في لبنان، ثورات وليس ثورة، الثورة، أو بالأحرى الانتفاضة اللبنانية، هي انتفاضات، وليست انتفاضة واحدة.
1) انتفاضة الطبقة الوسطى
كطبقة وسطى، وللطبقة الوسطى، هي انتفاضة لم تبدأ في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بل بدأت تظهر مع مشكلة النفايات في صيف 2015. هي فعلياً انتفاضة طبقة أصبح لديها -خصوصاً بعد خروج الجيش السوري من لبنان سنة 2005، وتحسن أوضاعها الاقتصادية مرحلياً بفضل الفقاعة المالية التي نتجت عن هندسات مصرف لبنان المالية وتوافد بعض الاستثمارات إلى لبنان في تلك الفترة- أصبح لديها وعي طبقي (conscience de classe)، أي بتعبير ماركسي هي طبقة تحولت من "طبقة بذاتها" (classe en soi) إلى "طبقة لذاتها (classe pour soi)"، وأصبح هدفها السلطة أولاً، كل السلطة، بغض النظر عن كل الشعارات التغييرية البراقة التي يمكن أن ترفعها وأن تتلطى وراءها.
انتفاضة الطبقة الوسطى هي انتفاضة ما يسمى المجتمع المدني، وأفضل تعبير يمكن أن يلخصها هو مصطلح La thaoura بالفرنسية الذي يستعمله كثير من أفرادها. هي الأكثر تعبيراً عن ذاتها من بين الانتفاضات الأخرى، هي الأكثر تياترالية، الأكثر وجوداً في الفضاء العام، في الشارع، في الإعلام، بين المثقفين، والصحفيين والفنانين، وأصحاب القلم والفكر. هي الأكثر رومانسية (بالمعنى السلبي الحالم للكلمة) والأكثر مراهقة وسذاجة من بين كل باقي الانتفاضات، تعتريها نزعة إلغائية فوقية متعجرفة ضد كل من لا يتفق معها، أو يتجرأ على انتقاد أدبياتها أو أدائها.
هي على صورة المجتمعات النخبوية في المدارس والجامعات الخاصة اللبنانية والمغلقة على نفسها في شرنقة مفصولة عن الواقع. تتشكل من مزيج من الأشخاص الذين يعون كفاءتهم الشخصية، والذين يشعرون بالظلم من جراء عدم تمكنهم من الوصول إلى السلطة -بالرغم من كفاءاتهم- بسبب النظام السياسي الحالي الذي يبقى مقفلاً لأي شخص يحاول أن يأتي من خارجه (outsider). هي انتفاضة الذين لم يعودوا يريدون البقاء في الصفوف الخلفية للسلطة، أي خلف الزعماء التقليديين وضمن حاشيتهم، بل أصبحوا فقط يريدون تصدّر المشهد السياسي واللعب في الصفوف الأمامية.
هم صحفيون وإعلاميون ومثقفون وحقوقيون ومهندسون وأطباء -رجالاً ونساءـ كانوا بالأمس القريب مستشارين أو ضمن الحلقة الضيقة المقربة من زعماء الطوائف التقليديين اللبنانيين؛ هم أبناء وبنات كبار البرجوازيين والعائلات السياسية اللبنانية (القسم الميسور جداً من الطبقة الوسطى الذي يقترب جداً من الأوليغارشة)، الذين قرروا القيام بثورة هي أقرب إلى ثورة أوديبية خاصة على الأب بالمفهوم الفرويدي، منها إلى ثورة اجتماعية عامة حقيقية؛ هم الذين "يسمّعون" على الهواء -بكامل أناقتهم وبمظهر برجوازي ساطع- ما حفظوه من الإحصائيات عن الوضع اللبناني التي جمعوها في هارفارد وغيرها من معاهد أمريكا وجامعاتها، بعد أن أتموا فيها دروسهم بتكلفة عالية جداً استطاعوا تأمينها بفضل الوضع الميسور مادياً لعائلاتهم؛ هن زوجات أمراء إقطاعيين سابقين تحوّلن فجأة إلى روزا لوكسامبور لبنان وسائر المشرق؛ هم ضباط متقاعدون يشعرون بمرارة أنهم بقوا طوال حياتهم في الصفوف الخلفية رغم كل تضحياتهم التي بذلوها في سبيل الوطن، لا سيما أنه لا مجال لـ"تدويرهم" سياسياً بعد خروجهم من الخدمة الفعلية، كما يحصل مثلاً في بعض البلدان ككيان الاحتلال الإسرائيلي، حيث يصبح الضباط رؤساء أحزاب، أو وزراء دفاع، أو حتى رؤساء حكومات، بعد تقاعدهم من الجيش.
