مقدماً مصلحته على مصلحة البلاد.. كيف وضعت إجراءات قيس سعيّد مستقبل تونس على المحكّ؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/02 الساعة 13:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/02 الساعة 13:38 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيد/رويترز

منذ ظهوره يتلو بيانه على الشعب، بدأ الرئيس التونسي قيس سعيّد سلسلة قرارات وإجراءاتٍ واسعة، وُصفت بالانقلابيّة من قِبَل خصومه ومعارضيه، ورحبت بها طائفةٌ ليست هينة من الشعب التونسيّ، باعتبارها إجراءاتٍ ثورية لا انقلابية، جاءت تفاعلاً مع معاناة الجماهير.

أهمُّ تلك الإجراءات كان تجميد عمل البرلمان المنتخب لمدة شهر، وتعيين الرئيس سعيّد نفسه مسؤولاً عن السلطة التنفيذية والنيابية، والتلويح ببدء "محاكمات" ضدّ فئات بعينها، بسبب انخراطها في الإفساد أو الإرهاب، وتوسيع نطاق حظر التجول زمنياً ومكانياً.

وصف سعيّد أيضاً تلك الإجراءات الاستثنائية بأنها ثورية، وقانونية، تهدف لحماية المؤسسات الدستورية والدولة، وتحقيق السلم الاجتماعي، وفرض القانون، وإنقاذ المجتمع التونسي، ومقاومة العبث بالدولة والأرواح والمجتمع؛ وذلك بنصّ قوله في مناسبات عديدة، داخلية وخارجية، على مدار الأسبوع.

بالتأكيد، لم تكن تونس قبل هذه الإجراءات جنةً عامرة بالاستقرار والخير والتقدم، إذ كانت بالفعل تعاني على مختلف الأصعدة؛ ولكن، في نفس الوقت، يبدو، بنظرة تحليلية فاحصة، لمضمون هذه القرارات الرئاسية ونمط التفاعل معها لاحقاً، أنها لن تجلب أيَّ خير مرجوّ إلى تونس، بل على العكس، وهو ما سيحدث على الأرجح، قد تعمق من مأساة دولة عربية جديدة، في الركن المغاربيّ.. فلماذا نرجح هذا التحليل المتشائم المضادّ لسردية سعيّد؟

مخاطر وبائية

في الثامن من يوليو/تموز الماضي، أعلنت قياداتٌ صحية رفيعة في الدولة التونسية انهيار القطاع الطبيّ، مستخدمةً عبارات: المركب يغرق، والوضع بات كارثياً، تسونامي كورونا يضرب البلاد.

لمن لا يعلم؛ فإن مصطلح "انهيار القطاع الطبيّ" مصطلحٌ تقني معروف في المجال الصحّي العموميّ للإشارة إلى العجز عن التعامل مع مرض ذي طبيعةٍ وبائية، كما هي الحال مع فيروس كورونا، وهو مصطلح مشابه لمصطلح "الإفلاس" في الاقتصاد، والذي بموجبه، يفقد الجميع الثقة في قدرة الدولة على التعامل مع الأزمة الحادثة في هذا المجال، مقابل تطوع جهات خارجية بمحاولة إعادة هيكلة الأمور، لأغراض إنسانية ونفعية.

على حدّ وصف مسؤولي الصحة في تونس، فقد تهاوى الكادر البشريُّ، وخسرت المخازن احتياطياتها من الأوكسجين، مع تأخر في توفير الأمصال، وزيادة في الإصابات بمعدل يصل أحيانا إلى 10 آلاف إصابة ونحو 100 وفاة في اليوم الواحد، وبالفعل سارعت دولٌ عربية وغربية إلى الاستجابة لنداءاتِ الشعب التونسي واستغاثاته التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي والتنسيق مع الجيش لتسليمه المساعدات.

في هذا التوقيت، كان متوقعاً، عند إحسان النية، أن تنحى كل الصراعات السياسية جانباً، بشكل مؤقت، من أجل توفير مناخ اجتماعي مناسب لإدارة هذه الأزمة الخطيرة، وهو ما كان قد رجحه أيضاً "مجتهد" خلال تسريبه لخطة الانقلاب السعودي الإماراتي، بالتنسيق مع الرئيس، على التجربة الديمقراطية التونسية، قبل عام؛ حيث ذكر في نهاية خيط التغريدات أنّ جائحة كورونا سوف تعطل المخطط لحين هدوء الأمور.

