وأراضيهم، من خلال إصدار ما يسمى قانون الغائبين في 20/3/1950، أصبح يطلق على الفئة المشار إليها من المهجرين مصطلح "الحاضرين الغائبين"، وهم بالطبع يقطنون في وطنهم، لكنهم لا يسكنون قراهم ومدنهم الأصلية، وصودرت أملاكهم وأراضيهم، وبلغ عدد هؤلاء في عام 1950 حوالي 46 ألف لاجئ فلسطيني وفق إحصاءات "الأونروا"، وكانوا يشكلون آنذاك 25% من إجمالي فلسطينيي الداخل آنذاك؛ وقد شرّد هؤلاء بفعل ارتكاب العصابات الصهيونية المجازر من 44 قرية فلسطينية في عام 1948.
وبالإضافة إلى مصطلح الغائب الحاضر يطلق عليهم صفة نازحي الداخل، وهذا المصطلح ينطبق أيضاً على أبنائهم وأحفادهم. وبطبيعة الحال لا يسمح للغائبين الحاضرين بالعيش في منازلهم التي طردوا منها، حتى وإن كانوا يعيشون في المنطقة نفسها وبحوزتهم عقد ملكية يثبت أنهم أصحاب تلك المنازل والأراضي التي طردوا منها. وتعتبر دولة الاحتلال منازل وأراضي الحاضرين الغائبين لم تعد ممتلكاتهم، بحجة أنهم تركوها، حتى وإن كانوا لم ينووا تركها قبل عشرات السنين إلا لعدة أيام خوفاً من المجازر المرتكبة بحق أهالي قرى ومدن فلسطينية أخرى.
تركز الحاضرون الغائبون الفلسطينيون في منطقة الجليل الفلسطيني، وأقلية في وسط الداخل الفلسطيني والجنوب، وهؤلاء يعانون ظلماً مركباً، فمن جهة هم جزء من فلسطينيي الداخل الذين يواجهون تمييزاً عنصرياً إسرائيلياً شكل نموذجاً استثنائياً في التاريخ الإنساني المعاصر، ومن جهة أخرى هم مهجرون يعانون عدم القدرة بالعودة إلى قرية أو مدينة الأصل التي طردوا منها عام النكبة.
وتفاقمت قضية اللاجئين الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني بفعل الزيادة الطبيعية بينهم وارتفاع عددهم، فمن أصل مجموع فلسطينيي الداخل الذي وصل إلى نحو مليوني فلسطيني خلال منتصف العام الحالي 2021، حسب الجهاز الإحصائي الإسرائيلي، ثمة 500 ألف هُم من مهجّري الداخل وذريتهم، وهؤلاء غير قادرين على العودة إلى قراهم ومدنهم في وقت صادر الجيش الإسرائيلي المزيد من الأراضي المتبقية بحوزة الفلسطينيين، حيث تمت مصادرة 98% من الأراضي ولم يتبقّ بحوزة أصحاب الأرض من العرب الفلسطينيين سوى 2%، على الرغم من أنهم يشكلون أكثر من 20% من إجمالي السكان.
الجغرافية التهويدية القسرية
ينتشر المهجّرون الفلسطينيون جغرافياً على معظم التجمعات السكانية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، فمن بين 69 قرية فلسطينية بقيت قائمة بعد النكبة سنجد 47 قرية استوعبت مهجرين بداخلها إضافة إلى اللد ويافا، كما يشكل المهجرون في عدد من القرى بخاصة في الجليل الغالبية السكانية بالإضافة إلى انتشارهم في المدن الفلسطينية الخاصة والمختلطة كالناصرة وحيفا.
وثمة عدد قليل من المهجرين قام ببناء تجمعات سكانية خارج نطاق قراهم الأصلية، والمثال الأبرز على ذلك هو قرية عين حوض في قضاء مدينة حيفا على الساحل الفلسطيني الجميل، ففيما تحولت البيوت الأصلية للسكان في عين حوض إلى بيوت للفنانين ورجال الأدب من اليهود، قام المهجرون من هذه القرية ببناء بيوتهم الجديدة على بعد مئات الأمتار من قريتهم الأصلية، كعائلة أبي الهيجاء، من دون تراخيص لعلمهم المسبق بأن دولة الاحتلال لن تمنحهم إياها. وكذلك الأمر لتجمع "المنصورة" في منطقة المثلث، وتجمعات بدوية في الشمال والجنوب.
وعموماً فإن معظم المهجرين موجودون في شمال فلسطين المحتلة حيث قراهم الأصلية التي هجروا منها، إلا أنه من أصل 162 قرية هُجر سكانها كلياً في منطقة الجليل والشمال الفلسطيني فقد بقي المهجرون في 44 قرية، ومنها 11 قرية ممن بقي أغلب سكانها.
وللضغط على اللاجئين في الداخل الفلسطيني وكذلك فلسطينيو الداخل بشكل عام سعت دولة الاستعمار القائمة على الفصل العنصري إلى إصدار عشرات القوانين الجائرة لمصادرة ما تبقى من أراضي الفلسطينيين، كما هدمت منذ عام 1948 وحتى العام 2016 أكثر من 15 ألف منزل لفلسطينيي الداخل بحجج أمنية، فضلاً عما يسمونه "التطوير" في منطقتي النقب والجليل؛ بغرض محاصرة الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة.
واللافت أن إسرائيل سيطرت على أراضي وممتلكات المهجرين واللاجئين استناداً إلى قوانين الطوارئ البريطانية الانتدابية، وأنظمة الطوارئ في شأن أملاك الغائبين لعام 1948، وقانون أملاك الغائبين لعام 1950، وقانون استملاك الأراضي لعام 1953، وكان الأخطر نقل صلاحية معالجة قضايا المهجرين من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى الحكومة الإسرائيلية في عام 1952، حيث حققت من وراء هذه الخطوة هدفها الرئيسي المتمثل في طمس قضية المهجرين في الداخل الفلسطيني، حيث يساهم التدخل الدولي الإنساني في معالجة قضية المهجرين وفي استمرار تداولها في المحافل الدولية، ومن شأن ذلك دفع المهجرين إلى العودة إلى قراهم التي طردوا منها بقوة المجازر الصهيونية. وتبعاً للمعاناة المركبة التي يواجهها اللاجئون الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني، لا بد من العمل المكثف بغية إعادة هذا الملف إلى الأمم المتحدة، وبخاصة إلى الأونروا التي كانت صاحبة الصلاحية قبل عام 1952، وقد يمهد ذلك الطريقَ لعودة اللاجئين إلى قراهم وديارهم التي اقتلعوا منها بقوة المجازر الصهيونية في عام 1948 وبعده.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.