انتفاضة الطبقة الوسطى هي انتفاضة تفتقر إلى الكثير من الأشياء: أولاً إلى المشروع الواضح والحقيقي والواقعي، ثم إلى البرنامج المرحلي. خطاب هذه الانتفاضة هو الأكثر شعبوية، وأدبياتها الأكثر ديماغوجية، وتسطيحاً، وبعداً عن تعقيدات الواقع اللبناني.
نقطة ضعفها الأساسية، وسبب عجزها الأول، هو انفصامها عن الواقع. انتفاضة الطبقة الوسطى تريد تغيير الواقع اللبناني دون أن تراه كما هو، أي بكل تعقيداته وتشعباته الداخلية والخارجية. هدفها الحقيقي الوحيد الذي لا تتجرأ على البوح به هو -كما يقول اللبنانيون بالدارجة: "قوم يا إستبلشمنت لأقعد محلك"- في حين أنّ كثيراً من قواها وشخصياتها مرتبط بهذا الإستبلشمنت ارتباطاً وثيقاً بطريقة أو بأخرى، ولكنه أخذ يتبرأ منه بين ليلة وضحاها، ويحاول تغليف هدفه الأساسي بشعارات تغييرية براقة.
بالمحصلة، انتفاضة الطبقة الوسطى هي انتفاضة ينقصها الكثير من الصدق، ومن الفاعلية.
2) انتفاضة الطبقات الفقيرة
هي الانتفاضة الأكثر شعبية (بمعنى الطبقات الشعبية)، والأقل شعبوية. هي الانتفاضة الأكثر صدقا بأدبياتها، وشعاراتها (لقمة العيش)، وتعبيرها -لا سيما العنفي منه- في سبيل الوصول إلى مبتغاها وتحقيق أهدافها. وهي الانتفاضة الأكثر جدارة بالدعم والاحترام، والوحيدة التي يمكن أن يعوّل عليها في التغيير.
أحد تجلياتها كان انتفاضة الفقراء في طرابلس في شباط/فبراير 2021 مثلاً، أو الانتفاضة في بعض الأحياء الشعبية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي الجنوب، لا سيما في صور والنبطية في تشرين 2019 (في البدايات)، قبل أن يعيد حزب اللّه إحكام سيطرته سريعاً على شارعه بقوة الترهيب، وأن يبدأ بحملة "جهاده الاقتصادي"، لا سيما بتوزيع المازوت وبطاقات "السجاد" التموينية الخاصة به.
3) انتفاضة بعض الأحزاب اليمينية التقليدية
لا سيما حزبي القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية، وهي انتفاضة أراها زائفة بامتياز، إذ إنّ هدفها الوحيد هو ركوب موجة الغضب الشعبي للتأقلم مع المتغيرات على الساحة السياسية في سبيل البقاء في "الإستبلشمنت" السلطوي الجديد الآخذ في التشكل بضغط ودعم خارجيين، بعد أن كانت جزءاً لا يتجزأ من الإسنبلشمنت القديم (المؤسسة السلطوية) الآيل إلى السقوط.
4) انتفاضة بعض الأحزاب اليسارية التقليدية
كالحزب الشيوعي والقومي السوري والمجموعات التي تدور في فلكها (شربل نحاس، بدنا نحاسب، إلخ)، وهي أيضاً هدفها الأول ليس فقط -كالأحزاب اليمينية المذكورة في البند 3- التأقلم مع المتغيرات وركوب قطار الإستبلشمنت الجديد الآخذ في التشكل، بل أيضاً وخصوصاً أن تشكل انتفاضتها مطيّة وحصان طروادة للحزب الحاكم فعلياً للبلد، أي حزب الله.