لكنّ ما جرى فعلياً أنّ الرئيس التونسيّ الذي أخبرنا بإحساسه بالمسؤولية التاريخية والاجتماعية أمام الله والشعب، قد استغلّ "حالة الاستثناء" تلك من أجل تمرير انقلابه، حيث اختار وقتاً، هو ذروة الأزمة على المستوى العموميّ من جهة، وبعد أن عصف الفيروس بصحة خصمه الطاعن في السن الشيخ راشد الغنوشي من جهة أخرى، ثم أعلن فرض حظر التجوال، بحجة حماية البلاد من التجمعات، وذلك لقطع الطريق أمام معارضيه الذين قد يتواجدون في الشارع لرفض القرارات.

ومع ذلك، عندما نتفحّص الأمور برويةٍ، سنجد أنّ قرارات سعيّد لم تكن لتمر إلا بعد نشاط واسع من مؤيديه على الأرض في ظلِّ الوباء الذي يضرب البلاد، وقد نزل سعيّد بنفسه في شارع الحبيب بورقيبة كيّ يُحيي هذه التجمعات، وفي المقابل، شهدت الساعات الأولى التالية لإعلان القرارات مظاهراتٍ مضادة من خصوم سعيّد اعتراضاً على هذه الإجراءات، في ظلّ هذا الوضع الصحيّ الخطير.

بصورةٍ مؤقتة لأسباب ليس من بينها العامل الصحّيّ، أعلنت حركة النهضة تعليق اعتصامها أمام البرلمان، "مع إقرار تحركات سلمية أخرى دفاعاً عن الديمقراطية والنظام الجمهوري"، كما أفاد القياديّ في الحركة نور الدين البحيري، وهو ما يعني أنَّ قادم الأيام مرشحةٌ لحدوث تصعيد في الشارع التونسي بين قوات الأمن ومؤيدي النهضة من جهة، وبين مؤيدي النهضة وداعمي الرئيس من جهة أخرى، وهو ما قد يضع البلاد في موقف أكثر تعقيداً بالنظر إلى الوضع الصحي المتهاوي أصلاً، سواء من جهة فرص تزايد انتشار العدوى، أو بمزيدٍ من الضغط غير الوبائي الناتج عن أي أحداث عنف محتملة على المنظومة الصحية.

الإطاحة بالمؤسسات تهديد لأمن المجتمع

أحد الأغراض الكامنة وراء سنّ القوانين والدساتير والعقود الاجتماعية، بغضّ النظر عن المكتوب فيها، هي حماية المجتمع، الذي ينقسم بطبيعة الحال، إلى تقسيمات كثيرة، عمرية وجنسانيّة وطائفية وعرقيّة وجهويّة واقتصاديّة، من الاقتتال أو الفوضى.

كلما كان جميع أطراف المعادلة يلتجئونَ إلى المجرَّدِ المائل للعدل (القانون) في خلافاتهم، وكلما ترسخ وضع العقد الاجتماعي، كان ذلك "عاملاً" مرجحاً للحفاظ على استقرار الأمة والمجتمع، أيّ أمة وأيّ مجتمع، حتى لو كان هناك أيُّ مصلحةٍ "آنية" تلوح في الأفق من الإخلال بهذه المنظومة القانونية التي تنظم المجتمع وتحميه؛ والعكس بالعكس.

ما فعله قيس سعيّد في هذا الباب أنه وضع أمن البلاد واستقرارها على المحكّ، عندما فضل أستاذ القانون الدستوريّ المرموق، مصلحته الشخصية في "تأويل" الدستور تأويلاً تعسفيّاً، من أجل الانفراد بالسلطة والإطاحة بخصومه، على حساب سيادة القانون واستقراره في تونس.

خطوة بخطوة، سنجد أن سعيّد أولاً، باستغلاله ذلك الفصل المشار إليه من الدستور (المادة 80) على غير مراد واضعيها ومقتضاها الأصلي، قد قام "بانقلاب بأتمّ معنى الكلمة، يمهد لإعلان الديكتاتورية، ويضع حياة الديمقراطية في تونس في منعرج خطير، إذ لا تتوافر أي من الشروط الجوهرية أو الشكلية اللازمة لتطبيق تلك المادة، سواء كان الخطر الداهم الذي يهدد البلاد أو استشارة رئيسي البرلمان والحكومة"؛ وذلك وفقاً لما أدلى به عياض بن عاشور، أستاذ القانون الدستوري، وأستاذُ قيس سعيدّ، وأهم شخصية قانونية في تونس، وغير محسوب على الإخوان المسلمين.

