الإجابة لم تعُد تونس.. فما البديل؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/08 الساعة 08:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/08 الساعة 08:58 بتوقيت غرينتش
شرطي تونسي أمام مقر البرلمان/ رويترز

يعتقد البعض بوجود مسارين واضحين للتغيير السياسي، علينا الاختيار بين أحدهما: الأول مسار ثوري راديكالي، والثاني إصلاحي تدريجي، والمفاجأة أن الخبرات التاريخية للتغيير السياسي والتحول الديمقراطي خلال الأربعين سنة الماضية أثبتت للباحثين أن كلا المسارين لم يعد له وجود واقعي أو حقيقي في تجارب الدول!  وبدلاً من ذلك، ومن خلال الاستقراء يقول الباحث فيليب شميتر إنه قد تشكّل خلال العقود الأربعة القليلة الماضية مساران بديلان للتغيير السياسي:

الأول هو مسار "الانتقال التفاوضي" ويتم من خلال حزم من برامج وسياسات في السياسة والاقتصاد، يتم التوافق عليها من خلال التفاوض والحوارات بين الحمائم في الجانبين، جانب المؤيدين للتغيير، والمؤيدين للنظام السابق. في الوطن العربي تعتبر تونس مثالاً نموذجياً على المسار الأول (وسنعود لنقاش الحالة التونسية بعد قليل).

أما المسار الثاني للتغيير السياسي فهو "التغيير المفروض من الأعلى"، وفيه تُقرر النُّخب السياسية من النظام السياسي السابق بدء عملية إصلاح سياسي واقتصادي، لأن الأمور لا يمكن أن تستمر بهذه الطريقة، عند إجرائها لعملية الإصلاح هذه فإنها تقوم بتوسيع مساحة المشاركة ودمج فاعلين سياسيين جدد، وتوسيع مساحات الحريات والرقابة. هذا المسار الثاني هو أمل أغلب النخب السياسية في الوطن العربي، القريبة من الأنظمة الحاكمة، أن تستيقظ في يوم من الأيام لتعلم أن الأنظمة الاستبدادية السابقة قررت أخيراً أن تسمع إلى آرائهم وتشاركهم في الحكم والسياسة، لكن هذا لم يحدث في الوطن العربي إلى الآن.

الانقلاب المدنيّ في تونس

الانقلاب المدني الذي قام به قيس سعيد في تونس أظهر بشكل واضح أهم عيوب مسار الانتقال التفاوضي. في العام 2011 كانت تونس تحت حكم نظام سلطوي بقيادة زين العابدين بن علي، يحكم البلد ويضيّق عليها في الحريات، واجه النظام أزمة سياسية حادة في صورة مظاهرات شعبية تتحدى سلطته، أدت إلى هروب بن علي، وبدأت مرحلة انتقالية تفاوض فيها "المعتدلون" من المعارضة، وعلى رأسهم حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي، مع "المعتدلين" من النظام السابق، الذين أعادوا تنظيم أنفسهم واندمجوا في الحياة السياسية، وكان تواجدهم الأبرز والأهم في حزب نداء تونس، بقيادة الراحل الباجي قائد السبسي.

المسار سار بشكل تدريجي هادئ عبر التفاوض بين الفاعلين السياسيين على حزم الإصلاحات التي كان من أهمها تمرير الدستور، وإجراء الانتخابات، وتشكيل الحكومات المختلفة، وتكون الانتخابات حاضرة في قلب هذا المسار باعتبارها أداه التغيير الرئيسي. ولم يكن خيار اللجوء للعنف السياسي موجوداً لدى الفاعلين السياسيين الرئيسيين، رغم أنه أعلن عن وجوده عدة مرات، سواء في الاغتيالات السياسية لمعارضين، أو في التعدي على مقرات الأحزاب السياسية.

المشكلة الأهم في هذا المسار ظهرت واضحة جلية في الحالة التونسية، توسيع مجال الحريات وترسيخ الديمقراطية يحدث على حساب التغييرات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يجعل المواطن العادي لا يشعر بفرق كبير، رغم التغيير السياسي، فيرتفع السخط بشكل أكبر على النظام الديمقراطي الذي لا يساعد في حل المشاكل.

حققت تونس العديد من الإنجازات، وتغلبت على الكثير من التحديات، وأظنها قادرة على التغلب على التحدي الحالي، لكن في تقديري ما دامت الثروة لم يتم إعادة توزيعها بشكل عادل، ولم يتم تقليص الفوارق الاجتماعية بين الطبقات المختلفة وتقليل عدم المساواة، ولم تكن الدولة قادرة على إحداث تنمية شاملة ومستدامة، فإن مسار التغيير هذا يظل مساراً منقوصاً على أفضل تقدير.  الشعوب في العالم العربي تعاني بشدة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، فإذا غابت حلول هذه المشاكل تظل هذه الدول على شفا حافة البركان الذي يمكن أن ينفجر في أي وقت، حتى لو كانت تملك نظاماً ديمقراطياً مثل تونس.