5) انتفاضة -ما يسميه اللبنانيون بالدارجةـ الهبّة سخنة/هبّة باردة
انتفاضة تنفيس الإحباط، وهي انتفاضة بعض ممّن تبقى من جمهور المستقبل، وهي في رأيي الأكثر مدعاة للشفقة وإثارة للضحك، إذ إنها لا تظهر إلا على وقع الخيبات التي يمنى بها رئيس تيار المستقبل، فترى رهطا من الشبان ينزلون إلى الشارع في قصقص والطريق الجديدة في بيروت لقطع الطريق لبضع ساعات تعبيراً عن الغضب، ثم يعودون إلى بيوتهم مجرجرين ذيول الخيبة التي عودهم عليها رئيس تيارهم.
6) انتفاضة التيار الوطني الحر
وهي كما أرى لا تظهر إلا للزكزكة والتمريك على الخصوم، إما بواسطة لواء الدعم الذي يؤمنه أنصار التيار للقاضية غادة عون في فتوحاتها المباركة، وإما ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهدف تحميله دون غيره مسؤولية الكارثة المالية الاقتصادية كاملة، وإما بمحاولة الاستثمار في شعارات محقة، ولكن يراد بها باطل من قبلهم، لا سيما مثلاً في مطلب رفع الحصانات عن المتهمين بتفجير مرفأ بيروت، لأن المقصود هم خصومهم السياسيون حصراً، وللظهور بمظهر الملائكة الطاهرين الذين يكافحون الفساد وحدهم في لبنان، في حين أنّ رئيس الجمهورية -مؤسس التيار الوطني الحرـ اعترف صراحة بأنه كان يعلم بوجود النيترات في المرفأ.
هي إذاً ستّ انتفاضات على الأقل، ولا شك أنّ هنالك انتفاضات أخرى أيضاً. يبقى السؤال الأساسي: هل من الممكن أن يكون هناك تقاطع (intersectionnalité) بين كل هذه الانتفاضات، أو على الأقل بين بعضها؟
صحيح أنّ بعض وسائل الإعلام تحاول بث خطاب معين لتشكيل نقطة التقاء بين بعض من هذه الانتفاضات (على سبيل المثال: إذاعة تلفزيون يمينية تحاول دائماً التوليف في نشرات أخبارها وبرامجها السياسية بين انتفاضة المجتمع المدني وانتفاضة الأحزاب اليمينية، أخرى يسارية تحاول الملاءمة بين انتفاضة المجتمع المدني وانتفاضة الأحزاب والحركات اليساريةـ وبدرجة أقل ثورة الطبقات الفقيرة)، ولكن نظراً إلى الواقع الذي مفاده أنّ لكل من هذه الانتفاضات أهدافاً خاصة تختلف اختلافاً جذرياً عن الأخرى، لا بل تتعارض فيما بينها، يصبح من الصعب جداً تخيل إمكانية تقاطع حقيقي وفعلي بين هذه الانتفاضات، أو حتى بين بعض منها (الأولى والثانية مثلاً).
بالمحصلة هي شوربة من الانتفاضات، وهذا هو السبب الأهم في عدم فاعليتها حتى الآن، وفي فشلها في تحقيق أي تغيير حقيقي يذكر، في حين أنّ الحاكم الفعلي للبلد -أي حزب اللّه- يبقى الرابح الأكبر والأكثر ارتياحاً وسروراً من جراء هذا التشرذم الحاصل.
الخلاصة هي أنه عندما تتحدث عن الانتفاضة، أو عن الثورة، عليك أن تحدد أي انتفاضة أو أي ثورة من كل تلك المذكورة آنفاً تقصد تحديداً، ربما كانت هذه خطوة أولى نحو فصل الثورة الحقيقية عن باقي الانتفاضات، وأول مدماك من مداميك الحقيقة الثورية، والتغيير الحقيقي الآتي لا محالة، بإذن اللّه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.