إذا لم يكن هناك صراعٌ خفيٌّ قد بدأ بالفعل من تحت الطاولة بين كلّ المؤسسات الدستورية التي نزع قيس سعيّد صلاحياتها عنها مع بعضها البعض من جهة، أو ضد مؤسسة الرئاسة من جهة أخرى؛ فإن الرئيس التونسيّ، على الأقلّ، قد فتح الباب بقراراته تلك لإثارة الضغائن والحروب والخيانات بين هذه المؤسسات.

ولنتأملْ عدداً من الأخبار الواردة عن هذه المؤسسات بعد إجراءات سعيّد؛ فالمجلس الأعلى للقضاء، أفاد يوم الثلاثاء الماضي، بأنه يرفض قرار سعيّد بترؤسه النيابات العامة، وهو القرار الذي وصفه عياض أيضاً بأنه "بدعة مضحكة"، مؤكداً (مجلس القضاء) بعد لقائه سعيّد، على ضرورة "الابتعاد عن التجاذبات السياسية، واستقلال القضاء، وحماية الحقوق والحريات، واعتبار النيابة العامة جزءاً من القضاء العدليّ".

هذا هو القضاء، ماذا عن البرلمان المجمد؟ البرلمان أعلن، على لسان رئيسه، أن الرئيس لم ينسق معه قبل هذه القرارات الانقلابية (من المفترض أن يكون لأي تنسيق محاضر جلسات حال حدوثها أو تسجيلات صوتية موثقة) وأكد استمراره في أداء عمله، وقالت كتل أخرى معتبرة داخله، بخلاف النهضة، مثل قلب تونس والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة برفض هذه الإجراءات.

وبعد أن أطاح سعيّد بالنائب العام ورئيس القضاء العسكري ووزيرة العدل (القضاء)، أفادت تسريباتٌ أجنبية مطلعة بأنَّ هشام المشيشي، رئيس الحكومة المُقال، والذي كان يفترض أن يظلَّ في منصبه في كلّ الأحوال بغضّ النظر عن أي إطاحات محتملة كان رافضاً أيضاً لإجراءات الرئيس، التي تضمنت إزاحته من منصبه، ولكنه أعلن موافقته الجبرية لاحقاً، بعد تهديده بالاحتجاز والسجن والإيذاء.

ووفقاً لمطلعين على الشأن التونسيِّ، فإنّ السبب الراجح لإطاحة سعيّد بصديقيه في الجيش، وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي، وهو أستاذ قانون دستوري أيضاً مثل سعيّد، وتوفيق العيوني مدير القضاء العسكريّ الذي طالما استعان به لضرب النشطاء المدنيين الذين عارضوا الرئيس؛ تعود إلى اختلاف هذين الاسمين، نسبياً، مع قرارات سعيّد، باعتبارهما قادميْن من خلفية قانونية أيضاً، ونظر الرئيس إليهما كخطرٍ مستقبليّ ينبغي التخلص منه مبكراً.

يُرجح هذا التحليل أيضاً أن الرئيس التونسيّ بدأ على الفور يُفعل أذرعه القضائية الانتقائية الموالية له ضد خصومه، من أجل التنقيب وراء حركة النهضة وحزب قلب تونس، الكتلتين الأكبر في البرلمان الذي يفترض أنه يحجم من نفوذ الرئيس وفقاً للدستور، والتنكيل بكلّ منهما متذرعاً بحصولهما على تمويل سياسي من الخارج، ومبرراً ذلك التزامن بأن هذه القضايا كانت منظورة بالفعل أمام القضاء الابتدائي من قبل قراراته، وما حدث الآن هو تزامنٌ صدفويّ.

وفيما يبدو، اختار سعيّد هذا التوقيت، الـ25 من يوليو/تموز عام 2021 متعمداً، كي يتزامن مع "ذكرى إعلان الجمهورية" في نفس التاريخ من عام 1957، حينما تمت الإطاحة بالملك محمد الأمين، واستولى الحبيب بورقيبة وحزبه على مقاليد البلاد إيذاناً بإعلان الجمهورية، حيث يريد الرئيس أن يسوق قراراته الاستثنائية غير الدستورية تلك باعتبارها إنقاذاً للدولة وإعادتها إلى نهج الجمهورية، على نفس طريقة بورقيبة، وذلك بالإيحاء باستدعاء نفس الحالة: وضع تاريخيّ استثنائي، وقرارات ثورية لحماية النظام.