نموذج التغيير الثوري الشامل

على الجانب الآخر، فهناك القابعون بجانب حوائط السلطة من أجل سماع الأنباء السارة بأن النظام قرر أخيراً أن يبدأ عملية إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي، يوسع بها مساحة المشاركة ويزيد من الحريات العامة. ولأن هذا المسار لم يحدث في أي من دول العالم العربي إلى الآن، فدعنا ننتقل إلى المسار الذي يتم طرحه على أنه الحل لمشاكل العالم العربي، والنموذج الذي ينبغي السير عليه؛ نموذج التغيير الثوري الحاد والشامل، كما في حالة الثورة الإيرانية أو الثورة الفرنسية.

يتم الترويج لهذا النموذج بين مجموعات من اليسار وبين قطاعات من الإسلاميين، باعتباره أفضل حل للتغيير في منطقتنا. التغيير الذي يشمل التغيير الاقتصادي والاجتماعي مع التغيير السياسي، ويشمل تغيير شكل الدولة وعلاقات القوة والثروة في البلد، مع تغيير الأيديولوجيا الحاكمة بأيديولوجيا بديلة، ويتم الترويج بأن هذا الطرح بهذا الشكل يبدو مناسباً أكثر لسياق المنطقة العربية.

ذكرنا أنه من الناحية التاريخية العملية فإن هذا المسار قد تراجعت فرص حدوثه في دول العالم أجمع، أما في المنطقة العربية، فإن مطالب وطموحات الموجة الأولى من الثورات كانت أقل ثورية وحدّة من الموجة الأولى، ما يعني أنه حتى بين شعوب الوطن العربي يفقد هذا المسار الكثير من الجاذبية، لكن حتى لو تجاوزنا نقطة الجاذبية وتحولنا إلى المضمون فإننا نجد التالي: نظرياً يبدو هذا المسار وكأنه حل جيد لمشاكل العالم العربي، لكن عملياً يواجه هذا المسار تحديين رئيسيين:

الأول تحدٍّ من داخله؛ فالتغيير الثوري والجدي والشامل يحتاج إلى أيديولوجيا جذرية وشاملة، وإلى برامج وسياسات جذرية وشاملة، والأيديولوجيات والبرامج التي يتم طرحها تحت شعار الثورية لا يمكن التعامل مع أي منها بجدية. وحتى لو افترضنا أنه ربما تكون هناك أيديولوجيات وبرامج في مكان ما تُناسب مرحلة ثورية قادمة، فإننا هنا ينبغي أن نتذكر أن البرامج والسياسات ليست مهمة في ذاتها، ولكن مهمة في السياق الذي تعمل فيه، بمعنى أن البرنامج أو السياسات العامة التي يمكن أن تكون مفيدة الآن يمكن أن تكون ضارة بعد سنوات قليلة إذا تغيرت الأوضاع الاقتصادية أو السياسية، ومن أجل هذا تكون "القدرة" على إنتاج سياسات وبرامج أهم في أحيان كثيرة من البرامج والسياسات ذاتها.

أما التحدي الثاني فهو تحدٍّ خارجي؛ تريد الشعوب العربية التغيير للأفضل في السياسة والاقتصاد، وفي الحكم والإدارة، وتريد هذا بشكل سريع إذا كان ذلك ممكناً، والاحتجاجات الشعبية ضد المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تتوقف في أغلب الدول العربية، لكن الاحتجاجات الشعبية لا تعني دعماً للتغييرات الثورية والشاملة في كل الأحوال؛ فالاحتجاجات الحالية هي "احتجاج مشروط" كما يقول الباحث وسام فؤاد، حيث إنها احتجاجات شعبية تتم في غياب الثقة في النخب السياسية الحالية، لذلك فهي تتم إذا لم تكن هناك تخوفات على مستقبل البلاد جراء هذه الاحتجاجات، وإذا كانت تكلفتها على المشاركين ليست مرتفعة. وبمعنى آخر، فإن الشعوب فقدت الثقة في النخب السياسية -سواء الحاكمة أو المعارضة- لذلك فهي تتحرك بنفسها للتعبير عن مصالحها إذا تهيأت ظروف مناسبة يكون من المستبعد فيها أن تؤدي الاحتجاجات فيها لمزيد من المشاكل والأزمات الداخلية، أو إلى تكلفة مرتفعة من الأموال والأنفس.

والخلاصة، أنه لا يوجد نموذج بلا مشاكل أو تحديات، وأنه إذا كانت تونس تشهد اليوم تحديات تهدد مسار الانتقال السياسي الذي سارت فيه، فإن التحرك يجب أن يكون في سياق الحفاظ على مكتسبات سياسية في مجال الحريات والديمقراطية، والعمل على تحقيق مزيد من المكاسب في المجال الاقتصادي والاجتماعي مستقبلاً.

فرص حدوث هذه التحولات الاقتصادية أصبحت أصعب مع انقلاب قيس سعيد، الذي أفسد السياسة ولن يُصلح الاقتصاد، لكن تونس قادرة على أن تخرج من هذه الأزمة بأقل التكاليف الممكنة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد محسن
باحث دكتوراه في العلوم السياسية
باحث دكتوراه متخصص في العلوم السياسية والسياسات العامة . حاصل على ماجستير السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا (2017). له عدد من المقالات الأكاديمية المحكمة. ينشر بإنتظام في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية. وتتركز إهتماماته في مواضيع تغيير السياسات العامة في الدول غير الغربية، العلاقات المدنية العسكرية، ودراسات الشرق الأوسط.
تحميل المزيد