الرابع من أغسطس/آب 2020، السّاعة السّادسة وسبع دقائق مساءً، اقتلعت روح بيروت، وكلّ من يسكنها من أناس وبيوت وحجر، واقتلعت معها كلّ الذكريات المجيدة. أصبحت بيروت اليوم، في أذهاننا، عبارة عن أيام متشابهة كلّها تعيدنا إلى 4 أغسطس/آب 2020 بأدقّ تفاصيله المملّة.
وسقطت بيروت
أتذكّر في تلك الليلة المشؤومة وبعد كلّ الرّعب الذي مررنا به وعدم استيعاب حقيقة ما حدث، هو أنّ بيروت بحاجة لعناق، عناق بقوّة وحنان صوت فيروز حين قالت "آه عانقيني". شعرت لحظتها بحيثيّات هذا الشّطر وتخيّلت نفسي أفتح ذراعي وأضمّها بشدّة كي تبكي وتصرخ "كفى". ولكننا، لم نستطع حينها، لا بالكلمات ولا بالتّعبير لأنّ وقتها، جرّدنا من كلّ المشاعر والأحاسيس، لتبقى الصدمة سيّدة المواقف.
اليوم، وبعد مرور عام على التفجير المروّع الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وجرح حوالي 6000 وتشريد 300 ألف عائلة، ما زلنا نمتنع عن عناق بيروت، لأن الصدمة ما زات سيّدة الموقف، وشيئاً من الفراغ يعيش فينا. الرّيح التي سبقت الانفجار، الصوّت المدوّي الذي صمّ آذاننا، الدخان الأحمر كالدّماء، والدّمار الساحق لمدينة كانت، رغم مآسيها المكدّسة وبكائها الدّائم، تستقبل أولادها وزوارها وحتى أعداءها بصدر رحب.
المرور من أمام المرفأ، الذي لم نكن لنعطيه أهميّة أصلاً، أصبح مصحوباً بموجة من التوتّر والارتجاف، مع استعادة مشهد الدخان وأصوات المفرقعات، وساعة الصفر، يليه هذه الأفكار المتتالية، السّرعة في القيادة تفادياً لأي حدث ممكن أن يشبه ذلك الانفجار. وبعد أن نمرّ بسلام، نشعر بأنّنا نجونا ورسونا على برّ الأمان ونتابع طريقنا بشكل طبيعي.
الشعور هذا لا يقتصر على طريق المرفأ فقط، بل أيضاً على منطقة "الجميّزة" المجاورة لمنطقة الانفجار، والتي لطالما زرعنا فيها، نحن شابّات وشبّان هذه الزواريب، ذكرياتنا مع الأصدقاء والأحبة. لم تعد زوايا شارع "الجمّيزة" مشبعة بضحكات الأصدقاء على درج "مار نقولا"، وتبخّرت الأسرار التي همست على جدران الحيّ القديم في مار مخايل. أصبح السّير على الأقدام فيها عبارة عن ذكريات تعيدنا إلى ما بعد الانفجار، الزّجاج المحطّم، الأبنية المهدّمة، بقايا الدماء على الرّصيف، وأصوات الزّجاج أثناء كنسه عن الطرقات.
وعن وجوه هذا الحيّ، فهي شاحبة يعتريها جروح خارجية ما زالت تعتبر سطحية أمام جروح نفسية عميقة شرّدتهم عن حياتهم اليوميّة الاعتياديّة. مع ذلك كلّه، يحاول السكّان رسم ابتسامة ولوْ زائفة، ابتسامة تحاول إخفاء جرح 4 آب في محاولة لتقطيبه علماً أن حتى الوقت هذه المرّة، لن يكون وسيلة للنسيان.
أمّا نحن، فقد احتلّ الرّابع من آب الجزء الأكبر منّا، شرّد عقولنا وأذهاننا وشخصيّتنا وتصرّفاتنا، والبعض الأصغر والأكبر منّا. لم نعد الأشخاص الذين يستمتعون بحياتهم كما قبل، فأقصى درجات الفرح عبارة عن موجة ضحك يليها صمت يعيدنا إلى رشدنا وواقعنا المرتبط بغيمة حمراء اللوْن.
حتى في لبنان، لم يعد فصل الشّتاء فصلاً عابراً كما جرت العادة، إذ سماع الرّعد في الشّتاء أصبح عقدة لدينا، ما زال يدور في ذهني أوّل "صاعقة" بعد أشهر قليلة من الانفجار، كيف استيقظت مدهوشة محاولة احتواء الحدث، فتحت مواقع التّواصل الاجتماعي فوراً فقط لأرى أن الأغلبية خطفهم الخوف عينه، حتى أدركنا جميعاً أن ما حصل هو مجرّد رعد طبيعي خلال فصل من المفترض أن يكون عاصفاً ومرعداً في لبنان.
متى يحاسب المجرمون؟
عشيّة ذكرى الفاجعة الأولى يسرح ويمرح المسؤولون متجاهلين ما حصل، يهربون من القضاء بحجّة الحصانات وأحقيّتها. ينسوْن، أو يتناسوْن، أنّه أمام أكثر من 200 ضحيّة، تسقط كل الحصانات وتسود الحصانة الأخلاقيّة، يتناسون أنّه من الأفضل أن يبتعدوا عن تشكيل الحكومة ويتوجّهوا إلى المحكمة، يتناسون أنّ ما يجب أن يشغلهم في هذه الفترة، المحاكمات فقط، يتناسون أنّ أسمى ما يمكن أن يفعلوه هو الصمت، فقط الصّمت.
عشيّة السنوية الأولى لدمار ستّ الدّنيا، العاصمة بيروت، يجب ألّا نحصر 4 آب بالذكرى السنوية، فكلّ الأيام هي 4 آب لأن جراحنا لم تُشفَ بعد، ولن تشفى حتى إعلان الحقيقة ومحاسبة الجميع. كلّهم كانوا يعلمون: رئيس الجمهورية ميشال عون كان يعلم، رئيس الحكومة المستقيل حسّان دياب كان يعلم، رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي كان يعلم، رئيس الحكومة السّابق سعد الحريري كان يعلم، قائد الجيش السّابق جان قهوجي كان يعلم، وكل وزراء الأشغال والماليّة والدّاخلية الذين تعاقبوا منذ دخول النيترات كانوا يعلمون، وكل من يستند على ظهر الحصانات ويرفض المثول أمام القضاء إمّا كان يعلم، أو يداري على الآخرين، وفي الحالتين هم أيضاً مجرمون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.