التلاعب والتأويل بالقانون، من قِبل أستاذ القانون الدستوريّ، ليس جديداً على سعيِّد، فقد تلاشى، طيلة الفترة الماضية، تمرير قانون تدشين المحكمة الدستورية، خوفاً من لجوء البرلمان إلى استخدام الفصل الـ88 ضده – وهو فصلٌ واضح بخلاف الفصل الـ80 الذي أوّله سعيد لمصلحته- يتيح للبرلمان التصويت بأغلبية الثلثين على عزل الرئيس، والثلثين من المحكمة الدستورية، حال انتهاك الرئيس للدستور بخرق جسيم.

الخرق الجسيم الذي ارتكبه أستاذ القانون الدستوري، بخلاف رفضه تمرير قانون تأسيس المحكمة الدستورية وتعطيل المسار الديمقراطي واكتمال بناء المؤسسات لمصلحة شخصية؛ هو رفض التصديق على تعديل وزاريّ كان قد أقره البرلمان، وهو ما يعد خرقاً للدستور، كان شقيقه، نوفل سعيد، أستاذ القانون الدستوري أيضاً، قد أبدى مخاوف من استخدامه ضدّ الرئيس.

إذاً بفضل قرارات سعيِّد التي لا تمتّ للقانون أو للشرعية بصلة، صار في تونس برلمانٌ شرعيٌ منتخبٌ يعمل في الفراغ، لأن الرئيس أمر بتجميده، ورئيس يرأس النيابة العامة، من دون موافقة القضاء، وقلاقل في المؤسسة التنفيذية والجيش، ودستور في شبه العدم؛ فماذا تبقى من سيادة القانون التي هي الضمانة الرئيسية لحماية المجتمع من الاقتتال والفوضى كما هو منصوص عليه في مقدمة أي كتاب تأسيسي في القانون الدستوريّ؟

كل الطرق تؤدي إلى الاستبداد!

قيس سعيّد هو ديكتاتورٌ مثالي، ديكتاتور كما تقول كتب تشريح المستبدين نفسياً. لا زال سعيّد، كما يبدو من خطابه، حبيساً لنموذج الديكتاتور الناصريّ، في حقبة ما بعد الاستعمار والملكية، من حيث الرغبة في الاستحواذ على كلِّ السلطات، وتبني خطاب قومي عروبيّ، ذي ميول اشتراكية شعبويّة (يريد، بشكل تبسيطيّ، أن يأخذ من الأغنياء ويُعطي الفقراء)، ويحارب الرجعية بمكافحة الإسلاميين.

أقربُ أصدقاء سعيّد في الخارج، هو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. يُكنُّ له سعيّد إعجاباً واضحاً، تمثل في الحفاوة المتبادلة خلال زيارته إلى مصر، والتي اصطحب المسؤولون المصريون خلالها الرئيس التونسيّ إلى الأماكن التي تتناسب مع شخصيته، منطقة قناة السويس، حيث الاشتباكات التاريخية مع الاحتلال الإسرائيلي، والقاهرة القديمة، وقد دعا سعيّد السيسي أيضاً إلى زيارةٍ مماثلة في تونس.

بمجرد أن عاد من رحلته إلى مصر، تحول خطابُ سعيد من خطاب ناقدٍ للإسلام السياسي، على أرضية سياسية وفكرية، إلى خطاب استئصاليّ عدائيّ تكفيريّ، حيث صرح، بعد لقائه السيسي، في مسجد الزيتونة بتونس، أنّ هناك مسلمين، وهم عموم الأمة، وهناك "إسلاميون"، في صيغة استنكاريّة مستمدة من قاموس السيسي.

من يرى ما حدث في الساعات الأخيرة قبل وخلال وبعد قرارات سعيّد، سيجزم أنها، مع كونها إجراءات انقلابية واضحة، فإنها متأثرةٌ كثيراً بالتجربة المماثلة في مصر: حرق مقرات الإخوان، احتلال الشارع لإظهار التأييد الشعبيّ، الاجتماع بقادة الجيش والأمن على الهواء خلال بيان الانقلاب، اللغة المتشنّجة الصارمة في تلاوة النصّ، مشاهد إلقاء الإسلاميين لخصومهم من البنايات، غلق قنوات المعارضة، ولكنّ الأغرب على الإطلاق هو هتاف سعيّد في شارع بورقيبة وسط مؤيديه: تحيا تونس، ثلاث مرات، وقد أذيعت الإجراءات تحت لافتة: "إنقاذ تونس"، كما أشار "مجتهد" قبل عام.

