لم يكن صعود الوطنية الفلسطينية، بمعنى الهوية والكيانية والسياسية سهلاً، إذ اكتنف ذلك صعوبات وتحديات وتعقيدات كبيرة، بل إن الوطنية الفلسطينية تشكّلت في خضم كل ذلك. فهي مثلا لم تأتِ فقط كردّة فعل على النكبة والتشرد (1948)، أو على قيام الكيان الإسرائيلي، والحرمان من الوطن، وافتقاد الفلسطينيين للوحدة المجتمعية، وإنما أتت كردة فعل أيضاً على السياسات التي انتهجها إزاءهم النظام الرسمي العربي، والمتمثلة في طمس وجودهم الخاص، وتهميشهم سياسياً واجتماعياً، وعدم تمكينهم من إقامة كيان لهم في باقي أراضيهم (الضفة والقطاع)، وإحلال اللاجئين منهم في مكانة المقيم المؤقت، فلا هم مواطنون، ولا هم مقيمون طبيعيون؛ بحيث تضافر في تاريخ الفلسطينيين الحرمان من الوطن، مع الحرمان من المواطنة والحقوق والهوية المستقلة.
المهم أن الهوية الوطنية للفلسطينيين أخذت بالتشكّل في مناخ شائك ومعقد ومشوّه، ولكن في السياق ذاته لصعود الهويات الوطنية، وقيام الدول العربية الأمنية والقُطرية، وليس الدولة العربية الواحدة، المتخيلة أو المفترضة.
في تلك المناخات أتت حركة "فتح"، التي التقطت هذه الحالة، وعملت على إبراز هوية الفلسطينيين، بمبادرتها إلى إطلاق الكفاح المسلح، الذي ألهب مشاعر الفلسطينيين وصهرهم في خضم التوق للتحرير والوطن، ما يفسّر الشعبية التي حظيت بها هذه الحركة بسرعة غير مسبوقة، مقارنةً بتاريخ الحركات السياسية، في زمن كان يعجّ بالحركات القومية واليسارية والإسلامية. وهذا يفسّر أيضاً تفكّك "حركة القوميين العرب" إلى حركات وطنية، وتحول جورج حبش، زعيم تلك الحركة نحو إقامة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، في زمن "الناصرية".
في الغضون فإن وجهات النظر "القومية"، التي ادّعت عدم مشروعية الوطنية الفلسطينية، والتي خطّأت فكرة استقلالية القرار الفلسطيني، أو نأت بنفسها عنه، غالباً ما أغفلت خصوصيات الوضع الفلسطيني، عن قصد أو من دونه، وضمن ذلك أن الواقع العربي، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، لا يعيش في الزمن القومي، ولا يتجه نحوه، وإنما في زمن الوطنيات، وحتى ما قبل الوطنيات، على ما شهدنا، لاسيّما في مرحلة "الربيع العربي".
وفي الواقع، وبغضّ النظر عن إشكاليات تكوّن الأمة العربية، وعدم تجسّدها في دولة، فإن الحديث عن هوية فلسطينية لا يتناقض، أو لا ينبغي أن يتناقض مع الهوية العربية، وهو لا يحل محلها، بل يدخل، أو يمكن أن يدخل، في عوامل تكونها وتميزها وتبلورها، في نقيض للنظرة القومية الجامدة والشمولية والمطلقة للهويات، ولتشكل الأمم. هكذا فثمة هويات كبرى وصغرى، وأساسية وفرعية، وهذا ما ينبغي إدراكه؛ حيث يمكن للمرء أن يكون فلسطينياً وعربياً، كما أن يكون بدوياً ومسلماً أو مسيحياً وفلسطينياً وعربياً في آن.
وقد شهدنا أن مجتمعات البلدان العربية لم تصل بعد إلى مرحلة الاندماج الوطني، بدليل حال الانشطار والتشظّي الظاهرة والكامنة فيها، على صعيد البلد الواحد (إلى طوائف ومذاهب وإثنيات وقبائل)، أما السلطات القائمة فقد انشغلت عن بناء مجتمعاتها، بمعنى تحقيق الاندماج الاجتماعي، وعن دولها، بمعنى بناء دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، في ترسيخ هيمنتها. وفي أوضاع كهذه، أي في غياب دولة المواطنين، وفي حال الدولة التي تميز بين مواطنيها أنفسهم، بديهي أن يقع التمييز أكثر على الفلسطينيين بطريقة أو بأخرى، وإنْ بمستويات متباينة.