المؤكَّد أنَّ الرئيس التونسيَّ قد نسق هاتفياً مع قيادات الدولة السعودية قبل قراراته الأخيرة بحجة طلب مساعدات طبية عاجلة للتعامل مع تفشي الوباء، هذا معلومّ رسمياً، فبالنسبة لسعيّد القوميّ، السعودية الحالية تختلف كثيراً عن سعوديّة منتصف القرن الماضي التي كانت تستثمر في "الرجعية" وتقف في صفّ الاستعمار.

لكنَّ الجديد كما كشفت "ميدل إيست آي"، التي نشرت تفاصيل الانقلاب بالكامل قبل شهرين من تنفيذه نقلاً عن وثائق تخصّ مستشارة سعيّد في رئاسة الجمهورية السيدة نادية عكاشة، أن خبراء أمنيين، من مصر والإمارات، ما زالوا موجودين في تونس، للإشراف على خطة تنصيب الفرعون الجديد التابع لهم، قيس سعيّد، ووفقاً لبعض المصادر، فقد طالب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من الرئيس التونسي سرعة إخراج هؤلاء الخبراء من البلاد، تمهيداً لإجراء حوار وطنيّ مثمر، خلال زيارته الأخيرة إلى تونس.

وعلى خُطى السيسي وبن سلمان، يخطط سعيّد، حسبما يمكن قراءة تلويحاته الأخيرة، بمذبحةٍ لرجال الأعمال والمستثمرين المعارضين، كما فعل وليُّ العهد السعودي في فندق "ريتز كارلتون" من قبل، وكما فعل السيسي مؤخراً، وذلك من أجل الإيحاء بمحاربة الفساد، والحصول على تمويلات عاجلة للموازنة الحكومية، وتعزيز سلطاته كحاكمٍ أوحد للبلاد، وتجفيف منابع المال السياسيِّ لخصومه.

الاقتصاد التونسيُّ على خُطى نظيره المصريّ

في زيارته إلى مصر، أبدى الرئيس التونسيّ قيس سعيّد إعجاباً بما سماها "التجربة المصرية" في إدارة الاقتصاد وفقاً لبياناتٍ رسمية متبادلة بين الجانبين تعليقاً على اللقاءات التي جمعت بينهما في القاهرة.

التجربة المصرية في الاقتصاد، لمن لا يعلم، تقوم حتى الآن على تعزيز السلطوية الفردية وترحيل المشكلات، أي أنها ليست استراتيجية اقتصادية بحتة، ولكنها استراتيجية اقتصاد سياسي بالدرجة الأولى.

يقبض الجيش على كلّ مفاصل الاقتصاد حتى الآن، من أجل تعزيز تفرد الرئيس العسكريّ الذي يرى، ويرسخ رمزياً وإجرائياً، إلى مسلمة أنه اختيارُ الجيش، وأنه والجيش، وجهان لعملة واحدة. كما يتوسع النظام في الاقتراض، وتوزيع القطاعات الاستثمارية الأساسية على الدول الكبرى، من أجل ربط مصالح الخارج باستقرارهِ في الداخل، وتوجيه جزء كبير من أموال القروض إلى مشروعات المقاولات التي يشرف عليها الجيش، من أجل إيجاد مسكناتٍ متتالية (غير مستدامة) لوجع البطالة وعدم التشغيل، وربط الجيش، عضوياً، بمشروعات الرئيس ورؤيته السياسية.

في تونس، من المستبعد أن يكون الجيش محوراً لتنفيذ السياسات الاقتصادية التي تسيطر على عقل سعيّد، نظراً لأنّ الجيش التونسيَّ لا يشبه الجيش المصريَّ من حيث التغلغل في الواقع الاجتماعي ومفاصل الدولة العميقة واحتكار العنف.

ولكنَّ التقاطعات المنتظرة بين التجربة التونسية المرجوة وبين نظيرتها المصرية الماثلة، ستكون، حال نجاح الرئيس سعيد في تثبيت أركانه هي: الاعتماد على المساعدات الخارجية من الخليج، والاقتراض من صندوق النقد الدولي، وبرامج التقشف ورفع الدعم لخفض الدين وعجز الموازنة، وتنفيذ إجراءات انتقامية ضد رجال الأعمال غير المتعاونين مع النظام الجديد.

تخطط تونس بالفعل إلى الحصول على قرض ضخم، قياساً على حجم الاقتصاد التونسي، من صندوق النقد الدولي، بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي، بحلول نهاية العام، ومن الواضح أن سعيّد قد تجنب، إلى الآن، الموافقة على اقتراح مستشاريه، كما ورد في وثيقة "ميدل إيست آي"، بتقديم حوافز عاجلة للشعب التونسي، خوفاً من عواقب هذه القرارات على الاقتصاد المترنح أصلاً.

الاقتصاد التونسيُّ اقتصادٌ محدود شديد الهشاشة، يقوم على التجارة والسياحة، بلا أي أفق صناعي أو نفطيّ جادّ، ومن ثمّ، فمع الوضع السيئ المهيمن على معدلات أداء هذا الاقتصاد، وبالأخص في عام كورونا، الذي ضرب قطاعي السياحة والتجارة، وبذور مشروع ديكتاتور جديد متأثر بأصدقائه الزعماء في المنطقة، ونوايا الانتقام من المستثمرين؛ فإنّ الاقتصاد التونسيّ مقبلٌ على سنوات صعبة للغاية، قد تنقذه السياسات الجديدة المقترحة من "الانهيار"، ولكنّها لن تُحدث فارقاً إيجابياً في مستوى معيشة المواطنين، إن لم يكن الأمر أسوأ من ذلك، إذ تضمنت وثيقة الإصلاحات المقدمة من حكومة المشيشي إلى صندوق النقد الدوليّ تخفيضاً واضحاً في أبواب الأجور والإنفاق على الدعم.

في نفس السياق، وبالقياس على ما حدث في مصر، فإنّ المساعدات الخليجية المتوقعة لدعم قيس، حال استمراره في مسار الاستبداد وحكم الفرد، ستؤدي إلى ضرب استقلالية القرار السياديّ التونسيّ في مقتل، وتعزيز الزجّ بتونس في الصراعات الخارجية لمصلحة تلك الأنظمة الداعمة له بـ"الرُّز" (الأموال الخليجية).

كما هو معلومٌ فإنّ الإمارات تضخّ ملايين الدولارات عبر سفارتها في تونس إلى النخب المحلية على الأرض، وقد كشف تحقيقٌ استقصائي سريع أنها ضالعةٌ، أيضاً، في دعم الرئيس التونسيّ في الواقع الافتراضيّ من خلال ما يعرف بـ"الذباب الإلكترونيّ" والوسوم المنتحلة.

لكنَّ الدور البادي إلى العلن بوضوح في هذه الأزمة، هو الدور "السعوديّ"، فبخلاف مكالمات سعيّد المشار إليها لقيادات الدولة السعودية، فقد أصدرت الرياض بياناً رسمياً داعماً لإجراءات سعيد الحمائية للدولة، تقول فيه إنها "تثق في القيادة التونسية"، كما أجرى وزير الخارجية والهجرة التونسيّ اتصالاً بنظيره السعوديّ فيصل بن فرحان خلال الساعات الأولى للانقلاب.

في مصر، أخذت تلكما الدولتان مقابل مساعداتهما المالية للنظام "على داير الملّيم (جزء من الألف في الجنيه)" كما يقول المصريون، فقد استحوذت الرياض على جزيرتين استراتيجيتين كانتا تابعتين لمصر بعد أن وافق السيسي على تسليمهما للمملكة السعودية، تيران وصنافير، واقتحمت أبوظبي بنفوذها قطاعاتٍ حيوية في القاهرة مثل صناعة الدواء وخدمات القطاع الصحّيّ، والآن، يبقى السؤال: كم ستبذل الدولتان من مال من أجل وأد التغيير في بلد ثورة الياسمين، مفجرة ثورات الربيع العربي؟ وماذا ستجني الدولتان من نفوذ ومصالح في المقابل؟ علماً بأن الرياض كانت قد اتخذت موقفاً في منتهى العداء للثورة التونسية بإيواء الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في ديارها حتى الموت.