إضافةً إلى ما تقدم فإن أهمية الوطنية الفلسطينية تنبع من مواجهتها لركيزة أساسية في المشروع الصهيوني، الذي تأسّس على تغييب الشعب الفلسطيني، على أساس أسطورة "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، كما من واقع تعذر التعاطي مع قضية فلسطين باعتبارها مجرد قضية قومية، أي قضية دور وظيفي (إمبريالي) لإسرائيل، في المنطقة العربية، وفقط، إذ ثمة شعب بعينه جرى اقتلاعه من أرضه، وحُرم من هويته وحقوقه الوطنية، وهذا ما يمكن أن يجلب تعاطف الرأي العام العالمي، وهو الأكثر مقاربة للقوانين والأعراف الدولية المتعلقة بالدول، وبحق الشعوب في تقرير مصيرها.
على ذلك فإن المطالبة بتغييب الوطنية الفلسطينية، والتخلي عن استقلالية القرار الفلسطيني لصالح "قومية الصراع" هو حديث افتراضي رغبوي، فليس ثمة قطر مركز أو رافعة، أو نموذج يمكن الارتكاز عليه، وثمة خلاف كبير من حول ذلك؛ كما هناك غياب مزمن لاستراتيجية عربية موحدة، في مواجهة إسرائيل، في الصراع أو في التسوية معها، كما ثبت في تجربة عمرها أكثر من سبعة عقود.
وما ينبغي إدراكه هنا هو أن استقلالية القرار، والوطنية الفلسطينية، هما شأنان يخصان بناء الفلسطينيين لأوضاعهم الداخلية، وهاتان المسألتان ليستا مقررتين بشأن الحرب والسلام في المنطقة، لأن القرار بشأن هذين الخيارين هما من اختصاص الفاعلين السياسيين المتحكمين في منطقة الشرق الأوسط، والفلسطينيون هم الطرف الأضعف في هذه المعادلة.
من ناحية أخرى، فما يلفت الانتباه أن دعاة "القومية العربية" يعتبرون قضية فلسطين قومية، وأن القرار الفلسطيني يجب أن يكون قومياً، في حين لا يتم التعامل مع الشعب الفلسطيني على هذا الأساس، مع ابتداع هوية لاجئ (إذ كيف يكون الإنسان لاجئاً في وطنه العربي؟!)، بدعوى رفض "التوطين"، وهي هوية بين بين، أي لا عربية ولا فلسطينية، هذا إذا تجاوزنا السؤال عمن يمتلك مشروعية حصر التحدّث باسم "القومية".
على أية حال، من السهل في هذه المرحلة ملاحظة أن ثمة عوامل تأزّم في العناصر المشكلة "للوطنية" الفلسطينية، وهذا لا يحصل بنتيجة التشتت أو التمزق المجتمعي، وإخفاق حركة التحرر الفلسطينية في مهماتها، وتحولها إلى سلطة وفقط، وإنما هو نتاج ضياع المشروع الوطني الفلسطيني، وتآكل المرجعيات الفلسطينية، المؤسسية والتمثيلية، كما هو نتاج تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد سلطة في جزء من أرضها، على جزء من شعبها.
الآن، هل يمكن العمل على تجاوز كل ما تقدم واستنهاض "الوطنية" الفلسطينية؟ هذا السؤال ينطوي على تحدٍّ مع كل ما نشهده، لاسيّما مع انهيار المشرق العربي، لذا الجواب: نعم من الممكن ذلك، لكنه يتطلّب إدراك الواقع القائم، والعمل على تجاوزه، بإعادة تجديد بناء المشروع الوطني الفلسطيني، وبتوليد رؤية وطنية فلسطينية جديدة، تطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين، من دون أن تغفل المدخلات الجديدة في الصراع بينها وبين الإسرائيليين، وأيضاً بالارتباط مع التطورات الناشئة في المشرق العربي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.