ضرب السلم الاجتماعيّ

ما فعله السيسي من قبل في مصر، ويخطط سعيّد إلى فعله في تونس، ليس حفاظاً على الاستقرار بالمعنى الحقيقي، المعنى الذي يلتمس تحقيق أكبر قدر ممكن العدالة وسيادة القانون وشيوع التسامح بين أبناء المجتمع، وإنما عملية تكدير، أو تخدير، للمجال العام.

يخطط سعيّد "اللامُنتمي" كما يبدو، إلى عزل الإسلاميين في جهة، وجعل بقية الشعب التونسي في جهة أخرى، كما قال في المسجد من قبل، مع التحريض على احتمال حدوث مواجهة بين الدولة التونسية والإسلام المتشدد، تقتضي تضييقاً تدريجياً على الحريات العامة والمدنية.

ما زرعه سعيّد من انقلاب مدعوم خارجياً على الديمقراطية التي جاءت بالإسلاميين، قد يؤدي، على الأرجح، إلى موجةٍ محتملة من العنف في مناطق معينة بتونس، بعد تأكيد السردية الداعشيّة عن أنَّ الغرب، ووكلاءه في الداخل، لن يسمحوا بحكم الإسلاميين، حتى لو تنازلوا عن معظم ثوابتهم، حتى لو هادنوا الجميع، ولعلَّ ذلك يفسر حبور الدواعش وشماتتهم في "إخوان تونس"، تحت لافتة: "مش قُلنا لكم قبل كده؟".

الانقلاب على الديمقراطية التي جاءت بالإسلاميين في تونس جاء متزامناً مع ربيع حركتين إسلاميتين قالتا، على نحو ما، إنَّ الصناديق لابدّ لها من قوةٍ تحميها، هما حركة حماس، التي نفذت ما يعرف بالحسم العسكريّ ضد عناصر فتح من قبل منذ حوالي 15 عاماً وهو ما ضمن لها استدامة المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال كما رأينا في تصعيد مايو/أيار الأخير، والثانية هي حركة طالبان التي باتت تسيطر على مناطق واسعة من أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكيّ في جنح الليل قبل أيام.

لذلك، فإنَّ الرسالة التي ترسلها إجراءات سعيّد إلى القواعد الجماهيرية لخصومه الإسلاميين، أنَّ أيَّ نضال سلميّ جماعيّ سياسيّ غير مدعوم بقوة عسكرية، ستتمُّ الإطاحة به، ولو كان بعد ثورة هادرة، ولو كان الرئيس أستاذاً للقانون الدستوريّ، ولو كان ذلك السيناريو المقبض قد تكرر في أماكن سابقة، ومن المعلوم أنّ تونس بالرغم من انفتاحها الثقافيّ والاجتماعيّ تُعد واحدة من أكبر الدول المصدرة "للجهاديين" في العالم، قياساً على عدد السكان، إن لم تكن الأكبر على الإطلاق.

ومن اللافت أيضاً أنَّ الساحة الليبية قد شهدت زخماً سلبياً ملحوظاً بالتزامن مع إجراءات الرئيس التونسي؛ فقد أيد "الحفاترة" إعلان الحرب المدعومة خليجياً على الإسلام السياسيّ في البلد الجار، وتخلص حفتر في الساعات الأخيرة من أحد أبرز الملفات التي كانت تؤرقه، عصابة "الكانيات" المتورطة في جرائم قتل جماعيّ مرصودة دولياً، وأعاد رئيسُ برلمان طبرق عقيلة صالح حليف حفتر فتحَ النار على حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، مهدداً بإعلان حكومة موازية جديدة في الشرق، أي انقلاب جديد.

وفي كلِّ الأحوال، قد تَحُول عوامل أخرى غير محسوبة دون تدهور الأمور في البلد الشقيق تونس إلى ما تذهب إليه المقالة؛ ولكنّ المؤكد، أنّ الرئيس التونسيَّ قيس سعيّد قد قدح شرارة التوتر في البلاد ووضع المجتمع في موقف لا يحسد عليه، مستغلاً "حالة الاستثناء" التي يعد جانب منها حقيقياً وآخر مصطعناً، ومقدماً مصلحته الشخصية ونوازعه الذاتية على مصلحة الأمة التونسية، وكم نتمنى أن يكون هذا التحليل خاطئا لأي سبب وبأي طريقة، وأن تنجو تونس مما يحاك لها، في الداخل والخارج.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد